نص كلمة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي في مناسبة يوم الولاية 1440هـ
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارض اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
بمناسبة هذا اليوم المبارك الأغر الثامن عشر من شهر ذي الحجة، الذي هو يوم عيد الغدير، المناسبة الإسلامية العظيمة والمهمة، المناسبة التي تضمنت الإعلان التاريخي العظيم، الذي نزل الأمر من الله -سبحانه وتعالى- إلى رسوله وخاتم أنبيائه محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- لتبليغه في مثل هذا اليوم: الثامن عشر من شهر ذي الحجة، من السنة العاشرة للهجرة، أثناء عودة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- من حجة الوداع، في هذه المناسبة المباركة يحتفل شعبنا العزيز في كثيرٍ من المحافظات والمناطق، ويتجمع الناس لإحياء هذه المناسبة بتعابير وأشكال متعددة، تتضمن فقرات، وتتضمن كلمات، وكذلك ما يتعلق بالشعر، ومظاهر أخرى من الابتهاج وإظهار السرور والفرح في هذه المناسبة، والتفاعل مع هذه المناسبة، نحن أولاً نتوجه بالمباركة والتهاني إلى كل الإخوة والأخوات من المؤمنين والمؤمنات الذين يعترفون للرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- بهذا البلاغ العظيم ويؤمنون به، ثم نؤكد على أهمية إحياء هذه المناسبة؛ باعتبار ذلك أولاً من الشكر لنعمة الله -سبحانه وتعالى- الله -سبحانه وتعالى- الذي قال في كتابه الكريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: من الآية3]، فالاحتفال بهذه المناسبة هو من الشكر لهذه النعمة العظيمة من الله -سبحانه وتعالى- وهو أيضاً من الشهادة بكمال الدين، الشهادة بكمال الدين الإسلامي أن الله أكمله وأتمه ليتناول كل شؤون الحياة بمختلف مجالاته، ولم يترك جوانب رئيسية ومهمة بدون أن يحدد فيها على ضوء دينه وضمن توجيهاته -سبحانه وتعالى- الهداية اللازمة التي تصلح بها حياة الإنسان، والشهادة بكمال الدين لها أهمية كبيرة فيما تعنيه من الشهادة لله -سبحانه وتعالى بحكمته، برحمته، بعدله، بقدسيته، والاحتفال أيضاً بهذه المناسبة والإحياء لها هو أيضاً شهادةٌ للرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- بالبلاغ لذلك الأمر الإلهي الذي أمر بإبلاغه في آيةٍ قرآنيةٍ مهمة، سنأتي للحديث عنها، وهو كذلك عملية توثيقية لنقل هذا البلاغ جيلاً بعد جيل؛ لأن هذه المناسبة يحتفل بها المؤمنون جيلاً بعد جيل على مر التاريخ، منذ زمن طويل، هنا عندنا في اليمن احتفل بها الآباء، واحتفل بها الأجداد، وتوارثتها الأجيال، فالاحتفال بحد ذاته يمثل عملية توثيقية، وعملية نقل لهذا البلاغ من الأجيال، من جيلٍ إلى جيل، وشهادة للرسول بالبلاغ، وشهادةٌ أيضاً أو تفاعلٌ مع هذا البلاغ، تفاعلٌ من خلال الإيمان بهذا البلاغ في نصه، وفي مضمونه، وفي مدلوله، وهذه مسألة مهمة جداً.
عندما نأتي إلى هذا البلاغ التاريخي الذي يستحق أن نقول عنه: أنه بلغ أعلى درجات الأهمية، يتضح ذلك من النص القرآني، ويتضح ذلك بالنظر إلى الظروف والوضعية التي نزل فيها هذا البلاغ، وبالنظر إلى الترتيبات التي عملها الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- لتقديم وتبليغ هذا البلاغ المهم، وأيضاً في مضمون ومحتوى هذا البلاغ، وعلاقته بالأمة في دينها وفي واقع حياتها.
الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في السنة العاشرة من الهجرة النبوية، يعني: ما قبل وفاة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- بأقل من ثلاثة أشهر، في آخر السنة في شهر ذي الحجة، وهو عائدٌ من حجة الوداع، وسميت بحجة الوداع لأن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- أشعر الأمة في هذه الحجة وفي ذلك الحج أشعر الأمة بقرب رحيله من هذه الحياة، هو قال في خطابه الشهير في حجة الوداع، ولعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في مناسبة الغدير نفسها، في المناسبة التي ألقى فيها بالكلمة أثناء عودته من الحج قال أيضاً كلمته الشهيرة: (يوشك أن أدعى فأجيب)، يعني: أنا على وشك الرحيل من هذه الحياة اقترب رحيلي من هذه الحياة، أكملت مهمتي، أديت دوري بقي فقط هذه النقطة التي تحتاج إلى هذا الإعلان العام، في هذه الظروف التي رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- يعلن فيها عن قرب رحيله من هذه الحياة، بكل ما لذلك من تأثير كبير في واقع الأمة، ما يحدثه ذلك من فراغ كبير جداً، ما يتركه ذلك من قلق بالغ على مستقبل الأمة ما بعد وفاة نبيها -صلوات الله عليه وعلى آله- فيما كان يمثله رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وفيما كان له من أهمية قصوى، وهو الرسول بكل ما تعنيه الرسالة الإلهية، في موقع النبوة والرسالة، يؤدي مهمته كرسولٍ ونبيٍ لله -سبحانه وتعالى- يبلغ رسالة الله، ويقوم هو عملياً بإقامة دين الله، والتنفيذ لتلك الرسالة الإلهية والتطبيق لها، والإشراف على تطبيقها في واقع الحياة، الفراغ الكبير الذي يمكن أن يتركه النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- ما بعد وفاته في موقع الهداية والقدوة والقيادة، والتحرك بالأمة في مسيرة الإسلام بكل جوانبها: التربوية، والتنفيذية، والعملية، بكل ما يتعلق بها من مسؤوليات، وبكل ما يرتبط بها من: إجراءات، وسياسات، ومواقف، وتوجهات، يمكن أن يترك هذا الرحيل بما يتركه من فراغ هاجساً كبيراً لدى الناس، ليست المسألة عادية، من حق الناس أن يتساءلوا وأن يقلقوا تجاه مستقبلٍ يحدث فيه هذا الفراغ، وفراغ كبير، رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- بكماله العظيم، وهو خاتم النبيين وسيد الأنبياء والمرسلين، وهو الذي بلغ ذروة الكمال البشري في الكمال الإيماني، في الكمال الأخلاقي، في الكمال الإنساني… في كل جوانب الكمال فيما يمكن أن يصل إليه بشر، وبالتأكيد المسألة في غاية الأهمية وفي غاية الخطورة، ولذلك عندما كان النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- في مراحل متعددة، وفي مناسبات مختلفة كان النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- يتحدث بما يحدد للأمة من يرتبط بالنبي -صلوات الله عليه وعلى آله- ضمن دورٍ محدد لإكمال المسيرة الدينية، لإكمال المسيرة الإلهية، لإكمال مسيرة الإسلام، ففي مناسبات متعددة ومتنوعة كان النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- يتحدث عن الإمام عليٍ -عليه السلام- حديثاً مميزاً، ليس مجرد إشادة تشجيعية. لا، إنما كان يتحدث بعبارات تبيِّن موقع الإمام علي -عليه السلام- في علاقته برسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وفي دوره المنوط به ضمن مسيرة إقامة الإسلام، الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- عندما قال في الحديث المعروف بين الأمة، المتواتر بين الأمة باختلاف مذاهبها عن عليٍ -عليه السلام-: أنه منه بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه– كما قال في الحديث -صلوات الله عليه وعلى آله– لا نبي بعدي، فالإمام عليٍ -عليه السلام- له هذه المنزلة، له هذا الموقع، له ويرتبط به هذا الدور: (بمنزلة هارون من موسى، إلا…) المستثنى من هذا الدور فقط هو النبوة؛ لأن هارون كان نبياً، أما الإمام عليٌ -عليه السلام- فليس بنبي، ختمت النبوة برسول الله محمد -صلوات الله عليه وعلى آله- وهو يؤدي هذا الدور بصفة الولاية، الامتداد امتداد الولاية، ولهذا الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- تحدث في هذا الحديث بعبارة تحدد لنا طبيعة الدور المنوط بالإمام علي -عليه السلام- المسؤولية التي عليه، ولكن بأجلى بيان؛ لأن هذا التوصيف الذي ذكر فيه موسى -عليه السلام- ثم هارون -عليه السلام- ثم موقع هارون من موسى -عليهما السلام- وهو موقع الوزير {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي}[طه: الآية29]، المناصر، المعاضد، الخليفة، {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}[الأعراف: من الآية142] قال له، هذا الدور المنوط بهارون -عليه السلام- كان واضحاً في القرآن الكريم ومعلوماً في سيرة الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- فأن يقدم الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- المسألة ويقدم لها نموذجاً، ويقدم لها مثالاً واضحاً، يحددها، يبينها، يجليها، هو قدَّم ما يكفي ويفي، ثم في مناسبات كثيرة تحدث فيها عن كمال الإمام عليٍ -عليه السلام- الإيماني، عندما قال في معركة خيبر بعد فتح الحصن، أو قبل فتح الحصن عندما أراد أن يبتعث علياً -عليه السلام- لهذه المهمة الاستثنائية وتحدث بذلك الحديث المعبر عن الكمال الإيماني القطعي: (رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارٌ غير فرار، يفتح الله على يديه)، هذه المواصفات الإيمانية القطعية التي تتحدث عن ماذا؟ عن مكنون القلب ومخفي الصدر، عمَّا في العمق، التي تشهد بشكلٍ قاطع على ما في أعماق الإمام عليٍ -عليه السلام- من أعلى ومن أسمى ومن أعظم ما يعبر عن الإيمان، الإيمان العظيم، الإيمان الذي يقوم أو ينبعث وينطلق من هذه المحبة المقطوع بها بشهادة الرسول عن الله -سبحانه وتعالى-: (رجلاً يحب الله ورسوله)، فهو على هذا النحو من الإيمان المقطوع به، ثم يقول: (ويحبه الله ورسوله)، ليبيِّن العلاقة المتبادلة هذه: علاقة الإمام علي -عليه السلام- بالله ورسوله، بمحبته الإيمانية العظيمة، في محبته لله -سبحانه وتعالى- المحبة الإيمانية التي قال عنها الله في القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}[البقرة: من الآية165]، حباً يفوق كل حب، حب من يبعث على الانطلاقة العملية بناءً على أساس الاستقامة ضمن منهج الله وتعليماته -سبحانه وتعالى- بكل رغبةٍ وشوقٍ ولهفة، ثم هذه المحبة العظيمة التي ينتج عنها طهر المشاعر، زكاء النفوس، صفاء النفوس التي تصلح باطن الإنسان؛ فيصلح ظاهره، وتسموا وتصلح أعماله، أما في علاقته بالرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وهو يحب رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وهو أوعى الأمة وأعظمها معرفةً بعظيم منزلة رسول الله ومكانة رسول الله وأهمية رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- فكانت علاقته بالرسول كمؤمنٍ بهذا الرسول، متبعٍ لهذا الرسول، مقتدياً بهذا الرسول، علاقة مميزة، هو عاش في ضل أجواء التربية النبوية التي حظي بها مع رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- طول مسيرة حياته، حتى لحق الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- بالرفيق الأعلى.
كم من مقامات عبَّر عنها الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- عن الإمام عليٍ -عليه السلام- في منزلته في الإسلام، وفي دوره المهم، وفي مقامه المهم، عندما كان يقول: (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)، عندما يردد في مناسبات أخرى الشهادة والنص على أيضاً كمالات إيمانية تتعلق بالإمام عليٍ -عليه السلام- هنا أو هناك، في كل ذلك في كل تلك المناسبات هو كان يؤشر إلى الإمام علي -عليه السلام- وكان يسعى إلى أن يربط الأمة بالإمام عليٍ -عليه السلام- ضمن هذا الدور المهم للإمام علي -عليه السلام-.
