واشنطن… حارسة «الازدهار» المجبول بالدماء.. «تضيّع» هيمنتها على البحار
واشنطن… حارسة «الازدهار» المجبول بالدماء
ليس صدفةً أن تختار الولايات المتحدة تسمية «حارس الازدهار» للائتلاف الذي شكّلته مع أتباع وأذناب، وفي مقدّمتهم بريطانيا، لاستهداف أحرار اليمن عقاباً لهم على تضامنهم العملي مع فلسطين وغزة. تعيد هذه التسمية تذكيرَ من خانتهم الذاكرة، أو أعمتهم الأيديولوجيا الليبرالية الجوفاء، بصلة الرحم بين ازدهار الغرب تاريخيّاً واستمراره راهناً، وسفك دماء «الآخرين» من شعوب العالم غير الغربي. مَن اختار هذه التسمية، يمتلك فضيلة واحدة، هي الصراحة الفجّة، التي ميّزت قادة الاستعمار الغربي ورموزه، عندما كان في أوْج عتوته. سيسيل رودس (1853-1902)، رجل السياسة والأعمال البريطاني، وأحد أبرز المدافعين عن الإمبراطورية البريطانية، الذي عُيّن رئيساً لوزراء مستعمرة «كاب» في جنوب أفريقيا، بين عامَي 1890 و1896، ومؤسّس شركة الألماس الشهيرة «دو بيرز»، والتي حملت ناميبيا اسمه عندما كانت مستعمرة بريطانية، أي روديسيا، لم يتورّع عن الإقرار بأن «الفضة هي دماء الآخرين». إخضاع الآخرين من غير الغربيين، عبر القتل الجماعي وحتى الإبادة عند الضرورة، ومختلف أشكال التنكيل والترويع والتهجير، كان وما زال الشرط المركزي لتثبيت منظومة السيطرة الغربية على ثرواتهم ومصائرهم.لا تخرج حرب الإبادة ضدّ غزة، من منظور قادة الغرب، وليس من منظور القادة الصهاينة وحدهم، عن هذه القاعدة الجوهرية، ولا الحروب التي سبقتها ضدّ العراق وأفغانستان ولبنان وسوريا وليبيا. عندما تجرّأت المقاومة الفلسطينية بقيادة «حماس» على زعزعة أركان هذه المنظومة انطلاقاً من غزة في السابع من تشرين الأول الماضي، كان الردّ بحرب الإبادة. وهي تشنّ عمليات عدوانية ضدّ اليمن وشعبه اليوم، لأن قواه الحيّة قرّرت الضغط على الكيان الصهيوني لوقف هذه الحرب، عبر منع السفن القادمة منه أو الذاهبة إليه من العبور من باب المندب، وإن اضطرت لضربها أو احتجازها. سفك دماء الآخرين ضرورة حيوية لبقاء منظومة السيطرة والنهب. لكنّ نخب المستعمرة الاستيطانية الكبرى والحديثة النشأة، أي الولايات المتحدة، فاقدة للوعي التاريخي، ولا تدرك على الأرجح مغبّة المبادئة بالحرابة ضدّ أبناء العربية السعيدة. ربّما أن مثل هذا الإدراك، هو الذي يفسّر إحجام بعض الدول الأوروبية كإسبانيا، أو بما فيها تلك السائرة في ركابها عادةً، كألمانيا وفرنسا وإيطاليا، عن المشاركة في عدوان ستكون أثمانه باهظة بلا ريب.
فشل واشنطن في «توريط» بعض حلفائها الغربيين في عمليات عدوانية ضدّ اليمن مؤشّر جديد إلى استمرار تراجع هيمنتها، بعدما ظنّ كثيرون أنها نجحت بوقفه، عندما استطاعت إعادة تشكيل معسكر غربي في مقابل روسيا، على خلفية الحرب في أوكرانيا. أوضحُ محاولة للتوريط، جرت مع إسبانيا، إذ زعم وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، لدى الإعلان عن تشكيل ائتلاف «حارس الازدهار»، في الـ18 من كانون الأول الماضي، بأن مدريد هي عضو فيه من دون التشاور مع حكومتها، ما أثار غضباً شديداً لدى الأخيرة. ويشير خبير شؤون السياسة الدورية، ألدار ماميدوف، في مقال على موقع «ريسبونسيبل ستايتكرافت» بعنوان «الضغط الأميركي لتوسيع الائتلاف المعادي للحوثيين يثير حنق الحلفاء»، إلى أن «الرئيس بايدن اتّصل برئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، لتجاوز آثار الأزمة، وركّز على التهديد الناجم عن ممارسات الحوثيين. إنْ كانت نيّته تقريب مدريد من الموقف الأميركي فقد فشل تماماً: إسبانيا رفضت الانضمام إلى الولايات المتحدة وعدد من حلفائها عندما أصدروا في الـ3 من هذا الشهر إعلاناً مشتركاً يحذّر الحوثيين من النتائج المترتّبة على هجماتهم المستمرّة على حرية الملاحة». يلفت مامدوف أيضاً، إلى أن حلفاء آخرين لواشنطن لم يشاركوا في الإعلان المذكور كفرنسا وألمانيا أو وقّعوا عليه، كما هو حال إيطاليا، دون الالتزام بالقتال تحت إمرة القيادة الأميركية، أو وافقوا فقط على إرسال أعداد رمزية من الجنود، كهولندا والدنمارك والنروج. وفي الواقع، فإن البلدان التي أيّدت العدوان الأميركي – البريطاني على اليمن عند وقوعه، هي أستراليا وكندا واليابان والبحرين.
