هبة القدس وحدت فلسطين وهزت الكيان وانظمة التطبيع
سركيس ابوزيد
تعيش القدس حالة من التصعيد منذ بداية شهر رمضان بسبب إستهداف مستوطنين للمسجد الاقصى ومحاولة السلطات الاسرائيلية إخلاء منازل في “الشيخ جراح” في المدينة لصالح المستوطنين وتهجير اهله، سرعان ما انطلقت شرارته الى الضفة الغربية وقطاع غزة، وتدفق آلاف المواطنين العرب في الكيان الإسرائيلي المعروفين بـ”فلسطينيي 48 “لنصرة الفلسطنيين في القدس والمسجد الاقصى، وقد أدت هذه التطورات، إضافة الى إشتعال إنتفاضة عارمة وتوحيد الجبهة الفلسطينية ضد الكيان الإسرائيلي، الى تحريك المجتمع الدولي ومجلس الامن، وإغضاب واشنطن التي ساءها تقويض الاستقرار في هذه اللحظة الحساسة. ولما كانت الامور تطورت على غير متوقع بالنسبة للاسرائيليين وأربكت حساباتهم، بادروا الى إجراءات علها تستبعد مواجهة مفتوحة على جبهتين في غزة والضفة، ومن هذه الاجراءات الغاء المناورات الضخمة التي كانت مقررة لمدة شهر، وذلك لاول مرة في تاريخ الجيش الاسرائيلي. وتم تضمينها مخططات دفاعية وأخرى هجومية ستواجه خطر حرب شاملة على جميع الجبهات من الشمال إلى الجنوب في آن واحد، وأطلق عليها إسم “شهر الحرب”. لكنها لم تتوقع أن يتحول الخيال إلى واقع وتنشب فعلا أحداث كبيرة في القدس تمتد إلى الضفة الغربية والبلدات العربية في الكيان الإسرائيلي . ولهذا قررت إحداث تغييرات في المخطط المسبق، ثم قررت تجميده فجأة .
سرعان ما بدأت المواجهة تأخذ منحى مختلفا وتحولت في اتجاه “التصعيد العسكري” لتلامس الخط الأحمر وخطر الذهاب الى “حرب صغيرة”…خاصة بعد ان وصل القصف الى القدس ، للمرة الاولى منذ العام 2014.
هذه الجولة القتالية الجديدة تكتسب أهمية سياسية، نظرا لتوقيتها وظروفها وما تنطوي عليه من رسائل وأهداف:
1ـ يجري التصعيد العسكري في ظل أزمة سياسية حكومية حادة يعيشها الكيان الإسرائيلي، ودفعت به الى أربع انتخابات عامة في غضون سنتين، وعجز في تشكيل حكومة واحتمال الذهاب الى انتخابات خامسة .
2ـ من جهة ثانية، تجري هذه التطورات العسكرية في ظل “أزمة صامتة” تدور بين الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة بسبب إيران وقرار إدارة بايدن بالعودة الى الاتفاق النووي ورفع العقوبات.
لذلك لم يبق أمام تل ابيب الا لعب ورقة الخيار العسكري بهدف التشويش والتخريب على أجواء المفاوضات او إستدراج الولايات المتحدة الى مواجهة عسكرية مباشرة في المنطقة يمكن أن تشمل إيران.
الخلاف الاميركي ـ الاسرائيلي لا يقتصر على الملف الايراني، وإنما يشمل أيضا الملف الفلسطيني. صحيح أن إدارة بايدن وقفت الى جانب الكيان الإسرائيلي دبلوماسيا عندما طلبت “تريث” مجلس الامن قبل اتخاذ أي موقف من التطورات الجارية، ولا سيما في القدس الشرقية، ولكن المسؤولين الاميركيين بدأوا يظهرون مزيدا من الانتقادات للسياسات الاسرائيلية في الاراضي الفلسطينية المحتلة، بخالف النهج الذي اعتمده الرئيس السابق دونالد ترامب.
تدحرجت المواجهة بين الكيان الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية مثل كرة ثلج وأخذت ملامح الذهاب الى “مواجهة شاملة”، في ظل تكثيف عمليات القصف الاسرائيلي على قطاع غزة، بما في ذلك الابراج السكنية، مقابل تواصل إطلاق الصواريخ الفلسطينية على مدن إسرائيلية كبيرة (القدس ـ تل أبيب، عسقلان…) المجلس الوزاري المصغر للشؤون الامنية والسياسية إجتمع بقيادة نتنياهو ومنح الجيش حرية مطلقة لتنفيذ عمليات حربية بمختلف المستويات، بما في ذلك إغتيالات ضد قادة حماس والجهاد، باستثناء الاجتياح البري في هذه المرحلة.
وبحسب المحلل العسكري في “يديعوت أحرونوت” ألكس فيشمان: ” حماس شرعت عمليا في معركة إقليمية لا تشمل غزة فقط وإنما أجزاء من يهودا والسامرة (لضفة الغربية)، عرب شرقي القدس وقسم من عرب إسرائيل “. وأضاف “إن حلم رئيس حماس في غزة يحيى السنوار، يجب تحطيمه قبل أن يولد “.
في الواقع، تحاول حماس الدخول على خط تغيير قواعد اللعبة والاشتباك و”تقتبس” من تجربة حزب الله وخبراته العسكرية والامنية.
في جانب الكيان الاسرائيلي، تكثر الاسئلة التي تتعدد إجاباتها وتتشابك: ما هو المخرج السياسي من جولة التصعيد الحالية؟ ومتى وكيف يمكن للكيان الاسرائيلي إنهاء المواجهة ؟ هل بات أي قرار عدائي يصدر عن تل أبيب يستلزم تدخلا جماهيريا، وفي أعقابه تدخلا عسكريا في غزة؟ هذا السؤال الاخير هو أكثر ما يشغل بال صاحب القرار في تل أبيب، وهو ما يعمل عليه الان، إن باتجاه منع المعادلة، أوالتقلبل من تأثيراتها على مجمل الوضع القائم بين الكيان الإسرائيلي والفلسطينيين.
قد يأتي قرار التهدئة سريعا، وقد يتأخر أياما إضافيةـ لكن هناك إمكانية التدحرج الميداني نحو مواجهة واسعة لا يريدها طرفاها. ويرى محللون إسرائيليون أن “هناك مسوغا ذا وزن ثقيل ضد الانجرار إلى عملية عسكرية واسعة، على غرار “الجرف الصامد” (العدوان على غزة عام 2014).
أولا: العملية العسكرية الاصلية قبل سبع سنوات لم تحقق الكثير، مثلما يعلم الاشخاص الذين قادوها…لذلك يتخوفون الان من فشل العمليات بتحقيق المكاسب المرجوة.
ثانيا: الكيان الاسرائيلي الذي يهدد الان بالانتقام من حماس، هو الذي تجاهل وجودها طوال سنين في القطاع الذي نجح في تطوير قدراته وخبراته.
ثالثا: الجهة التي ستتخذ القرارات في تل ابيب، هي حكومة متخاصمة، ونصف الجمهور على الاقل فقد الثقة بشكل كامل برئيسها ويعيش حالة احباط وخوف على مستقبله ووجوده.
التطورات الميدانية قد تحمل مفاجات غير متوقعة. لكن حتى الان نجحت هبة القدس التي وحدت فلسطين ان تتحول الى انتفاضة جديدة تلهب الجماهير وتهز عروش انظمة التطبيع وتحدث موجة متصاعدة باتجاه فرض معادلة جديدة تضيف الى محور المقاومة قوة فاعلة.