كل مذابح الطائرات التحالفية «الأمريكية والبريطانية والفرنسية والصينية التي استخدمتها السعودية والإمارات موثقة بالأرقام والتفاصيل والصور والمشاهد المصورة ، ولن يأتي القرار الذي أصدره مجلس حقوق الإنسان بتصويت الصين ودول أخرى بما تفترضه أمريكا وبريطانيا والسعودية ، إنما هو يكشف بجلاء عن الانحطاط الأممي والدولي في المواقف والاعتبارات ، وعن السقوط المدوي لمنظومة العمل الإنساني ومؤسساته الأممية ، وعن حالة انفلات عارمة من الإنسانية نشهدها في سوق المؤسسات الدولية والأممية ، وعن الارتداد والنكوص الذي أصاب المجتمع الدولي والأمم المتحدة عن القوانين والمواثيق التي وقعت عليها باعتبارها حاكمة لعلاقات العالم ببعضه ، وهو يكشف أيضا الانحياز والتمالؤ الأممي والدولي وحالة النفاق العامة التي برزت إزاء العدوان على اليمنيين.
وإذا كان لتحالف العدوان على اليمن بما فيه أمريكا وبريطانيا وفرنسا ، وحتى الصين ودول أوروبية أخرى باعت للقتلة في السعودية والإمارات الأسلحة والطائرات والذخائر وأدوات الجريمة، أن تظلل على مجموعة من الناس بقرارات كهذه التي تنتهك حقوق الإنسان وتطيح باعتبارات الكرامة الإنسانية والحقوق الوجودية ، فلا يمكنها أن تخفي الجرائم الفظيعة الموثقة بالأدلة المادية التي تقطع الشك باليقين ، ولا حتى إنكار ما أوردته تقارير فريق الخبراء التي صدرت في الأعوام السابقة وأثبتت وأكدت تورط أمريكا وبريطانيا وكل الدول الداعمة لتحالف العدوان بالسلاح والمعدات في جرائم الحرب باليمن ، لكن القرار في حقيقته يلخص الصورة القاتمة التي شكلتها الحرب العدوانية على اليمن للمؤسسات الأممية وللمواقف الدولية في الحال نفسه.
أكثر من ربع مليون غارة جوية مميتة لم تستثنِ أحداً أو شيئاً في اليمن ، قتلت ما يزيد عن خمسين ألف شخص بينهم الأطفال والنساء والكبار والشيوخ ، ودمرت مدنا بأكملها وتركتها أطلالا وخرابا بلا سكان ، حصار مطبق خلّف آثاراً مدمّرة على المدنيين وتسبب في وفاة أكثر من 100 ألف مريض عجزوا عن السفر للخارج ، علاوة على أضرار كارثية لحقت بالأطفال المولودين وعلى الأجنة في بطون أمهاتهم ، إعدامات ميدانية للأسرى ، وخطف واحتجاز تعسفي وإخفاء قسري وعمليات تعذيب ممنهجة في عدن ومارب والساحل وتعز وكل المناطق والمحافظات الخاضعة لسيطرة تحالف العدوان.
أكثر من ربع مليون غارة جوية لم تكن تزف أعراس اليمنيين ، بل استهدفت مناطق سكنية وأسواقاً وجنازات وحفلات زفاف وسجوناً وقوارب مدنية ومرافق طبية ، وحافلات أطفال ومدارس ومقابر وحتى مراكز المكفوفين وحفارات المياه ومضخات الشرب ومولدات الطاقة ومعامل الإنتاج ومصانع الأدوية وإسطبلات الخيول ومزارع الأبقار والأغنام والدواجن ، وسيارات المسافرين ومركبات وناقلات الغذاء والنقل والخطوط والجسور والأحياء السكنية والمعاهد والجامعات ومراكز محو الأمية والمباني الحكومية والوزارات، والمجال لا يتسع لحصر ما استهدفه تحالف العدوان من أهداف مدنية ، وإذا لم تَرْقَ هذه الأفعال إلى جرائم حرب فليأت العالم القبيح بتعريف لجرائم الحرب!
