أويس اليمني ورحلة الانتظار الفلسطينية

أويس اليمني ورحلة الانتظار الفلسطينية

يتبوأ الفلسطيني اليوم في صبره وجهاده ورباطه بين بقية المسلمين، كحال المهاجرين والأنصار، بين بقية صحابة رسول الله وتابعيه بإحسان، ولكن يغمره الشعور بالعرفان تجاه اليمني في دوره الناصر والفاعل، كما هو اللبناني والعراقي والإيراني.

يأتي استحضار رمزية التابعي اليمني الزاهد المجاهد أويس القرني بعد الاستهداف اليمني الشجاع لـ “تل أبيب” بالمسيرة يافا للتعبير عن المعطى السياسي/الميداني الناتج في ضوء الخلفية الفكرية والنفسية لحركة أنصار الله اليمنية، ومدى دافعيتها لجمهورها في النصرة الفاعلة لفلسطين وهي تواجه حرب الإبادة الإسرائيلية الأميركية.

أويس بن أبي عامر القرني ليس مجرد أسطورة تاريخية، ولا بشرى رسول الله للمهاجرين والأنصار، في انتظار وصوله إلى المدينة من اليمن. أويس كلمة سرّ أو شيفرة خاصة في فك طلاسم مرحلة تاريخية في شتى تعقيداتها، كيف لا والخليفة عمر بن الخطاب بكل هيبته وجلال قدره يبادر مراراً وتكراراً ودونما ملل إلى سؤال قوافل اليمن: أفيكم أويس بن أبي عامر؟

أقلعت المسيّرة يافا من عمق اليمن في عبورها المبارك للبحرين الأحمر والمتوسط، حتى حطت رحلها متجاوزة مشارف يافا، في جبروت غوش دان، ورأس غرورها “تل أبيب”، تحميها عين الله، وقد حبكت مسالكها عمليات المراكمة في أداء المحور القتالي من عيتا الشعب حتى مشارف الشجاعية، وقد أرْخَت هدير الموج في جوف الليل، وسط عالم مثخن بالحرب.

 حلقت يافا كما الهدهد عبر مراكمة قتالية خضع فيها الإسرائيلي لقيود ذاتية في إطلاق ذخائر مقلاع داوود والقبة الحديدية، أو دفاعات سلاح الجو الأقوى في الشرق الأوسط، وقد نجح حزب الله في تحويل أسراب الطيور الطبيعية إلى أعداء خطيرين تنفث لأجلهم أفواه النار الإسرائيلية فوق خليج حيفا، بعدما حلّق الهدهد المقاوم، ونسج خيوط معادلة عجيبة فتحت الطريق ليافا أن تنفث عبقها المدوي على مسافة 40 كم من فضاء فلسطين وجبالها.

بين يافا وأويس وصبر الخليفة في رحلة الانتظار، كما هو الإمام عليّ وقد احتضن رمزية أويس كتعبير عن الحق الناصع في مقارعة البغي الظاهر في وهادِ واقعةِ صِفّين، مثلما هي غزة قِبْلة الزهاد والمجاهدين، ومن خلفها كل فلسطين في مَسيرة انتظار أويس العصر، ليبذل دمه الطاهر قرباناً لمظلوميتها كما بذله أويس وعمار بن ياسر وعشرات البدريين.

حال الفلسطيني اليوم مع أخيه اليمني، كما كان حال التابعي أويس الذي لم يهاجر مع رسول الله، ولم ينصره، ولم يتشرف حتى بلقاء رسول الله، ولكنه رسول الله يأمر المهاجرين والأنصار بمكانتهم الرفيعة أن ينتظروا بشرى قدوم أويس من اليمن، في حديث نبوي نقله الإمام مسلم بسنده الصحيح. وعندما يصل أويس المدينة المنورة، يرجوه الصحابة أن يستغفر لهم، وقد اختار الكوفة موطناً ليعسكر فيها، بعدما أقامها الخليفة قاعدة للفتوحات، ويرجوه عمر وقد همّ أويس بالرحيل أن يكتب لواليها ليُحسن إليه، فيأبى أويس وهو يقول: “أكون في غبراء الناس أحب إلي”.

