اليمن… سنوات التحوّل السبع

خلال سبع سنوات انقلب المشهد الاستراتيجي في المنطقة، لتتحول السعودية من مصدر القوة والتهديد إلى ملاكمٍ خائر القوى يترقب الضربة القاضية.

قبل سبع سنوات تماماً، وفي ليل الـ 25 من آذار/ مارس 2015، أطلقت المملكة العربية السعودية ما سُمّي “التحالف العربي” ضد فئات وازنة من الشعب اليمني وحركة أنصار الله والجيش واللجان الشعبية. يومها تمّ ترويج هذا التحالف على أنه يهدف إلى “دعم الشرعية”، ويُقصد بالشرعية طرف دون غيره، ضمن بيئة سياسية يمنية متشظّية، تمّ في سياقها تصنيف الطرف الآخر على أنه حليفٌ للجمهورية الإسلامية في إيران، وجُمعت في “التحالف” الدول التي ترغب في مواجهة النفوذ الإيراني في الإقليم. لكن انطلاقة التحالف على أساس هذا التصور للأزمة اليمنية اختزلت الكثير من الحقائق الأساسية التي تعبّر فعلياً عن عمق تلك الأزمة، وتفاعلاتها الداخلية، والصراع السياسي القائم قبل اندلاع الثورة.

وإضافة إلى ذلك، فإن هذا التصور كان يتضمن اعتبار السعودية الأراضي اليمنية أهم مساحة في شبه الجزيرة العربية على الإطلاق من الناحية الاستراتيجية. فاليمن يقع على السواحل الشرقية لشبه الجزيرة، يشكل بامتداده واجهةً كبيرة وبوابتين، تقف الواجهة بطولها الكبير في وجه المحيط الهندي، بينما تراقب البوابتان حركة التجارة العالمية الداخلة إلى الخليج من الجهة الشمالية، وإلى البحر الأحمر من الجهة الجنوبية.

موقعٌ استراتيجي بالغ الأهمية، وتاريخٌ عميق شديد الأثر في شبه الجزيرة كما في الوجدان السعودي نفسه، وفرص كبيرة لشعبٍ مقهورٍ لكنه بطل بكامل معاني البطولة، كلها عوامل جعلت من اليمن هدفاً للسعودية وحلفائها، الذين أطلقوا حرباً هستيرية دمرت من أيامها الأولى البنى التحتية الأساسية في الكثير من المناطق اليمنية، وهدمت البيوت على رؤوس ساكنيها، لتصبح مشاهد الأطفال بين الركام مشاهد اعتيادية في نشرات الأخبار طوال الأعوام الماضية، وفي الحين نفسه، لم يمتلك الشعب اليمني وأنصار الله القدرات الكافية لإجبار التحالف على وقف عدوانه، ولم يعبّر اليمنيون يومها عن رغبةٍ بضرب الداخل السعودي بصورةٍ فاعلة ومؤذية.

يومها أيضاً، كان المشهد يعبّر عن قوةٍ إقليمية طاغية، تحشد إلى جانبها قوى أخرى ترتبط بها بمصالح مختلفة، لتشنّ جميعاً حرباً غير منضبطة، قيمياً وأخلاقياً، على فئةٍ قليلة من شعب في فقر مدقع، وقدرات ضئيلة. لقد كانت معركةً محسومة النتائج على الورق، حتى بان الانتصار فيها سهلاً. لكن ذلك كان قبل سبع سنوات.

وبعد السنوات السبع، ينظر المراقب إلى اليمن، فيجد قواه الحيّة شديدة البأس والقدرة. وعلى الرغم من الدمار الكبير الذي ألحقه العدوان بحجره ومرافقه وعمرانه، لم يتمكن التحالف من تدمير الإرادة اليمنية، وهي الميدان الحقيقي للحروب، حيث إن الحرب بصورة عامة تحدث من أجل تطويع الإرادة أو كسرها.

لقد أرادت السعودية في عام 2015 تدمير قوة اليمنيين وفرض خيار سياسي محدّد عليهم، فرضاً خارجياً لا يعبّر عن إرادتهم وعن توازنات مجتمعهم. وقد بدت حينها قادرةً على فعل ذلك، مستندةً إلى 14 دولةً أعلنت مشاركتها في التحالف. لقد اعتبرت حينها أن تهديداتها لليمنيين مطالب مشروعة من دولة أكثر قدرة، ويمكنها أن تفرض ما تريده بالقوة، وأن تهدّد أمنهم على كل شبرٍ من اليمن. لقد كان أمن اليمنيين على المحك في ذلك الوقت، وعزّ ناصرهم.

انقلاب الصورة

أما اليوم، فليس أمن السعودية على المحك فحسب، بل إن كل قدراتها تبدو هشّةً ومهدّدة أمام ضربات اليمنيين الموجعة والدقيقة بإحكام وتخطيط.

ففيما كانت السعودية تختار أهدافها في الداخل اليمني، وترسم مطالبها على هوى الأذى الذي تحققه من هذه الأهداف، وتحصّن نفسها بالتحالف العريض، وخلفه الولايات المتحدة الأميركية، ها هي اليوم تبدو وحيدةً في حرب مستحيلة الانتصار، بينما تخلّى عنها معظم قوى العدوان، وبدأت قوى أخرى تستخدمه ضدها كنقطة ضعفٍ وهوّة كبيرة في مجال قياس قوتها.

وبعد أن كانت تهدّد أخصامها من الدول الكبيرة، تبدو اليوم دولة غير قادرة على تأمين نفسها من ضربات منظمات شعبية، معظم قدراتها ذاتية التصنيع والإدارة.

وقد تبيّن أن المملكة استثمرت أكثر من 500 مليار دولار مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لتثبيت ولاية عهد محمد بن سلمان، بدلاً من الاستثمار في تحقيق أمنها الاستراتيجي.

تبدو السعودية اليوم أحوج ما تكون إلى تسوية توقف الحرب، وهي تبدو أكثر حاجةً إلى التعاون مع طهران، وأكثر تقبّلاً لحقيقة الوضع في اليمن، بما في ذلك قبول قوة أنصار الله وموقعهم في المعادلة اليمنية.

وفيما يبدو أيضاً، تظهر سلطة ابن سلمان هشّة جداً، تضعفها مشكلات العائلة الحاكمة، والنزاع، وغياب الودّ مع بايدن. والهشاشة الأمنية هذه يردّ عليها الأمير الطامح بالعنف الداخلي وحفلات الإعدام الهستيرية.

لكن على مدى أكثر واقعية، يبدو واضحاً أن حكم ابن سلمان معرّض للانهيار الدراماتيكي الشامل في أيّ لحظة.

الأمير الحاكم، بأمر ترامب، يمكن أن يجد نفسه في لحظة واحدة في موقف شبيه بموقف من جمعهم في “الريتز”. كثيرون من ينتظرون ذلك في المملكة وخارجها.

يضرب أنصار الله “أرامكو” والمواقع السعودية التي يختارونها، مهما كانت أهميتها، بكامل الراحة واليسر، لكنّ خوف السعوديين ليس من ذلك فحسب. ليس خوفاً من الأحداث الجارية بحدّ ذاتها، بل من الاحتمالات التي ترد في الأذهان: ماذا لو ضرب الحوثيون محطات التحلية والكهرباء؟ ماذا لو استهدفوا بنك الأهداف الاستراتيجية للمملكة، والذي يتضمن المرافئ والمطارات وأسواق الأعمال؟ هذه احتمالات كارثية في حال استمرار العدوان، فهل تتعقّل الرياض وتُنهي عدوانها؟

قد يعجبك ايضا