صيادو اليمن.. أحزان العالم كلها تحدث هنا

 

في مرفئ ميناء الحديدة ترسوا قوارب الصيادين الملونة بألوان زاهية، تختلط مع زرقة البحر لتعكس مشهدا غاية في الجمال من النادر أن تجد له مثيلاً. لكن خلف الألوان الزاهية للقوارب هناك الكثير من القصص المخضبة بالدم وألوان الألم، يعاني منها الصيادون اليمنيون ولا يشعر بها أحد.

رحلة نحو المجهول

مع بزوغ الفجر يأتي الصيادين إلى المرفأ ليتأهبوا لرحلة صيد جديدة، بحثاً عن الرزق لإطعام أسرهم، متوكلين على الله في رحلة يدركون انها محفوفة بالمخاطر قد يذهبون فيها ولا يعودون.

منذ بدأ شرارة الحرب على اليمن، في مارس ٢٠١٥ تضاعفت معاناة الصيادين، حيث فقد 100 ألف صياد مصدر دخلهم بسبب تحويل البحر إلى ساحة معارك من قبل التحالف.

مع غروب الشمس وهبوط الظلام على البحر والمدينة يعودون برزقهم المكتوب إلى المرافئ ليتم بيعة على المشترين في “الحراج”، وعلى الشاطئ يبقى الأولاد الصغار ينتظرون ابائهم والقلق يعتري الصغار من إمكانية أن يسقط ابائهم ضحايا لنيران الطيران والبوارج الغاضبة في عرض البحر.

حكايات القتل والموت جوعاً تتربص بالصيادين

ومع كل رحلة هناك حكايات عن الموت المتربص بالصيادين الفقراء، بعد أن تكاثرت أسباب القتل والاعتقال، والتي إن لم تحدث على يد قوات التحالف، فإنها قد تحدث على يد القوات الارتيرية، أو قوات بحرية أخرى تابعة للدول المطلة على البحر الأحمر، والتي أصبحت جميعها ترى في الصيادين اليمنيين هدفاً سهلاً.

يقول الصيادون في حديثهم لـ “وكالة الصحافة اليمنية” أن ” طائرات و بوارج  التحالف تقوم بقذف حمم الموت عليهم دون اي تحذير، رغم أن الصيادين يقومون برفع رايات بيضاء، تؤكد بأنهم مدنيين، إلا أن الطيران والبوارج الحربية تصر على قصفهم”.

تسبب قصف التحالف على قوارب الصيادين في تضرر الآلاف منهم، وتوقف الكثير بسبب فقدانهم للقوارب وعدم استطاعتهم استبدالها لمواصلة الصيد والبعض منهم توقف خشية من قصف طيران وبوارج التحالف أو التعرض للاعتقال، وخلال الأسابيع الثلاثة الماضية تزايدت قصص اعتقال الصيادين من قبل القوات الأمريكية والسعودية، حيث يتعرض الصيادين للاحتجاز والتعذيب  بمبررات تتعلق “بتهريب أسلحة”، رغم أنه لم يسبق أن تم ضبط أي قوارب صيد تحمل أي نوع من الأسلحة منذ بدء انطلاق الحرب في مارس 2015.

ويضيف الصيادين أنهم أصبحوا يتجنبون الذهاب إلى رحلات بعيدة في أماكن توافر السمك، خوفاً من التعرض لنيران قوات التحالف، مضيفين بأنهم باتوا يفضلون الذهاب إلى أماكن قريبة لا تبعد أكثر ٣٠ميلاً وهي مسافة صغيرة قياساً بالرحلات التي اعتادوا عليها قبل الحرب والتي كانت تصل إلى 100 ميل في أماكن تتواجد فيها الأسماك بكثرة.

خيار وحيد

يقول الصياد “م. ر” ٤٥عاما الذي فضل عدم الكشف عن هويته خوفا من التعرض للاعتداء من قبل قوات التحالف، أنه اختار أن يخاطر بحياته من أجل كسرت خبز تسكت جوع أسرته المكونة من ثلاث اولاد وبنتان وزوجته.

لا يمتلك “م.ر” أي خيارات أخرى لإعالة أسرته سوى  الأجر الزهيد الذي يحصل عليه من صيد السمك، بدلا من الاستسلام للجوع، نظراً لانعدام أي فرص أخرى للعمل بسبب الحرب والحصار الذي تتعرض له البلاد.

يتذكر م. ر في حديثه لـ “لوكالة الصحافة اليمنية” إحدى جرائم التحالف التي كان شاهداً عليها  خلال إحدى رحلات الصيد، والتي أدت إلى مقتل عدد من رفاقه الصيادين أمام عينيه، عندما قامت طائرة حربية تابعة للتحالف بإطلاق وابل من الرصاص والصواريخ على قوارب الصيادين، ونجى منها “م.ر” باعجوبة؛ لأن قارب الصيد الذي  يتواجد فيه  كان على بعد أمتار من القوارب التي تعرضت للقصف.

توقف “م.ر”  عن ارتياد البحر لأكثر من  ستة أشهر بعد هذه الجريمة المروعة التي يقول أن “ذكرياتها  تقتله كل يوم من أثر الصدمة التي شهدها واصحابه يقتلون امام عينه، وهو يسمع  صرخاتهم في اذنة، لكن معاناته تزايدت أكثر حين توقف عن الاصطياد، حيث لم تفلح محاولاته للبحث عن عمل آخر يعيل به أسرته  لكنه، وتكاثرت علية الديون لتدفعه إلى العودة للصيد في رحلة صراع مع الفقر، وختم كلامة قائلاً ” أتوقع في اي لحظة أن ألقى حتفي في البحر مثل اصدقائي الذين قتلوا بدون اي ذنب.. ذنبهم الوحيد أنهم يبحثون عن رزقهم الزهيد”.

وعود الأب الفقير

 ذات صباح مشرق بالأمل من أغسطس عام 2018 ودع الطفل أنس والده الذي كان متجها إلى البحر بحثاً عن الرزق، مضت فترة على أنس وهو يلح على والده ليشتري لعبة سيارة صغيرة، عند الباب، حمل أنس أمنيته واتجه إلى والده وقال ” اشتري لي سيارة صغيرة لألعب بها” وبقلب الأب الذي يدرك أن طلب طفله بسيط، رد عليه: لو اصطدت الكثير من السمك سأشتري لك اللعبة.

أخذ أنس ينتظر والده بفارغ الصبر، لم يكن الطفل يعلم أن نبأ مقتل والده في غارة لطيران التحالف استهدفت زورقاً للصيادين قبالة ساحل الحديدة، ولم يكن يعرف سبب نحيب أمه المتواصل أو ما هو الموت.

بعد أربعة أيام من وجع الأم واشتياق الطفل، وصل الوالد جثة هامدة متفحمة، هنا فقط أدرك أنس أن شيئا خارج عن العادة قد حصل، والده الذي غادر المنزل بقوة صياد يتحدى الأمواج، أصبح الآن محترقًا لا ملامح ولا تفاصيل من تلك الصورة التي رحل بها، غادر الأب الحياة وغادرت معه أمنية أنس بالحصول على لعبة.

يحكي أنس قصته وقد أصبح في الـ 12 من العمر، شعرنا بغصته، بحزنه، بلحظات استذكار وعد اللعبة وموعد القدر، لم يتمالك نفسه، فجهش بالبكاء بحرارة، لم نستطع أن نمنع زخات الدموع التي سالت من عينيه، بعد وقت طويل نجحنا في ذلك، لكننا إذا أردنا أن نمحو ذلك المشهد من ذاكرته، سنفشل، كما فشلت البوارج في اختبار الإنسانية.

شارات بيضاء

يلوح الصيادون اليمنيون بخرق بيضاء، على أمل أن تستوعب الات القتل المتربصة في البحر أنهم مجرد صيادون مدنيون، إلا أن بوارج وطائرات التحالف، لا تبدي أي مبالاة لاتباع أي معايير تفرضها قواعد القانون الدولي لمراعاة حماية المدنيين، وبالنسبة للتحالف أنهم مجرد مواطنين يمنيين لا يستحقون أن يكترث لهم أحد، لتختلط دماء الصيادين اليمنيين مع مياه البحر شاهدة على واحدة من أسواء حقب التاريخ في انتهاك حقوق الإنسان.

حيث أثبتت تحقيقات فريق الخبراء الدوليين والاقليميين الذي تم تشكيله من قبل مجلس للتحقيق في انتهاكات حقوق الانسان في، أن “التحالف ارتكب جرائم حرب بحق المدنيين في اليمن” قبل أن يتم توقيف مهمة الفريق بضغط سعودي من قبل مجلس حقوق الانسان في يوليو الماضي.

 

تحقيق / إعلا نبيل

قد يعجبك ايضا