أراد أويس غبراء الناس، وظل معسكِراً ومجاهداً لسنوات، حتى قضى شهيداً وهو ينصر قيم الحق في لحظة اضطراب المؤمنين وانكشاف وحدتهم. لهذا، لو أقسم على الله لأبرّه، بحسب وصف رسول الله له، وهو الفقير الغريب في غير دياره، كما هي بركات اليمن المعاصر وهي تغلق البحار في وجه الوحش الإسرائيلي، وتقاتل الأميركي ومن خلفه كل الغرب الظالم على امتداد البحرين الأحمر والعرب، ولكن يظل محمد البخيتي لا يتحدث إلا عن التقصير والخشية من عذاب الله أمام واجب نصرة غزة الشرعي والأخلاقي.

يتبوأ الفلسطيني اليوم في صبره وجهاده ورباطه بين بقية المسلمين، كحال المهاجرين والأنصار، بين بقية صحابة رسول الله وتابعيه بإحسان، ولكن يغمره الشعور بالعرفان تجاه اليمني في دوره الناصر والفاعل، كما هو اللبناني والعراقي والإيراني، وذلك المسلم الكندي الذي جاء سائحاً ليقضي مهجة روحه في غلاف غزة، وذلك التركي الذي قضى على واحدة من بوابات الأقصى، وحتى ذلك الطالب الأميركي المتضامن في هارفرد. لهذا لا ينفك أبو عبيدة، كما أبو حمزة، عن تطيير كل آيات المحبة والشكر والتقدير لليمن، ومعها كل الناصرين، في زمن عزّ فيه الناصر والمعين.

تجاوزت يافا اليمن، في رحلتها عبر ألفي كم نحو تل الربيع، ميادين القتال والسياسة، كما جغرافيا الطبيعة ونصرة الفرسان، لتحط في عين الفكر وعالم النفس وعمق التاريخ وصلب الدين، وتخترق حواجز وكثباناً اشتغل عليها الأعداء عقوداً وربما لقرون، في تعميق الفجوة بين أطياف الأمة لتقاتل بعضها فيظل بأسها بينها شديد، وعلى أشد الناس عداوة للمؤمنين خيار مؤجل بلا تجديد.

كشفت يافا في الساعات العشر التي سبحت فيها عبر الظلام كل الأقنعة عن اللحى المزيفة والخطابات المنمقة والأحزاب الصدئة، كيوم وقف أويس خلف عمار في مفصل تاريخي، لا يقطع عمار وادياً إلا كان خلفه مع بقية أهل بدر، وهو يصرخ مستبشراً: “غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه” وقد تجاوز التسعين من عمره، فيما أويس تجاوز صحراء الجزيرة ثم صحاري العراق، ليقاتل تحت راية الإمام وقد سبق لها أن اقتلعت باب خيبر، وما زال النداء النبوي يصدح فيه بالنقل المتواتر: “هذا مولاي. اللهم والِ من ولاه، وانصر من نصره، واخذل من خذله”.

امتلك اليمني طائرات مسيرة وصواريخ مجنحة، وهو تحت حراب العرب والغرب، وهناك يمنيون وعرب ومسلمون، لا يمتلكون إلا الكروش مع الفكر الفاسد أو التبعية الذيلية والضياع.

نجح زهد السيد الحوثي، وعبر مسافة تحاكي إشراقة أويس التاريخية، في نصرة غزة الصابرة المثخنة، فيما فشلت أحزاب وجماعات تدعي وصلاً بليلى، وتملأ الوديان بالقطيع والصديد، فيما هي عاجزة عن نصرة ذاتها للتحرر مما راكمته من قيود وأحقاد وسياسات.

استحق على أويس أن ينصر قيم الحق وهو متلحف في ردائه الرث الخشن، فاستغفر المؤمنون من أهل السبق بين يديه. لهذا نهض ذلك الغزاوي بين أطلال منزله المدمر، وهو يشاهد ملايين الإسرائيليين وهم يتراكضون في شوارع غوش دان بعد انفجار المسيرة، ليخطّ كلمته الفاصلة فوق الركام “إنما الحب؛ اليمن السعيد”. هي بشرى أويس المعاصر في رجل امتلك حب الله ورسوله، فاستحق أن يطرق باب تل أبيب إيذاناً باكتمال البشرى مع وحدة الساحات وبركان الجبهات.

الميادين نت :محمد جرادات

باحث فلسطيني
قد يعجبك ايضا