مشروعية عيد الغدير الفقهية والتاريخية    د / حمود الأهنومي

مشروعية عيد الغدير الفقهية والتاريخية    د / حمود الأهنومي

 

 

في هذه الحلقة يستعرض الكاتب بعضَ الروايات الفقهية والمؤشِّرات التاريخية التي تدل على تعيُّد أهل البيت عليهم السلام ومحبيهم وأهل اليمن بيوم الولاية منذ صدر الإسلام، وستكون الحلقة تحت عنوانين:

أولا: عيد يعرفه أهل البيت(ع) قبل البويهيين

إن القول ببدعية الغدير وعيديته ليس وليد وعاظ الحروب الطائفية، الذين وظّفتهم الحروب وجنرالاتها الدمويون كأبواق تسهِّل عمليات الإبادة الشاملة لمحبي أهل البيت في اليمن، وكتغطية للجرائم التي شنها النظام السابق في صعدة، ولكنها شنشنة أخزمية قدمية، فقد ردّد هذه المقولة قبْلَهم السيدُ العلامة يحيى بن الحسين بن القاسم (ت1111هـ)، وسبقهما المؤرِّخان تقي الدين المقريزي (ت845هـ) (1) والمؤرِّخ شهاب الدين النويري (ت733هـ) (2) حيث قالا: إن أول مَن ابتدع عيد الغدير سنة 352هـ هو الأمير معز الدولة أبو الحسن علي بن بويه (ت356هـ).

ويُحْمَل كلامُهما على أنه أول حاكم من حكام الدولة العباسية جعل الاحتفال به احتفالا رسميا اضطلعت به الدولة الرسمية السنية، وهذا لا يمنع أن يكون هناك من كان يحتفي به، أو من قد احتفى به من قبل، وهو الصحيح، إذ كانت خلفية الأمراء بني بويه خلفية زيدية، كما هو معروف تاريخيا، وهم أخذوا علومهم لدى فقهاء الزيدية في الجيل والديلم الذين كانوا على مذهب الإمام الناصر الكبير الحسن بن علي الأطروش المتوفى سنة (304هـ) أحدِ أئمة أهل البيت العظام ومن أبرز أعلام الإسلام والدعاة إليه، وسيأتي تخصيصهم هذا اليوم بخاصيات تدل على التعيُّد به، وتصريحهم بعيديته.

وهناك عدة حقائق تاريخية تبين وتؤكد أن الاحتفال والتعيُّد في يوم 18 ذي الحجة كان قبل ذلك التاريخ الذي ذكره المؤرخان المقريزي والنويري، منها:

1-قول المؤرخ أبي الحسن المسعودي مؤلِّف مروج الذهب المتوفى سنة 346هـ في كتابه (التنبيه والإشراف(3)): “ووُلْد علي رضي الله عنه وشيعته يعظمون هذا اليوم”، وقد ألّف كتابه هذا في سنة 344هـ، ثم نقحه في سنة 345هـ (4)، وهو كما ترى قبل التاريخ المزعوم لابتداع عيد الغدير من قبل المقريزي والنويري.

2 -ورد كما سيأتي في المصادر الزيدية اليمنية أن الإمام الناصر الحسن بن علي الأطروش المتوفى سنة 304هـ أنه يُستَحَب لديه صيام يوم 18 ذي الحجة، ولم يكن تخصيصُ هذا اليوم بهذه المزية إلا لكونه يوم غدير خم، وقد أكد ذلك الفقيهان الناصريان أبو جعفر محمد بن يعقوب الهوسمي، والفقيه أبو مضر شريح بن المؤيد بتعليلهما مشروعية الصيام والصلاة المندوب فعلُهُما يوم الغدير، كما سيأتي.