تجويع شامل ومتعمد من خلال فرض حصار جوي وبري وبحري على 29 مليون مدني يعانون الجوع والمرض والموت وانقطاع المرتبات وانعدام الوقود والأدوية والغذاء ، إذا لم يشكل جريمة إبادة فماذا بقي للإنسانية من حقوقها على ضوء هذه الاعتبارات المنتهكة للكرامة والحياة!
كل جرائم العدوان على اليمن موثقة ومشهودة ترويها الصور والمشاهد والحكايات والأدلة والشهود ووسائل الإعلام والصحافة ، ومحاولة أمريكا وبريطانيا والسعودية والإمارات وكل الدول المتورطة في العدوان على اليمن نفض يدها من تلك الفظائع المرتكبة بحق الشعب اليمني لن تؤول إلا إلى فضائح تضاف إلى سجلات فضائحية كبرى شهدناها طيلة سنوات الحرب العدوانية على اليمن ، وبدا أمامنا عالم متوحش يقتل ويدمر شعبا بالقوة الغاشمة ثم يذهب للمتاجرة بالمأساة في مؤسسات يفترض بأنها معنية لحماية الإنسانية والدفاع عنها.
لم تكن مذبحة الأطفال في صعدة في آب/ أغسطس 2018، ضربة عشوائية بل موجهة بدقة استخدمت فيها ذخائر أمريكية وبطائرة أمريكية ، ولم تكن مذبحة العزاء في صنعاء في أكتوبر مثل هذا اليوم من العام 2016 إلا ضربة دقيقة وموجهة باستخدام قنابل أمريكية الصنع وعن سابق رصد وتعمد في الاستهداف ، وما كان لكل هذه الجرائم والفظاعات والانتهاكات والقتل والتدمير للبنى والمنشآت والملاعب والمدارس والمستشفيات والجسور والطرقات والأسواق والأعراس والعزاء والتجمعات النسائية والاستراحات وغيرها أن تحدث لولا الدعم الأمريكي العسكري والاستخباري بالإشراف والإدارة المباشرة لعمليات القصف والإسناد الجوي ورصد الأهداف وتحديدها وإصدار أوامر الاستهداف والإمدادات اللوجستية وغيرها ، وما كان لكل ذلك أن يحدث لولا مبيعات السلاح والحمولات التي تدفقت من أوروبا وبريطانيا الصين وأمريكا إلى السعودية ، وما كان لتحالف العدوان أن يرتكب أكثر من خمسين ألف مذبحة خلال سبعة أعوام لولا النفاق الدولي والأممي بل والتواطؤ في ذلك.
ولا ننسى أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنذ اليوم الأول لم يتعمدا المساواة بين الضحية والجلاد فحسب، بل وباركا عمليات القصف التي استهدفت المدنيين وقتلت الأطفال والنساء ودمرت المنشآت والبنى وبزعمها حرب لإعادة الشرعية اشتركا في مد تحالف العدوان بالذرائع والعناوين ومنحه الغطاء السياسي ، ومذ بدأ العدوان العسكري على اليمن وفرض الحصار البري والبحري والجوي على شعبه شهدنا مواقف مخزية ومخجلة للأمم المتحدة ولمجلس الأمن لم يسبق لها مثيل في كل حروب الدنيا ، وللتذكير «حين سحبت الأمم المتحدة اسم السعودية من لائحة قتلة الأطفال ، وإعلان الأمين العام للأمم المتحدة بأنه رضخ لمطالب السعودية التي هددت بوقف التمويل للأمم المتحدة إذا لم يزلها من اللائحة السوداء ، رغم ذلك فقد قرأنا بيانات من أمريكا وبريطانيا ومن الصين وغيرها تؤيد شطب اسم السعودية من اللائحة ، وبكل وقاحة وانسلاخ اعتبرته خطوة إيجابية.
هذا التواطؤ الأممي والغطاء الدولي ما دفع القتلة أمريكا وبريطانيا والسعودية إلى التمادي في الجريمة ، ليس بالدفاع عنها فحسب ، بل وفي رفض الاستنكار لها ، لقد قتل الشعب اليمني ودمرت بناه فيما المجتمع الدولي والأمم المتحدة يواصلان النفاق والتضليل ؛ لا لشيء إلا لأن مملكة الإنسانية تنفق مبالغ طائلة لشراء المواقف وشراء صفقات السلاح من الدول المصنعة من الشرق والغرب ، ولأن الضحايا شعب من الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم!