الهجرة النبوية ..نقطة تحول في تاريخ البشرية والواقع العالمي

مناسبة الهجرة النبوية حدث تاريخي عظيم ارتبط بها تاريخ الإسلام ومثلت نقلة عظيمة ومهمة جداً نتج عنها تحول في الواقع العالمي وفي الواقع البشري وترتب عليها نتائج مهمة جدا، ونحن كأمة مسلمة وكشعب يمني مسلم نحن أحوج ما نكون إلى أن نستلهم في هذه المحطات التاريخية ما نحن في أمس الحاجة إليه فيما نواجه من مشاكل وتحديات وأخطار كبيرة.

لقد أصَّلّت الهجرةُ النبويةُ لخاتم الأنبياء والمرسلين مُحَمَّـد (صلواتُ الله عليه وعلى آله) لمرحلة جديدة، وأرست معالمَ عالم جديد، عالَمٌ يقودُه مُحَمَّـدٌ صلواتُ الله عليه وعلى آله غيَّرَ فيه كـُـلَّ ما كان سائداً من حالة الكفر والشرك والظلام والضلال، والجهل والفساد، والتخلف والتناحر في المنطقة العربية، ومن ثم امتدت أنوارُ هذا الهدى، ومعالمُ هذا الدين ومهامه وقيمه إلَـى أنحاء المعمورة..

 لقد حدَثَ في الهجرة النبوية أَن مجتمعاً خسر، ومجتمعاً فاز، مجتمع مكة الذي لم يستجب للإسْلَام، ولقيم الإسْلَام ومبادئ الإسْلَام، ولم يلتف حول الرَّسُـوْل مُحَمَّـد (صلواتُ الله عليه وعلى آله) وحول راية الإسْلَام، باستثناء القليل الذين آمنوا وثبتوا ثم هاجروا وصبروا، لكن مجتمعاً آخر هو مجتمع يثرب، حيث الأوس والخزرج، حيث الأَنْصَـار، الذين سماهم الله، وسماهم الرَّسُـوْل بالأَنْصَـار، مجتمعاً آخر فاز هو بأن يحمل راية الحق راية العدل، راية الهدى راية الإسْلَام، وأن يكونَ هو المجتمع الذي تتكونُ فيه نواةُ الأُمَّة الإسْلَامية والمجتمع المسلم، فيحتضنُ الرسالةَ، ويحضن الدين، ويحتضن الهُدى، ويحتضن نورَ الوحي..

 وبجهود المؤمنين مع رَسُـوْل الله صلوات الله عليه وعلى آله، بجهوده العظيمة، وجهود المؤمنين معه من المهاجرين والأَنْصَـار، تمكن الرَّسُـوْل صلوات الله عليه وعلى آله بنصر الله، بتأييد الله، من تغيير الواقع في المنطقة تغييراً جذرياً وعجيباً، يدلل على عظمة الإسْلَام الحق في حقيقته الناصعة العظيمة المؤثرة المشرقة البناءة

 والهجرة هي إرادة، وهي عزم، وهي تصميم، وهي ثبات على المبادئ والقيم، وهي رمزٌ للتضحية والعطاء، ولذلك تبقى الهجرة النبوية محطة تَأريخية مهمة، تستلهم منها الأُمَّةُ الدروسَ التي هي بحاجة إليها، دروساً تزيد من عزمها وصبرها ووعيها وثباتها وعطائها إلَـى آخر ذلك.

 البيت الحرام

 الحاضن لمشروع الرسالة الإلهية

﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾،

الله “سبحانه وتعالى” أعدَّ مكة والبيت الحرام لتكون المنطلق المهيَّأ للرسالة الإلهية الخاتمة، فالله “سبحانه وتعالى” جعل نبيه إبراهيم “عليه السلام” يودع في مكة المكرمة من يقوم برعاية البيت الحرام، ومن يتولى هذا المركز الديني العظيم والمهم من نسْله، وهو ابنه إسماعيل “عليه السلام”؛ ليمتد هذا النسل عبر الأجيال بكلها وصولاً إلى رسول الله محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” الذي بعثه الله بالرسالة خاتم النبيين، وسيد المرسلين.

 فمكة المكرمة أعدَّها الله لتكون المنطلق، والتي توفرت فيها كل العوامل المطلوبة:

أولاً: الفرع الإبراهيمي، إسماعيل “عليه السلام” وذريته من بعده، وفي هذا الفرع حفظ الله هذا الامتداد للدين الإلهي ضمن هذا الفرع، كان هناك عبر الأجيال من يحافظ على هذه القيم، من هو مستودع لهذه المبادئ والقيم العظيمة، من يجسِّدها، من يلتزم بها جيلاً بعد جيل.