3 -روى المحدّث الإمامي الكليني المتوفى سنة 329هـ بسنده إلى الإمام الصادق ما يدل على اعتبار الإمام جعفر الصادق المتوفى سنة 148هـ لهذا اليوم عيدا، ومثله روى المفسِّر الزيدي فرات بن إبراهيم الكوفي المتقدم تاريخ وفاته على الكليني السابق (5)، كما روي أن الفياض بن محمد بن عمر الطوسي المتوفى سنة 259هـ ذكر أنه شاهد الإمام علي بن موسى الرضا (ت203هـ) يتعيَّد في هذا اليوم، ويذكر فضله، ويروي ذلك عن آبائه عن أمير المؤمنين علي عليه السلام (6). والشاهد في كلام الكليني ومن بعده هنا أنهم يعرفون التعيّد بهذا اليوم من قبل التاريخ المزعوم (352هـ) كبداية للتعيد به أيام الأمير معز الدولة البويهي.

ثانيا: تعيُّد زيدية اليمن به من قبل عصر الإمام المتوكل على الله إسماعيل

هناك حقائق تاريخية تؤكد أن زيدية اليمن يتعيدون بيوم الولاية من قبل عصر المتوكل على الله إسماعيل المتوفى سنة (1087هـ)، الذي زُعِم أنه هو أول من ابتدع التعيد به، وهي كثيرة ومنها:

1- ما تقدم عن الإمام الناصر، وهو الإمام الزيدي المعروف وقوله بندبية الصيام في يوم 18 ذي الحجة، وتأكيد مَن جاء بعده من فقهاء الناصرية؛ لكون حادثة الغدير فيه (7).

2-ما هو معروف عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بدءا من أمير المؤمنين علي عليه السلام، ومرورا بالإمام زيد، والقاسم بن إبراهيم، والهادي يحيى بن الحسين، وانتهاء بالسيد مجد الدين المؤيدي، وكونهم لا يزالون يذكّرون بحديث الغدير ويرددونه في المحافل، في هذه المناسبة وغيرها، فهذا أمير المؤمنين علي في أيام خلافته في الكوفة بلغه أن قوما يتهمونه فيما يذكره من تقديم رسول الله إياه على من سواه، فاستنشد من بقي من الصحابة ممن سمع حديث الغدير إلا قام فشهد بما سمع، فقام من كان حاضرا منهم وشهدوا بحديث الغدير، وهذه قضية اشتهرت في كتب المحدثين من أهل السنة بالمناشدة يوم الرحبة. وشعره المشهور في مصادرهم الذي يقول فيه:

فأوجب لي ولايته عليكم

رسول الله يوم غديرخمّ

فويلٌ ثمّ ويلٌ ثمّ ويل

لمن يلقى الاله غداً بظلمي (8).

ومما يفعله اليمنيون في يوم الغدير هو التثقف بثقافة الغدير، ورواية الحادثة، والانتفاع بمضامينها.

3-كان موضوع الغدير حاضرا في ثقافة اليمنيين وزعمائهم، ومنهم ذلك الزعيم الأرحبي وهو الدعّام الأرحبي الهمداني المعاصر للإمام الهادي يحيى بن الحسين (ت298هـ) والمناقِض له في بعض الأحيان، وقد ذكر في شعر له موضوع الغدير بما يشير إلى تداول موضوعه في ثقافة زعماء اليمن في ذلك العصر(9).

4-وقبل ذلك كان هناك القاضي عبد الرزاق بن همام الحميري الصنعاني (ت211هـ)، وغيره من علماء الحديث المشهورين في اليمن، لا يزالون يروون حديث الغدير والاستخلاف وغيرهما، وقد نهى بنو العباس القاضيَ عبدالرزاق، وأنكروا عليه ونالوا منه بسبب أحاديث رواها في فضائل علي عليه السلام (10)، وهو أمر يشير إلى ثقافة الغدير التي كانت في اليمنيين وعلماء اليمن حتى من قبل مجيء الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (11).

