واشنطن لإبن سلمان: حربك انتهت
بعد التعنّت السعودي الذي طال إزاء الحرب على اليمن، بدأ موقف الرياض وفريقها اليمني بانعطافة واضحة مع القبول بالذهاب إلى المحادثات السياسية المرتقبة، بسقوف، كما يبدو، أكثر انخفاضاً من التي كانت سابقاً. أسباب عدة أدت إلى هذا التغيّر، أهمها الفشل العسكري المدوّي والضغوط الأميركية على آل سعود
انخفض السقف العالي لدول العدوان على اليمن. كانت السعودية ترفض بصورة مطلقة أي مفاوضات سياسية قبل التعهد بتنفيذ القرار الدولي 2216 بحذافيره، ثم رفضت آلية تنفيذية لبنوده تعطي صنعاء هامش مناورة، فيما كانت تصرّ على انسحاب الجيش و«اللجان الشعبية» بشكل كامل من المدن مع تسليم السلاح المتوسط والثقيل من دون شروط، مطالبةً بعودة «الشرعية» الى صنعاء بضمانات عربية. ولكن، فجأة انعطفت دول العداون نحو البحث عن حل، متجاوزة «حالة إنكار الواقع» نحو استدارة تكاد تثير الريبة لشدة انعطافتها. فما الذي يجري؟
منذ عشرة أيام تقريباً، بدأت مفاوضات يديرها مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن اسماعيل ولد الشيخ وفريق عماني برئاسة أحد أبرز مستشاري السلطان قابوس، وبمشاركة وسطاء دوليين وإقليميين. وبخلاف المرات السابقة، تجري المفاوضات في أجواء جدية وفعالة. وتتعامل الأطراف، بعضها مع بعض، من موقع الندّية. وهناك بحث حقيقي عن مخارج. وهي المرة الأولى التي تشعر فيها الأطراف بأن دول «التحالف» تعبت من استمرار الحرب واستنزافها لمواردها وهيبتها. هذه الدول، لا سيما الأساسية منها، تشارك في المفاوضات مباشرة وفي «الكواليس» وعبر الوسطاء بحقيبة خاوية ومحكومة بسقوف عالية، الأمر الذي يفرض على إدارة المفاوضات بذل الجهود في إيجاد المخارج وليس المطالب، خصوصاً أن وفد صنعاء محكوم بالسقف الذي وضعه السيد عبد الملك الحوثي في أحد خطاباته حول «أننا لسنا معنيين بإيجاد مخارج للعدوان، وأن المهم بالنسبة الينا مصلحة الشعب اليمني».
وفي الواقع، إن جملة من الوقائع تجمعت خلال فترة قصيرة فرضت على دول العدوان الاستدارة الحادة والإسراع في البحث عن إيجاد مخارج لوقف العدوان، مع العزوف عن سقوفها وأهدافها في اليمن، المعلن منها وغير المعلن. وفي هذا الإطار يمكن تسجيل الآتي:
أولاً، إعلان اليمن الانتهاء من المرحلة التمهيدية التكتيكية على الحدود مع السعودية والانتقال إلى البدء بالخيارات الاستراتيجية، مترافقاً مع إصدار «الاعلام الحربي» التابع للجيش واللجان الشعبية مشاهد سقوط الحاميات الحدودية بشكل مهين ومخز. وأظهرت هذه المشاهد تهاوي الجيش السعودي وهروبه من مناطق واسعة، الأمر الذي مهّد للجيش اليمني الوصول الى مشارف مناطق رئيسية (نجران، جيزان، عسير) في الجنوب السعودي.
ثانياً، فشل الهجمات العسكرية المتكررة لمرتزقة العدوان في جبهة تعز، مع الخسائر الفادحة في صفوفهم، لا سيما أن الجيش و»اللجان الشعبية» اعتمدوا مع هؤلاء المرتزقة تكتيك حرب العصابات، وكمنوا لهم خارج جبهات القتال، أو تم استدراجهم إلى مناطق قاتلة داخل مناطق الجيش ومن ثم الإطباق عليهم، إلى درجة أن مستشفيات الجنوب اليمني لم تعد تتسع للجرحى القادمين بالمئات من جبهات القتال. وبعدما رفض أبناء الجنوب المشاركة في معارك الشمال، باستثناء القوى السلفية، تلقّت هذه الأخيرة ضربات قاسية، خصوصاً في موقعتي «معسكر العمري» القريب من باب المندب، حيث سقطت في الموقعة الأولى كل قوات هاشم السيد المشكّلة من مئات العناصر السلفيين بين قتيل وجريح، كذلك قتل ابن السيد وابن أخيه، فيما أصيب السيد بإصابة بالغة. أما الموقعة الثانية فكانت حين استُدرجت إحدى القوى السلفية إلى معبر إجباري في الوازعية، فقتل وجرح المئات، وعلى هذا المنوال تكرر المشهد في أكثر من مديرية في تعز.
وعلى ضوء الإخفاقات وحالة التعب والإعياء للوحدات المقاتلة، وجّه عدد من القادة العسكريين التابعين لمسلحي هادي، بقيادة العقيد الركن ناصر باصميع، رسالة إلى هادي، اعترفوا فيها بأن «معركة تعز» غير مجدية بتاتاً، ولن تكون في وضعها الراهن إلا معركة استنزاف لـ«التحالف» بقيادة السعودية، ولما يسمى «الجيش الوطني» و«المقاومة». الرسالة المذكورة جاءت بعدما حسم الجيش و«اللجان» المعارك في محاور الحصب، والدمغة، وماوية، ونجد قسيم والوازعية في تعز.