العامل الآخر: المركز الديني في مكة:

 بوجود البيت الحرام، وبقيت فريضة الحج قائمة في أوساط الأجيال جيلاً بعد جيل، من بعد نبي الله إبراهيم “عليه السلام” .

العامل الثالث: الاستقرار الاقتصادي والأمني الذي تميَّزت به، بينما كان محيطها بكله يعيش حالة المشاكل الكبيرة.

 على المستوى الأمني: كان هناك حروب بشكل مستمر بين القبائل العربية في محيط مكة، وحالة من الخوف والمشاكل المستمرة، وكذلك حالة من الاضطراب الذي عمّ، وحالة من الفوضى الكبيرة.

  على المستوى الاقتصادي: كان هناك مشاكل وأزمات ومعاناة اقتصادية بالذات في شبه الجزيرة العربية، القبائل التي تعيش هناك كقبائل أكثرها تعيش حالة البداوة، وتعيش الظروف الصعبة، في مكة كان هناك استقرار اقتصادي، دعوة إبراهيم “عليه السلام” وضمن التدبير الإلهي .

واقع مظلم يرفض النور

قبائل قريش ومن حولهم أتيحت لهم فرصة لا يساويها فرصة أبدا لنيل شرف عظيم لأن يكونوا في طليعة البشرية في حمل راية الإسلام في أن يستنيروا بنوره وأن يتخلصوا مما هم فيه من واقعٍ:

مليء بالظلم،

ومليء بالخرافات،

وغارق تحت سيطرة الطاغوت،

لكن موقفهم كان خاسرا وخاطئا وخائبا لقد تعاملوا تجاه هذه الرسالة، وتجاه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين بكل كفر وجحود وتنكر مع وضوح مصداقية وعظمة ونقاء هذه الرسالة كما قدمها الرسول ـ صلوات الله عليه وعلى آله ـ ومع ما يعرفونه عن رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله من:

كمال ومن مكارم الأخلاق،

 وفيما عرفوه به من مصداقية لا نظير لها،

 ومن أمانة لا مثيل لها في واقع البشرية جمعاء،

 وفيما عرفوه عنه من اتزانٍ ورشدٍ وذكاءٍ وصلاح واستقامة وسداد يتميز به عن كل الناس،

 مع هذا وذاك اتجهوا حتى بعد الآيات المعجزات والدلائل الواضحات والبراهين النيرات التي تثبت صدقه في نبوته ـ صلوات الله عليه وعلى آله ـ في أنه رسول من الله في أنه يبلغ عن الله ابتعثه هاديا ورسولا ونبيا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا إلى آخر ذلك، مع كل ذلك وقفوا موقفا يتسم بالعناد والنكران لهذه الرسالة والتصدي لها.

منتهى الرفض والعناد

مجتمع مكة بلغ في عناده و جحوده في أكثريته إلى درجة أن البعض منهم توجهوا إلى الدعاء إلى الله قائلين كما حكى القرآن الكريم عنهم ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾قالوا خلاص نحن لا نريد هذا الحق أبدا وإذا كان هو الحق من عندك يا الله يدعون الله على أنفسهم بأن يمطر عليهم حجارة من السماء فتبيدهم نهائيا أو أن يعاجلهم بعذاب أليم ليتخلصوا من ذلك الحق ما هو ذلك الحق الذي بلغوا من نفورهم منه وعنادهم تجاهه وكرههم له إلى هذه الدرجة؟

دين عظيم

فيه الخير

فيه الشرف

فيه السعادة

فيه الحرية

فيه الكرامة

فيه العزة

فيه السمو

فيه رحمة الله في الدنيا

فيه الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة،

الإنسان إذا ساء يمكن أن يتنكر حتى لأجمل وأرقى وأعظم ما في الحياة إلى هذه الدرجة وهذا المستوى من التنكر ويمكن أن يحمل في نفسه الكراهية والنفور من الحق الواضح الجلي الذي فيه الخير له وفيه الحل له يقول القرآن الكريم عنهم أيضا ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وصلوا إلى درجة رهيبة من الخذلان على مدى سنوات طويلة.