5-ورد في سيرة الإمام الزيدي المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني (ت411هـ) في الحديث عن أحد أصحابه أبي القاسم إسماعيل بن أحمد البستي (ت420هـ) وهو شيخ الزيدية بالعراق، الذي كان يعقِد مجالسَ التذكير، وتقول الرواية: إنه سئل يوم الغدير عن أفضلية علي وأبي بكر، وتقول الرواية: إنه أجاب بجوابٍ أثار قلاقل بين أهل السنة والزيدية (12)، وتخصيص السؤال بيوم الغدير يشير إلى أن تذكيرا مّا حصل في يوم الغدير، وهذا هو ما يقوم به الزيدية اليوم حيث يذكرون في يوم الغدير أفضلية علي وأحقيته بالولاية استدلالا بحديث الغدير.

6-ذكر أبو جعفر محمد بن يعقوب الهوسمي (ت455هـ)، وهو أحد المهتمين بفقه الإمام الناصر الأطروش آنف الذكر، ومؤلف كتاب الكافي في فقهه، ذكر فيه أنه يستحب صيام يوم الغدير، وروى الاستحباب عن أئمة العترة، كما ذكر أنه يستحب لمن صام أن يصلي ركعتين، يدعو فيها بالشكر لله على نعمه (13)، وقد نقل ذلك عنه أيضا القاضي عبد الله بن زيد بن أبي الخير العنسي المتوفى سنة 667هـ في كتابه (الإرشاد إلى نجاة العباد) (14)، وذكر فيه أن تلك الصلاة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن الإمام علي عليه السلام وعن الأئمة المتقدمين.

7-قال أبو مضر شريح بن المؤيد (من أعلام الزيدية في القرن الخامس الهجري)، ومن أصحاب الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني (ت411هـ) ذكر أنه يستحب صوم يوم الغدير عند أئمة العترة، ونصّ أنه “يومُ عيد” عندهم، وذكر فضلا عظيما للصلاة فيه، والتي هي صلاة الشكر، وذكر أيضا أن هذا العيد هو “يوم العيد الأكبر”، وفيه فضل يطول (15).

8-روى الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الشجري (ت499هـ) في الأمالي الخميسية (16) بسنده إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: “الثامن عشر من ذي الحجة عيد الله الأكبر، ما طلعت عليه شمس في يومٍ أفضل عند الله منه، وهو الذي أكمل الله فيه دينه لخلقه، وأتم عليهم نعمه، ورضي لهم الإسلام دينا، وما بعث الله نبيا إلا أقام وصيه في مثل هذا اليوم، ونصبه علما لأمته”، ودعى الصادق عليه السلام في هذا الأثر أن يُحْسِنَ المرءُ في هذا اليوم إلى نفسه وعياله وما ملكت يمينه في ما قدر عليه، وهي أمورٌ تدل على عيدية الغدير عند أهل البيت المتقدمين.

9 -روى الإمام الحسن بن بدر الدين المتوفى سنة 670هـ من أئمة اليمن في كتابه أنوار اليقين في إمامة أمير المؤمنين (مخطوط) حديث الإمام الصادق السابق والمذكور في الأمالي الخميسية.

10-ذكر الأمير الحسين بن بدر الدين المتوفى سنة 663هـ في كتابه شفاء الأوام (17) أنه يستحب صيام يوم غدير خم، ونقل عن أبي مضر قوله: إنه يستحب صيامه عند سائر العترة عليهم السلام، وقال: “يوم الغدير يوم عيد عند أهل البيت عليهم السلام، ويستحب صيامه”، ونقل ذلك السيد العلامة حمود بن عباس المؤيد رحمة الله تغشاه في تلخيصه (النور الأسنى) لأحاديث الشفاء.

11 – لما توفي الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير أخو السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير في يوم 19 من ذي الحجة سنة 822هـ وكان موته فاجعة لليمانيين حتى أن دولة الأئمة الزيديين آنذاك أمرت بالحداد الرسمي عليه، وقد رثاه الفقيه عبد الله بن عتيق الموزعي الشافعي المعروف بالمزاح، وذكر في قصيدته أن موته كان في أشرف الأعياد إذ قال:

أما الدليل على عظيم ثوابه

فمماته في أشرف الأعياد (18)

والشاعر هنا لم يكتف بوصف الغدير بكونه عيدا، بل وصفه أنه” أشرف الأعياد”، وكونه في 19 ذي الحجة لا يضر؛ لأن اليوم الواحد مما يتسامَح فيه بسبب عادة اختلاف الناس في مطالع الشهر.