ثالثاً، تبدل المزاج القبلي في مأرب للقبائل المحسوبة على حزب «الإصلاح» والرئيس الفار هادي، بعد الانجازات التي حققها الجيش و«اللجان»، إلى درجة أن قائد المنطقة الثالثة عبد الرب الشدادي، المحسوب على هادي، اجتمع بالقبائل وطلب الهدنة، ووقف إطلاق النار في المحافظة مع الجيش، غير أنه لم يستطع ضمان وقف الغارات السعودية، ففشل مقترحه، ما استدعى القبائل إلى تسلم المبادرة، وهي تعمل حالياً على التواصل مع الجيش وتسوية أوضاعها.
رابعاً، تدهور الوضع في الجنوب اليمني بعد سيطرة «القاعدة» و»داعش» على مناطق واسعة في محافظة أبين والانهيار الأمني في عدن وانفلاته من أيّ قيود. وأصبحت عمليات القتل تحصى بالساعة وليس باليوم، وكان البارز فيها اغتيال المحافظ المعين حديثاً اللواء جعفر سعد، ليشكل اغتياله ضربة قوية لـ«التحالف»، لما لذلك من سمعة سيئة وفقدان للهيبة.
خامساً، العداء المستحكم بين قوى رئيسية في العدوان، وهي دولة الامارات والقوة المحلية الرئيسية المتحالفة مع العدوان، مثل حزب «الاصلاح» (الإخوان المسلمين)، وتوجيه الاتهامات المتبادلة بين الطرفين. ففيما اتهم «الاصلاح» القوات الاماراتية بالتردد والتراجع، هاجم وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، أنور قرقاش، «الإصلاح»، متّهماً إياهم بأنهم لم يشاركوا في الحرب وما زالوا يحتفظون بأموالهم وقواهم لفترة ما بعد الحرب، مؤكداً أن لديه تقارير بهذا الشأن.
وبشأن مشاركة بلاده في قرار الدخول في العدوان، وصفه قرقاش بـ«الصعب لكون اليمن بلداً معقداً»، في اعتراف ضمني بالمأزق التي وصلت إليه بلاده في اليمن. وقال قرقاش إنه ليس متفائلاً بالحل السياسي المقبل في جنيف، لأن الذين يتفاوض معهم «أمراء حرب». وقد علمت «الأخبار» من مصادر موثوقة بأن دولة الامارات تتواصل مع فصائل في «الحراك الجنوبي» (وُصف سابقاً من الاعلام الخليجي بالحراك الايراني) وبأن العروض المطروحة هي المساعدة في الحلّ الأمني بوجه الاصلاح والقوى المتطرفة، إلا أن هذه الفصائل تشترط الاعتراف باستقلال الجنوب اليمني وانفصاله عن الشمال.
سادساً، فشل القوى الرديفة في العدوان، وبالتحديد القوتين السودانية والكولومبية، في معركة تعز ووقوع خسائر في صفوفهم، ما استدعى الرئيس السوداني عمر البشير إلى الإعلان أن مهمة بلاده في اليمن «تقتصر على الإسناد والدعم اللوجستي».
سابعاً، الحرج الأميركي من إطالة مدة الحرب، لا سيما أن «القاعدة» و«داعش» أصبحا يتغذيان من استمرارها ويتمدّدان في ظلها، وبعد ظهور رأي عام غربي معارض لها. وقد عبّر كبار الكتّاب والصحف الغربية عن انزعاجهم من دعم واشنطن والغرب، مطالبين الادارة الاميركية بضرورة الضغط لوقف إطلاق النار. وقد علمت «الأخبار» بأن دوائر القرار في واشنطن أبلغت وليّ وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، أن المهل التي أعطيت له قد انتهت، وطلبت منه الانصراف إلى إعادة هيكلة الجيش السعودي بناءً على عقيدة عسكرية فاعلة. وأبدت هذه الدوائر انزعاجها من الإهانة التي تعرضت لها الترسانة العسكرية الاميركية على يد الجيش اليمني. وعلمت «الأخبار» بأن بن سلمان يأخذ التحذيرات الاميركية على محمل الجد.
بدأ السعوديون بمحاولة التخلص من حرب اليمن بعد التيقّن من نفاد كل الخيارات، مفضّلين التفرغ للملف السوري، لأن في ذهن القيادة السعودية أنه لا يزال بالإمكان تحصيل مكاسب يمكن استثمارها في اليمن. وعلمت «الأخبار» بأن السعودية باشرت التواصل، بعيداً عن الأضواء، مع أطراف يمنية أساسية حليفة لـ«أنصار الله»، وأن المفاوض السعودي قدّم تنازلات جذرية بعيداً عمّا كان مطروحاً سابقاً. وفي الأيام الماضية، مهدت الماكينة الاعلامية الخليجية للانعطافة الحادة للاستدارة والتبرير لها، بالكشف، نقلاً عن مصادر خليجية ويمنية مطلعة، عن أن «أنصار الله» حصلت على دفعات جديدة من الأسلحة وصفت بالحديثة والمتطورة من إيران ودول إقليمية ودولية أخرى، وأن عمليات التهريب تجري من محافظات حضرموت وشبوة والمهرة والمناطق الصحراوية التي تربط اليمن بدول في المنطقة على بحر العرب (غمز من ناحية سلطنة عمان). وكذلك جرى التمهيد للاستدارة من خلال الترويج بأن ما يسمى «الشرعية» (هادي وبحاح) تتعرض لضغوط شديدة للمشاركة في مفاوضات مباشرة مع «أنصار الله» بغية إيقاف الحرب.