أساليب التصدي للدعوة

نظَّم الملأ من قريش حملةً للتصدي للرسول صلوات الله عليه وعلى آله ولمحاربته بأساليب متعددة، منها:-

أولاً: الحرب الإعلامية:

عن طريق العمل من خلال الدعايات المشوهة للنبي صلوات الله عليه وعلى آله بهدف التأثير على الناس، وإبعادهم عن التقبّل منه، وعن الاستماع له، وعن الاستجابة له، ومن تلك الأساليب في حربهم الإعلامية :-

 دعاية الجنون

 دعاية السحر

  دعاية الشعر

الدعاية على القرآن الكريم:

  و يصفوه بالأساطير، قالوا عنه {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}

  شككوا بقدر ما يستطيعون في أنَّه من الله

  يزعمون أنَّه افتراه

 يزعمون أنَّه تلقَّاه من أشخاص آخرين:{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ}

ثانياً: أسلوب المفاوضات والمساومات

 دخلوا في مساومات، و حاولوا فيها أن تكون مغرية، عرضوا عليه الكثير ومن أهم تلك العروض:-

الإغراء بالمناصب:

عرضوا عليه أن يملِّكوه عليهم، قالوا [إذا كنت تريد ملكاً ملَّكناك علينا، جعلناك الملك علينا، ولكن تقبل وتستمر معنا على ما نحن عليه، تترك هذه الرسالة، هذا المشروع الذي جئت به تتركه، وتكون ملكاً وفق الحالة التي نحن عليها].

 الإغراء بالأموال:

 وحاولوا أن يعرضوا عليه مساومات مالية [أنهم يستعدون أن يقدِّموا له من المال ما يكون به أثرى رجلٍ فيهم]، فرفضها بشدة.

رابعاً: الضغط والاستهداف للمسلمين

عندما فشلوا في الدعايات، وفشلوا في المساومات، اتجهوا أيضاً إلى وسيلة الضغط والاستهداف، حاولوا أن يعذِّبوا كل الذين يؤمنون به ممن ليس لهم حماية اجتماعية من خلال قبائلهم، وحاولوا أن يلاحقوا البعض منهم بالتعذيب.

قريش تتآمر

﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾

 تآمر ـ كفار قريش ـ على النبي صلوات الله عليه وعلى آله لاستهدافه بشكلٍ مباشر، وعقدوا مؤتمراً يتدارسون فيه الموقف الحاسم والنهائي ضد رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله، اجتمعوا في دار الندوة، وناقشوا خطةً للحسم مع رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله، ولإنهاء الأمر معه،  وخرجوا بثلاثة خيارات كما سطر ذلك القرآن الكريم:

✦ الاعتقال:{لِيُثْبِتُوكَ}، يعني الاعتقال للنبي صلوات الله عليه وعلى آله والسجن له،

✦ القتل:{أَوْ يَقْتُلُوكَ} التخلص منه بطريقة القتل.

✦ الطرد:{أَوْ يُخْرِجُوكَ} الطرد من مكة والإخراج من مكة

 {وَيَمْكُرُونَ} قاموا بكل تدابيرهم وفق الخيار الذي اختاروه وهو خيار القتل، اجتمع رأيهم على خيار القتل، فدرسوا الخطة لتنفيذ هذا الخيار، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾>

ليلة الهجرة.. ليلة اللطف الإلهي والفداء العلوي 

 بعد أن تيقن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) من جحود قريش وكفرها وأخبره الله بما يدبرونه كان لا بدَّ من خطة للهجرة نفسها، فالرسول صلوات الله عليه وعلى آله أعدَّ خطته للتمويه عليهم، والخروج بدون أن يدركوا وأن يشعروا، وكانت تلك الليلة (ليلة الخروج من مكة) هي ليلة المبيت، التي بات فيها الفدائي الأول للإسلام والمسلمين الإمام عليٌّ عليه السلام على فراش النبي صلوات الله عليه وعلى آله، كان ذلك من ضمن الخطة التي رتبها النبي صلوات الله عليه وعلى آله للخروج، ثم خرج دون أن يشعر أولئك؛ لأن المكان الذي كان ينام فيه كان واضحاً أمامهم، وكان الإمام عليٌّ عليه السلام باقياً في فراش النبي، يظنون أن النبي صلوات الله عليه وعلى آله متواجداً، خرج النبي بدون أن يشعروا بألطاف الله، وبرعايةٍ من الله سبحانه وتعالى، واتجه اتجاهاً معاكساً للطريق إلى المدينة، خرج باتجاه آخر، غير الاتجاه الذي يمكن أن يخرج الإنسان من خلاله إلى المدينة، ضمن خطته التي أعدَّها للخروج المنظَّم وبأسلوب صحيح من مكة.