12-وجاء العلامة الشهير يحيى بن أحمد مظفر المتوفى سنة 875هـ فذكر في كتابه (البيان الشافي) في الفقه أنه يستحب صيام يوم الغدير؛ وعلّله بأنه عيدُ المسلمين، وورد فيه الحديث في ولاية أمير المؤمنين (19).

13-وهذا العلامة صلاح بن أحمد المؤيدي المتوفى سنة 1044هـ ذكر في كتابه شرح الهداية في الفقه أيضا أنه يستحب الاغتسال في يوم الغدير 18 من ذي الحجة (20).

وهكذا نجد أن هذا العدد الكبير من الزيدية الذين وُجِدوا قبل عصر المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم، وبعضهم بمئات السنين يصرِّحون بأن يوم الثامن عشر عيدٌ، ويخصّونه بخصوصية مميِّزة؛ لكونه يحمل ذكرى يوم الولاية فيخصُّونه بالتعيُّد، إما بصيامٍ أو صلاةٍ أو اغتسالٍ أو احتفالٍ، أو مجلسِ تذكيرٍ أو فرح وسرور، وأنهم عدُّوه يوما يفرح فيه المؤمنون بفضل الله ونعمته؛ امتثالا لما أمر الله عز وجل به حيث يقول: (قُلْ بِفَضْل اللّه وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]، وهذا غيض من فيض.

على أنه لو افترضنا أنه لم يكن هذا الاحتفال معروفا في العصور السابقة فإن فعلَه اليوم لن يكون إلا سنة حسنة لا بدعة سيئة؛ لأنه يندرج تحت عنوان عام وهو الفرح بنعمة الله، وإبلاغ ما أمر الله رسولُه بإبلاغه، وإبلاغ المسلمين بتلك الولاية أمر قرآني، ومقصد إسلامي، وكم من الاحتفالات والمناسبات والذكريات الجديدة في عصرنا هذا يفعلها الناس ولا ينكِر عليهم فيها أحد، مثل الاجتماعات الحزبية والمهرجانات الانتخابية والتأبين للشهداء والمظاهرات ضد الأنظمة الفاسدة والظالمة، فما كان منها ذا وجه حميد ويندرج تحت عنوانٍ عامٍّ من الخير والبر والمعروف فهو سنة حسنة، وما كان منها يندرج تحت عنوانٍ سيِّء مثل المهرجانات التي تشتمل على بعض المحظورات الشرعية فهي من البدع السيئة، ليس لكونها مهرجانات ولكن لكونها مشتملة على ما حظره الشارع الحكيم.

وبهذا يتضح ويتبيّن:

–  أن يوم الولاية عيد شرعي من أعياد أهل الإسلام مثابٌ على التعيُّد به؛ لأنه نوع من الفرح بفضل الله وبرحمته.

– وأنه لم يكن بدعة حدثت في أيام بني بويه، بل هو عيد يعرفه أهل البيت عليهم السلام ومحبو علي عليه السلام من قبل ذلك بعقود من الزمن.

– وأن التعيد به في اليمن معروفٌ لدى اليمنيين من قبل عصر المتوكل على الله إسماعيل.

-كما تبين مدى تناقض الناعقين ببدعيته وازدواجيتهم، وأن ذلك ليس حرصا على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو حرص على سنة أعداء الإسلام المتمثِّلة في دفن فضائل الإمام علي عليه السلام ومحاربة من يتكلم عنها، وهكذا يستمر الحق في رحلته الشاقة والطويلة، ويستمر أهل الباطل في تلوناتهم العليلة.

قد يعجبك ايضا