الفشل المشار إليه، إشكالي جدّاً بالنسبة إلى إدارة بايدن. هي تَعلم أن المواجهة مع الحوثيين تقتضي حشداً عسكريّاً بحريّاً كبيراً، كما ينقل ديفيد سانغر، في «نيويورك تايمز»، عن الأميرال المتقاعد جايمس ستافريديس، الذي يرى أن «تجربتنا مع القراصنة الصوماليين تُظهر أن اعتماد مقاربة دفاعية لا يكفي بتاتاً. المطلوب هو نقل المعركة الى البرّ كذلك، لأنها الطريقة الوحيدة لإفهام إيران مضمون رسالتنا. فكرة أنّنا سنسيّر دوريات في البحر الأحمر، وهو بحجم كاليفورنيا، مؤلّفة من بضع سيارات شرطة، أي سفننا هناك، غير واقعية أبداً». واشنطن تعي بأن المجابهة في باب المندب والبحر الأحمر قد لا تقتصر على عمليات قصف محدودة، وأن احتمال تدحرجها الى معركة حامية ومديدة، كبير، وأن هذا الأمر يتناقض مع أجندتها الاستراتيجية، وأولويّتها تعاظم نفوذ الصين براً، وبشكل خاص بحراً. وبعدما أفضى «غرق» الولايات المتحدة في بر الفضاء العربي – الإسلامي، وفقاً للتعبير المستخدم من بعض خبرائها، إلى بداية انحدارها، فإن غرقها في بحار هذا الفضاء، وتحديداً في البحر الأحمر، سيمثّل تسارعاً كبيراً في مثل هذا الانحدار، في مقابل قوم قال عنهم الرسول الأكرم: «يأتيكم أهل اليمن أرقّ قلوباً وألين أفئدة يريد قوم أن يضعوهم فيأبى الله إلا أن يرفعهم».
أميركا «تضيّع» هيمنتها على البحار
إلى قبل العدوان الثنائي على اليمن، أظهر الأداء الأميركي حيال العمليات اليمنية المستمرة في البحر الأحمر، أن الولايات المتحدة تحتاج إلى مظلّة سياسية تبرّر عبرها أيّ خطوة عدائية في هذا البلد، وأنها فاقدة للمبادرة المستقلّة؛ بالنظر إلى أن الضربات اليمنية إنما تستهدف إسرائيل حصراً، ولديها سقف سياسي محدّد هو فك الحصار عن قطاع غزة، ما يعني أن أيّ معركة أميركية منفردة ضدّ صنعاء، في وقت تغرق فيه واشنطن حتى أذنيها في دعم الحرب الإسرائيلية على القطاع، ستكون لغير مصلحة الولايات المتحدة.
ولذا، عملت الأخيرة على تظهير الحركة العسكرية في منطقة باب المندب وكأنها تهديد للملاحة الدولية عموماً. لكنها عندما عجزت عن حشد التأييد المطلوب، وجدت نفسها بين خيارَين: إمّا الامتناع عن الردّ، والذي يستلزم تراجع هيبتها على المستوى الدولي، بما يعني تحفّز المنافسين الأساسيين، وعلى رأسهم روسيا والصين، لتحدّي إرادتها، وتضرّر هيمنتها على البحار والمحيطات؛ وإمّا الإقدام عليه، بما يفتح باب مواجهة مع قوة لم تستطع واشنطن حتى اللحظة فهم دوافعها وآليات عملها، كما لم تتمكّن من حصر قوتها العسكرية والأمنية بشكل كلّي ودقيق، فضلاً عن أنها عاجزة عن ضبط ردّة فعلها؛ وهذه العناوين كلها باتت تتصدّر المشهد في أعقاب عدوان ليل الخميس – الجمعة.