{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} القاعدة الأساسية لانطلاق الحركة الرسالية

هذه هي كانت القاعدة الأساسية التي انطلق منها رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) من أول يومٍ في حركته بالرسالة الإلهية، هو كان ينطلق بثقة بالله سبحانه وتعالى، وتوكل على الله، واعتماد على الله سبحانه وتعالى، لم يكن يمتلك الإمكانات المادية، وكانت هذه من المشاكل التي يتذرَّع بها الكثير من الناس حين رفضوا الإيمان به [أنك لا تمتلك إمكانات مادية، ولا تمتلك أيضاً قدرة بشرية كبيرة، ليس لك جيش، وليس لديك ميزانيات مالية ضخمة؛ بينما تأتي بمشروع كبير.].

 وكانت هذه من الدلائل المهمة جداً على عظمة الرسالة الإلهية، على عظمة المنهج الإلهي، على عظمة الإسلام كمشروع عظيم وناجح، عندما يتحرك به من لا يمتلكون حتى الإمكانات المادية، فإذا بهم ينجحون، هو كان ينطلق من هذا المنطلق {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}

المجتمع المكي وسنَّة الاستبدال

باتت عملية الدعوة إلى الإسلام في ذلك الوضع المتوتر جدًّا، وتلك البيئة المجتمعية المعاندة والمتَّبعة للطاغوت، والكافرة بالحق، والمنصرفة عن الهدى، بات العمل فيها غير مجدٍ، لا يمكن أن يقوم للأمة الإسلامية كيان في ذلك الواقع، في تلك البيئة كان لابدَّ من الانتقال إلى مجتمعٍ آخر، سُنة مهمة من سنن الله -سبحانه وتعالى- مع عباده اسمها سنة الاستبدال: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد: من الآية38]، {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89]، كان هناك مجتمع آخر، هذا المجتمع هو مجتمع الأوس والخزرج،( القبيلتان اليمانيتان) في يثرب، فيما عرف فيما بعد بالمدينة المنورة، مدينة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.

مميزات مجتمع الأنصار

وصف الله “سبحانه وتعالى”مجتمع الأنصار بمميزات راقية وعظيمة في آيةٍ مباركة، يقول الله “سبحانه وتعالى”:﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الحشر: الآية 9]

نأتي إلى هذه المواصفات المهمة جدًّا:

 ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: من قبل المهاجرين الذين هاجروا من مكة ومن مناطق أخرى إلى المدينة،  لأنهم سكنوا في يثرب منذ مدة طويلة، هم في الأساس هاجروا منذ مدة طويلة إلى تلك المنطقة، واستقروا فيها، تحكي السِّير والأخبار أنهم استقروا منذ زمن تُبَّع، وأنه أرادهم هناك؛ لانتظار هذا النبي الموعود في آخر الزمان -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-، ولكن الآية المباركة تذكر إضافةً إلى عبارة: (الدَّارَ: وَالْإِيمَانَ)، وهذا يلفت نظرنا إلى مدى التحلي والالتزام بالمبادئ والقيم الإيمانية التي بلغوا فيها إلى هذه المرتبة، وكأنها سكنت فيهم وسكنوا فيها،

 ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾، نفوس سالمة من الأنانية، من الأحقاد، لديها قابلية لأن تحتضن الجميع، وأن تألف الجميع، وأن تنسجم مع الجميع.

 ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾: ليس عندهم أي حساسية أبداً تجاه ما يمكن أن يحصل عليه هذا الذي هاجر إليهم، هم يحبون الخير لهؤلاء الذين يهاجرون إليهم، لا يتحسس، لا يتعقد، لا يشعر بالحسد والغيرة أنَّ هذا حصل على شيء، أو أعطي شيئاً، أو ناله شيء من الخير، |لا|،

 ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾، وهذه ميزة راقية جدًّا، إذا وصلت الأمة، إذا وصل أي مجتمع من المجتمعات إلى هذه الروحية العالية جدًّا، وهي ذات قيمة في الميزان الأخلاقي والميزان القيمي: أن يُؤْثِروا على أنفسهم، فمعنى هذا: أنهم يريدون الخير للآخرين، أنهم يحملون نفوساً كريمة، نفوساً معطاءة، نفوساً يمكن أن تقدِّم أي شيء في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، وفي سبيل أن ينتصر هذا الحق، أن تنتصر هذه الرسالة، أن يسود هذا الدين، ونفوساً كريمة معطاءة، إلى هذا المستوى من العطاء: أنه يمكن ليس فقط أن تقدِّم مما في وسعها أن تقدِّمه، بل أن تُؤْثر.