يأتي البلاغ في مناسبة يوم الغدير ليمثل تتويجاً لكل تلك الإشارات، ولكل تلك التنبيهات، لكل تلك النصوص في تلك المناسبات المختلفة، وليمثل إعلاناً عاماً وقد حضرته جموع الأمة- بمناسبة الحج- التي ذهبت لحجة الوداع، بعد عملية استدعاء للرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- استدعاء من جانبه للأمة للحضور في ذلك الحج بأقصى ما يمكن، مطلوبٌ من كل الذين يمكنهم أن يحضروا أن يحضروا في ذلك الحج؛ لأن فيه بلاغات مهمة، ونداءات مهمة، وتوجيهات مهمة، وتعليمات مهمة، فرسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وهو عائدٌ في تلك الظروف الحساسة المهمة، التي أبلغ فيها الأمة عن قرب رحيله من هذه الحياة، بكل ما لذلك من تأثير، بكل ما يتركه ذلك من قلق في واقع الأمة، وهو في الطريق من مكة يريد العودة إلى المدينة وصل إلى وادٍ ما بين مكة والمدينة، هو إلى مكة أقرب، وهذا الوادي يعرف بخم، وفي هذا الوادي غدير (ماء)، بالقرب من هذا الغدير الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- نزل عليه قول الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة: الآية67]، هذه الآية المباركة والتي هي من آخر ما نزل من القرآن الكريم، والتي عادةً ما نذكّر نحن والكل يذكّر بأنها تضمنت ما يدل على أهمية هذا البلاغ، وبأنه في أعلى درجات الأهمية؛ لأنه حينما يقول له: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، وهو قد بلغ التوحيد بأهمية هذا المبدأ العظيم: مبدأ التوحيد لله -سبحانه وتعالى- وبحساسيته الكبيرة في الواقع العربي والواقع البشري عموماً، الواقع العالمي آنذاك، بلّغ شرائع الإسلام في معظمها، بلّغ كذلك المبادئ، المواقف، القيم، الأخلاق، قد خاض مختلف أنواع الصراع مع المشركين العرب، مع اليهود وحسم الموقف معهم، مع النصارى وحسم الموقف معهم، قد أعلن المواقف الرئيسية واتخذها في كل تلك المراحل الماضية، منذ بعثته بالرسالة وإلى ذلك اليوم، العقائد في معظمها قد بلّغها، العقائد الرئيسية يعني قد بلّغها، معظم القرآن الكريم قد نزل، فالرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- يعني في المرحلة الأخيرة ما قبل وفاته بأقل من ثلاثة أشهر يقول له: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، هذه الآية المباركة من أهم الآيات التي ينبغي التوقف عندها ملياً، والتأمل فيها، والتدبر لمحتواها العظيم؛ لأنها من آيات الله المهمة التي تضمنت هدياً لنا، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى هدى الله -سبحانه وتعالى- نحن كأمةٍ مسلمة في أمس الحاجة إلى أن نهتدي بهدى الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه النور، لأنه النجاة، لأنه الفلاح، لأن في الاهتداء به وعياً والتزاماً عملياً الخير كله، والفلاح، والنجاة، والفوز.
ولذلك هذه الآية المباركة هي قدمت لنا ولفتت انتباهنا إلى أهمية هذا البلاغ؛ لأن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- لم يكن ممتنعاً عن تبليغ ما أمره الله بإبلاغه، ولا يمكن أن يمتنع من ذلك، أو أن يحاول التنصل عن ذلك أو التهرب من ذلك، هو منذ بداية البعثة الإلهية له بالرسالة إلى الناس- بدايةً من مجتمعه في مكة- صدع بأمر الله -سبحانه وتعالى- حتى في أهم المسائل الحساسة آنذاك، في مقدمتها التوحيد، ومبادئ مهمة جداً، وهو خاض الغمرات للحق، ولإقامة دين الله، ولإقامة رسالة الله في مواطن كثيرة، وواجه التحديات والصعوبات الجمه والمتعددة؛ فهو لا يحتاج إلى أن يخاطبه الله بهذه الطريقة لكي يبلغ، أن يقول له: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، لا يحتاج إلى هذا المستوى من التعبير والخطاب له لكي يبلّغ، وإلَّا كان قد يمتنع، أو يرفض، أو يتنصل ويتهرب عن الإبلاغ. حاشاه! هو -صلوات الله عليه وعلى آله- في إيمانه العظيم بالله، في علاقته بالله -سبحانه وتعالى- في كماله العظيم وتهيئته للقيام بمسؤولياته في الرسالة والنبوة، أعلى شأناً من أن يتنصل أو يمتنع عن إبلاغ أي شيءٍ مما أمره الله بتبليغه، هذه لنا نحن، لنا نحن المسلمين، لنا نحن الأمة؛ لكي ندرك ماذا يعنيه هذا البلاغ، أهمية هذا البلاغ، عندما يقول: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}؛ لتدرك الأمة بكلها، لندرك جميعاً مستوى الأهمية لهذا البلاغ التاريخي العظيم، أنه في أعلى درجات الأهمية من حيث موقعه في الدين نفسه، في الهداية الإلهية نفسها، في التوجيهات الإلهية نفسها، في أثر الدين في واقع الحياة، في فاعلية الدين في واقع الحياة، في ثمرة الدين في واقع الحياة، له هذه الأهمية الكبيرة التي لو أهمل بها هذا الجانب وجُمِّد وعُطِّل وشطب، يبقى الدين بكله فيما يبقى منه من طقوس، فيما يبقى منه من أخلاقيات هامشية، يبقى معطلاً، لا تنتج عنه الثمرة المطلوبة كمشروعٍ للحياة، كمنهجٍ للحياة تقوم عليه الحياة في كل مجالاتها؛ لأن هذا الدور العظيم للدين، والذي قام به الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وأحياه في واقع الأمة التي آمنت بهذه الرسالة وأسلمت، هذا الدور، هذه الثمرة في واقع الحياة لا يمكن لها أن تستمر بدون أن يكون هناك من يعمل على هذه الاستمرارية، من يقوم بهذا الدور ومن موقع الولاية إن لم يكن من موقع النبوة والرسالة، {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، هذا المستوى من الأهمية الكبيرة.
ثم يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، هذا يدلل على مدى حساسية هذا الموضوع في واقع الناس، وبقيت هذه المسألة حساسة على مر التاريخ مع تعاقب الأجيال، مسألة حساسة جداً، هي في أعلى مستويات الأهمية، وهي أيضاً في أعلى مستويات الحساسية تجاه الموقف، في الموقف من الكثير من الناس تجاه هذه المسألة، الحساسية تجاهها نظراً لدورها الفعال والمؤثر في واقع الناس، وسنأتي على هذا بنحوٍ من التفصيل.
الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- عندما نزلت عليه هذه الآية المباركة هو عمل الترتيبات اللازمة المنسجمة أيضاً مع هذه الآية المباركة، ترتيبات تقدِّم هذا البلاغ الإلهي بأهميته، وتلفت الانتباه إلى أن هذا البلاغ هو في غاية الأهمية، والرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- كان قديراً في تقديم ما يقدمه وفي تبليغ ما يبلغه من رسالة الله -سبحانه وتعالى- وتوجيهاته وتعليماته مع إعطاءه الأهمية اللازمة، وبالتفاعل معه بمستوى ما هو عليه من الأهمية، وهذا كان جزءاً من وظيفته الرسالية، من دوره كنبيٍ ورسول، مما تستلزمه مهمته ودوره في إبلاغ الرسالة وفي تقديم الدين الإلهي، ولذلك رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- بكماله القيادي والإداري، بكماله في مسألة التبليغ، وقدراته التي وهبه الله -سبحانه وتعالى- إياها نفذ هذه المهمة بشكلٍ ملفت جداً، الوقت كان وقت الظهيرة في شدة حرارة الشمس، المنطقة منطقة مهمة، هذا الوادي يقع عند مفترق الطرق، قبل أن يتفرق الحجيج للذهاب إلى مختلف الاتجاهات للعودة إلى أوطانهم، أمر بعودة السابق وانتظار اللاحق، وجمع الجميع اجتماعاً طارئاً استثنائياً، في ظل ذلك الجو من الحرارة الشديدة، في منطقة واضحة ومكشوفة، والجو أيضاً كان صافياً جداً، في منتصف النهار، لم يكن هناك من ضباب، المنطقة لم يكن فيها ما قد يؤثر على الرؤية، هيأ الجو اللازم؛ لتكون عملية الإبلاغ هذه على أرقى مستويات الوضوح، وألَّا يشوبها أي التباس، اجتمع عشرات الآلاف من الحجيج في تلك اللحظة، وأكتمل الحشد، وعاد الكل إلى ذلك المكان المحدد للاجتماع، من سبقوا عادوا، ومن كانوا متأخرين قد لحقوا