البحر الأحمر كبحيرة أميركية وتحديات اليمن
بنت الولايات المتحدة نظريتها للهيمنة على العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، على القبض المباشر على البحار والمحيطات والممرات المائية الحيوية، كشرط إستراتيجي لضمان التفوق الكمي والنوعي على المنافسين المحتملين، كما لضمان تحكمها في حجم نمو القدرة عند خصومها وهامش الحركة لدى حلفائها. ولكن جرأة الدولة اليمنية على تحدي هذا النظام، فتح الباب أمام العالم للتفكير في إمكانية التصادم معه عند الضرورة. وبذلك، أنجزت صنعاء ثلاثة أهداف واضحة ومباشرة:
1- كسر القرار الأميركي باستفراد غزة، ومنع تدخل أيّ طرف من خارجها في الحرب.
2- تحدّي الإرادة الأميركية في ضمان الهيمنة على البحر الأحمر لمصلحة إسرائيل.
3- ضرب الهيبة الأميركية، خصوصاً بعد أن أعلن قائد «أنصار الله»، السيد عبد الملك الحوثي، استعداد اليمن للردّ على أيّ «حماقة»، بجعل البوارج والمصالح والحركة الملاحية الأميركية هدفاً لصواريخه وطائراته المسيّرة.
ؤ يبدو أنّ الولايات المتحدة قرّرت اعتماد مزيج من الأفعال المتكاملة لإرغام اليمن على تعديل سلوكه
وتكتسب هذه الإنجازات اليمنية أهميتها الخاصة من واقع أن البحر الأحمر كان خاضعاً كلّياً للإرادة الأميركية، حيث لا توجد أيّ دولة مشاطئة له خارجة عن الطوع الأميركي؛ فكل من الأردن والسعودية ومصر والكيان الإسرائيلي يستقبل على أراضيه قواعد أميركية، فيما السودان والصومال وإرتيريا وجيبوتي دول فاشلة تقدّم خدماتها وأراضيها للإيجار. وعليه، يمكن تصنيف البحر الأحمر كبحيرة داخلية خاضعة كلياً لإرادة واشنطن، ولا سيما مع حضور الأسطول الخامس في قلب تلك المنطقة. وبالتالي، مجرّد حضور اليمن برؤيته السياسية ومشروعه العقائدي على شواطئ البحرين العربي والأحمر، بطول 2500 كلم تقريباً، يستلزم كسر الطوق الأميركي، فكيف وهو قام فعلاً بالاشتباك مع النفوذ الأمني الأميركي؟ كما أنه لم يستخدم ورقة باب المندب في خضمّ الحرب المتعددة الجنسيات التي شُنّت عليه منذ عام 2015، بل من أجل دعم قضية تعمل أميركا بجهد كبير لتصفيتها منذ عقود.
على أن مشكلة الولايات المتحدة مع اليمن، تخطّت الحرب في غزة، واتخذت بعداً دولياً مرتبطاً بالمنظور الأمني الأميركي الإستراتيجي. إذ إنّ واشنطن تحتاج إلى الاستقرار في البحر الأحمر، الذي تعني السيطرة عليه الإمساك بخناق الاقتصاد العالمي، والتحكم في طرق التجارة العالمية، وضمان مصادر الطاقة، وهو يتحكّم، وفقاً لبيان صادر عن البيت الأبيض، في 15% من التجارة العالمية، و8% من التجارة العالمية للحبوب، و12% من النفط المنقول عبر البحار، و8% من الغاز الطبيعي المسال في العالم. كذلك، لا تغفل الولايات المتحدة مصلحتها الإستراتيجية المتمثّلة في ضمان أمن الكيان واستقراره، بخاصة أن الإحصائيات الصادرة من وزارة المالية الإسرائيلية تؤكد أن ما يزيد عن 80% من احتياجات إسرائيل الأساسية تمرّ عبر البحر الأحمر، فيما تشكّل التجارة عبره 34.6% من قيمة الاقتصاد الإسرائيلي.
أيضاً، يحضر الصراع على المستقبل بين الولايات المتحدة وكلّ من الصين وروسيا، في قلب التحدّي اليمني في تلك المنطقة، حيث على ضفاف البحر الأحمر لجهة غرب آسيا، ثروات النفط والغاز وأحد أكبر احتياطيات الطاقة في العالم، وعلى الضفة الأخرى في شرق أفريقيا، الذهب واليورانيوم والمعادن الثمينة والثروات غير المستثمرة. ومن هنا، تبرز المخاطر الإستراتيجية الدائمة التي بات يمثلها الحضور اليمني الفاعل على شواطئ البحر الأحمر، والتي تجعل الولايات المتحدة تنظر إليه كنموذج يمكن أن يحفّز تحالفات دولية لإعادة صوغ الأمن العالمي في البحار والممرات من منظور جديد.