 {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، وهذه ميزة كبيرة جدًّا، البعض قد يعطي إذا كانت ظروفه متيسرة، البعض من الناس قد يصل إلى درجة أن يُؤْثِر على نفسه، لكن إذا كانت الظروف لا بأس، يستطيع أن يَجبُر هذه الخلة بشكلٍ سريعٍ ومباشر؛ أما هم فهم يؤثرون على أنفسهم حتى في الظروف الصعبة.

 {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، إذا تخلَّصت الأمة من الشح- الأنانية هي نتاج الشح- فيمكن أن تكون مفلحةً، والأمة المفلحة هي التي تظفر، تتحقق الأهداف من خلالها، تتحقق النتائج بجهودها وتضحياتها؛ لأنها بهذه المواصفات المهمة ستكون أمةً عملية، متحررة من قيود الخوف، ومن قيود الطمع.

المعالم الأساسية في الإسلام

نجد أن هناك معالم رئيسية بارزة في دعوة الرسول، في القرآن الكريم نفسه، في سياسة الرسول وحركته بالرسالة، أول هذه المعالم الرئيسية، ذات الأهمية الكبرى، والتي لها تأثير مباشر في واقع حياتنا، أول هذه المعالم الرئيسية:

المعلم الأول :

الإسلام دين تحرر من الطاغوت والاستكبار

أن الإسلام دين تحرر من الطاغوت والاستكبار، ودينٌ يؤسس للإنسان أن يسير في هذه الحياة على أساسٍ مستقل، أساسٍ من: المبادئ، والقيم، والأخلاق، والتشريعات، والتعليمات، والتوجيهات، يستقل به ويفصله عن التبعية لكل قوى الطاغوت والضلال.

المعلم الثاني:

الإسلام دين وعي ونور وبصيرة

واحدٌ أيضًا من المعالم الرئيسية في الإسلام: أن الإسلام دين وعي ونور وبصيرة، يحرر الإنسان من التبعية الفكرية للمفاهيم الضلالية الشيطانية والطاغوتية، ويمنح الإنسان الرؤية الصحيحة، والفهم الصحيح، والنظرة الصحيحة إلى الواقع من حوله.

المعلم الثالث:

الإسلام دين زكاء وطهارة ومكارم أخلاق

من المعالم التي وصلنا إليها: أن الإسلام دين زكاء، وطهارة، ومكارم أخلاق، وسمو للنفوس، وهذا جانبٌ مهمٌ ورئيسيٌ في الإسلام في أصالته، الأصالة التي تقدِّم لنا الفوارق ما بين الزيف وما بين الحقيقة، ما بين الاتجاه الصحيح الذي يربطنا برسول الله وبالقرآن، وما بين الاتجاه الزائف الذي يربط الأمة بتبعية إلى أعدائها، ويوَّلِّف شكلًا مزيفًا يحسب على الإسلام، ويربط الأمة بأعدائها، ويُدجِّن الأمة لأعدائها، ويُسَخِّر الأمة لأعدائها.

المعلم  الرابع:

الإسلام دين العدل والقسط

أيضًا من العناصر المهمة والرئيسية في الإسلام: أنَّه دين عدل، دين عدل، من المحاور الرئيسية فيه: العمل على إقامة العدل في واقع الحياة، ومحاربة الظلم والطغيان والإجرام، وهذا عنصر رئيسي في الإسلام، ونجد في القرآن الكريم تأكيدًا كبيرًا جدًّا، لدرجة أنه جعل هذه المسألة رئيسية في رسالات الله بكلها، من أولها إلى خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-، الله -جلَّ شأنه- يؤكِّد هذا في القرآن الكريم: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: من الآية25]،

المعلم الخامس:

المسؤولية

معلمٌ مهمٌ جدًّا هو المسؤولية في الإسلام، والتي هي جانبٌ أساسيٌ لابدَّ منه.

الأمة اليوم في أمسِّ الحاجة إلى جانب المسؤولية كَمَعلَم أساس من المعالم الرئيسية في الإسلام في حركة رسول الله، وفي كتاب الله؛ لأن الأمة تواجه تحديات فعلية، وخطيرة جدًّا عليها، إذا لم تتجه هذا الاتجاه المسؤول؛ ستقع ضحية لسيطرة الطاغوت، ستسحق، ستظلم، ستهان.

المصدر/أنصارالله

قد يعجبك ايضا