الخيارات العسكرية
منذ بدء العمليات اليمنية، بدا التفكير في الخيار العسكري بمعناه الواسع والشامل غير حاضر لدى صناع القرار الأميركي، وذلك تأسيساً على العبر المستفادة من حرب الأعوام التسعة، ولإدراك الولايات المتحدة أن هذا الخيار سيؤدي إلى اتّساع دائرة النار، وبالتالي تعريض الممرّ الملاحي الإستراتيجي لمزيد من المخاطر، بما سينعكس بدوره سلباً على الاقتصاد العالمي وهيبة الولايات المتحدة، من دون أن تكون ثمّة ضمانات حقيقية بنجاحه، ولو ضمن الحدّ الأدنى. مع ذلك، لم يعنِ ما تقدّم أن واشنطن ستتخلّى عن الخيار العسكري المحدود، والذي يستهدف توجيه رسالة ردع، وتدمير أهداف حيوية تؤثر في معادلات الاشتباك، وهو ما حاولت الولايات المتحدة، بالفعل، القيام به، عبر الضربات التي قادتها ضدّ اليمن، بالشراكة مع بريطانيا. غير أن جهل الأميركيين بطبيعة الردّ اليمني، سيكون العائق الأكبر أمام تثمير هذه المقامرة الخطرة.
قبل ذلك، واستناداً إلى اعتقادها بأن العمليات اليمنية ترتكز إلى عمق إستراتيجي ممتدّ من طهران مروراً ببغداد وبيروت، قامت بتوجيه ضربات مؤثّرة في العواصم الثلاث الشريكة، في محاولة منها للضغط بالدم على حلفاء اليمن، لكي يمارسوا ضغوطاً على صنعاء لتخفيف قبضتها على باب المندب. غير أن هذا الخيار سبق أن جُرّب في الحرب على اليمن، إذ لم تُجدِ محاولات تجاوز «أنصار الله»، واضطرت السعودية في نهاية المطاف للقبول بأن قرار اليمن موجود حصراً بيد الحوثي. أمّا الافتراض الأميركي بأن تحريك «داعش» في الداخل الإيراني سيضعف إيران ويردعها عن تزويد اليمن بالمعلومات الاستخباراتية – التي تزعم الولايات المتحدة أن الاستهدافات اليمنية تتمّ بناءً عليها – ويمنعها من إمداد صنعاء بتكنولوجيا صناعة الصواريخ، فهو افتراض إعلامي قائم على سرديات غير مثبتة، ولا يمكن التعويل عليه في مجال الردع الإستراتيجي، ولا سيما بعدما ثبت أن كلّاً من إيران واليمن لا يمكن ردعهما بالقوة الصلبة.
إزاء ذلك، تدعو بعض القراءات السياسية الأميركية إلى التسليم بأن المعضلة اليمنية لا حلّ عسكرياً لها، وأن إيجاد حلول جذرية لمواضيع على درجة عالية من الأهمية بالنسبة إلى صنعاء، كالاعتراف الدولي وفكّ الحصار بشكل كامل، من شأنه أن يخلق واقعاً سياسياً جديداً معيقاً لحرية الحركة التي يتمتّع بها اليمن اليوم، في الذهاب إلى مواجهات مفتوحة مع العالم، وبسقف مرتفع جدّاً.
خلاصة
يبدو أنّ الولايات المتحدة قرّرت اعتماد مزيج من الأفعال المتكاملة لإرغام اليمن على تعديل سلوكه، يشمل تفعيل الخيار السياسي تعويلاً على أن صنعاء ستكون مضطرّة عقبه لمعالجة نتائج الحرب كافة، ما يعني انفجار الملفات الداخلية في وجهها، وفي الوقت نفسه ممارسة ضغوط بالنار وبالحصار عليها، سواءً عن طريق تقييد حركة السفن إلى ميناء الحديدة، أو الانخراط في مواجهات مع البحرية اليمنية، أو تنفيذ غارات واغتيالات وعمليات أمنية، وهو ما بدأت واشنطن العمل عليه بالفعل. لكن هذه الإستراتجية تغفل عناصر على درجة عالية من الأهمية، في مقدّمها الطبيعة العقائدية لمشروع الدولة اليمنية، وقيمة القبيلة اليمنية في تحصين المجتمع وتأمين المناعة السياسية للدولة، فضلاً عن القدرات والعسكرية والأمنية الكبيرة لدى «أنصار الله»، والتي بات اليمن، مع تطوّرها، يشكّل الثقل الكمي والنوعي لمحور المقاومة، مسهِماً في جعل هذا الأخير لاعباً دولياً، تسعى الولايات المتحدة جاهدة إلى منع تعاظم دوره.