ووصلوا، وجُمعت أقتاب الأبل بأمرٍ من رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-؛ لتكون منصةً ليصعد عليها الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- صعد عليها ومعه عليٌ -عليه السلام- بأمره، والرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- خطب في تلك الجموع الغفيرة وكلها منصتة ومستمعة ومصغية خطاباً مهماً، كرر فيه الإشعار لأمته بقرب رحيله من هذه الحياة، دلها على التمسك بالثقلين: (إني تاركٌ فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم به لن تظلوا من بعدي أبداً: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)، واصل خطابه في هذا السياق، ثم في المرحلة التي قد شمل فيها الإنصات وعمَّ فيها التركيز، وباتت كل الجموع في كامل الإصغاء والتركيز والانتباه، قدَّم الإعلان الذي يمثل الموضوع الرئيسي للخطاب، قائلاً: (يَا أَيُّهَا النَّاس إِنَّ اللهَ مَوْلَاي، وَأَنَا مَوْلَى المُؤْمِنِينَ، أَوْلَى بِهِم مِنْ أَنْفُسِهِم، فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَهَذَا) وأخذ بيد عليٍ -عليه السلام- ورفع يده مع يد عليٍ -عليه السلام- إلى الأعلى: (فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ)، كان هذا الإعلان هو مضمون ذلك البلاغ الذي قال عنه الله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.
الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في مقامه ذلك وفي خطابه ذلك أقام الحجة على الأمة؛ لأن هذا البلاغ ستتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل، وسيبقى حاضراً في تراث الأمة، وموثقاً بأشكال متعددة في واقع الأمة عبر الأجيال، الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في نفس ذلك المقام كان يقول: (أَلا هل بلغت)، فيشهدون له بالبلاغ، فيقول: (اللهُمَّ فاشهد)، (أَلا هل بلغت) يشهدون له بالبلاغ، يقول: (اللهُمَّ فاشهد).
الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- بالآية المباركة، بتلك الترتيبات التي عملها، بكيفية تقديمه وإعلانه لهذا البلاغ الذي مثَّل تتويجاً- كما قلنا- لكل ما سبقه من النصوص التي تحدثت عن عليٍ، وعن منزلته، وعن مقامه، وعن دوره في هذه الأمة، كان ذلك النص، كان ذلك البلاغ هو التتويج والإعلان العام وفصل الخطاب في هذه المسألة، ولذلك لم يبقَ هناك أي تساؤلات ولا تحليلات ولا نقاشات تتعلق بفترة الفراغ ما بعد وفاة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- ولا ينقل التاريخ ولا ينقل السيّر أن تلك المرحلة التي قال عنها الرسول: (إني أوشك أن أدعى فأجيب، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، ولعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، في كل تلك المناسبات التي بلَّغ فيها تحدث فيها عن قرب رحيله ووفاته والتحاقه بالرفيق الأعلى، لم تكن الساحة الإسلامية تعيش حالة النقاش والجدل والاستفهام والأخذ والرد في فترة ما بعد وفاة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- لماذا؟ مع أنها مسألة في غاية الأهمية، كان من الطبيعي جداً أن تمتلئ الساحة الإسلامية بعد إشعار الناس بقرب وفاة الرسول، بقرب رحيله -صلوات الله عليه وعلى آله- بوداعه للناس في حجة الوداع، تمتلئ الساحة الإسلامية بالجدل والنقاش، وعن ما يتركه رحيل النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- من فراغ في الساحة الإسلامية، أن تمتلئ الساحة بالجدل والنقاش والتحليلات، نحن من واقع التجربة في هذه الحياة كلنا يعلم أن رحيل أي زعيم، أو الحديث عن رحيله بمجرد أن يمرض (أمير، أو قائد، أو زعيم) مرضاً يوشك فيه على مفارقة هذه الحياة، أو يصاب، أو يتعرض لخطورة، يأتي الأخذ والرد والجدل والنقاش عن ما يتركه من فراغ.
الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- عندما أشعر الأمة بقرب رحيله هو- في نفس الوقت- سبق ذلك بمؤشرات، وأكثر من المؤشرات، بنصوص واضحة، بتعابير جلّية، بأمثلة حاسمة في إعطاء الصورة بشكلٍ كاملٍ وواضح، عندما يقول: (بمنزلة هارون من موسى)، ومع ذلك توّج كل ذلك بهذا الإعلان الهام، النهائي، الحاسم، الفاصل، القاطع، يقول فيه بهذا التسلسل الواضح: (إِنَّ اللهَ مَوْلَاي)، أنبياء الله هم عباد الله، وهم قاموا بواجبهم في إبلاغ الرسالة الإلهية من واقع توليهم لله -سبحانه وتعالى- وعنوان الولاية الإلهية على العباد هي عنوانٌ شامل، عنوانٌ واسع، عنوانٌ كبير في كل جوانبها، هي تشمل كل الجوانب: سواءً الجانب التكويني، أو الجانب التشريعي، أو جانب التدبير، جانب الهداية في مفهومها العام والواسع… مفاهيم واسعة تدخل في هذا، وأنبياء الله هم يأتون ليعيدوا الناس ضمن مبدأ الولاية الإلهية إلى التشريع الإلهي، إلى الهداية الإلهية؛ لربط حياة الناس في مختلف شؤون حياتهم على أساسٍ من هدي الله وتوجيه الله -سبحانه وتعالى- لتربية المجتمع على أساسٍ من القيم الإلهية، على أساسٍ من الأخلاق العظيمة التي قدمها الله لعباده، والتي أودعها في فطرتهم، الكلام واسع عن هذه المسألة، يأتي دور الرسل والأنبياء أيضاً ليمثلوا امتداداً للولاية الإلهية من موقعهم في الرسالة، الله وليٌ لعباده بربوبيته، بألوهيته، بأنه الإله، بأنه الربَّ، بأنه الملك والمالك، بأنه الخالق، بأنه الرازق، بأنه… إلى بقية ما تعنيه أسماءه الحسنى؛ أما الرسول فمن موقعه في الرسالة كعبدٍ لله -سبحانه وتعالى- يتحرك للتحرك بالعباد أو للسير بالعباد في واقع عبوديتهم لله -سبحانه وتعالى- وفق هدي الله ومنهجه العظيم في كل جوانبه التي تتصل بشؤون الحياة بكلها.
ما بعد الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- والنبوة قد خُتمت يأتي هذا الدور بعد أن قال: (وَأَنَا مَوْلَى المُؤْمِنِينَ، أَوْلَى بِهِم مِنْ أَنْفُسِهِم، فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ)، (فَهَذَا عَلِيٌّ) عليٌ بأمرٍ من الله -سبحانه وتعالى- عليٌ بكماله الإيماني العظيم الذي جعله بهدايةٍ من الله، بأمرٍ من الله، بتأهيلٍ من الله جديراً بهذه المسؤولية، بمستوى هذه المسؤولية، لائقاً بهذا الدور العظيم، (فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ)، لتكون ولاية الإمام علي -عليه السلام- امتداداً لولاية الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- ليس من موقع الرسالة والنبوة، ولكن- كما قلنا- من موقع الولاية، ليعني هذا أن الامتداد الأصيل، الصحيح السليم في الدور الذي كان يقوم به الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في القدوة والقيادة والهداية، والعمل على إقامة الدين، والحركة بالأمة في مسيرة حياتها على أساس منهج الإسلام العظيم سيستمر ما بعد وفاة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- من خلال عليٍ -عليه السلام- من موقع الولاية، هذه هي الخلاصة، فلن يكون هناك فراغ، بل سيأتي هذا الدور وهذا الامتداد الأصيل سيكون هو الذي يضبط مسيرة هذه الأمة في حركتها بالإسلام، في التزامها بالإسلام، في سيرها على أساس منهج الإسلام العظيم، وفي نفس الوقت لن يكون هناك الفراغ الذي يمكن أن يمثل ثغرةً كبيرة، ويمكن أن يشكل خطورةً كبيرة تعيش الأمة فيه حالة الفوضى والانفلات الذي يمكن أن يستغله أعداؤها لاختراق هذه الأمة، للتأثير فيها، أعداؤها من الداخل، من المضلين، من الطغاة، من المجرمين، من الانتهازيين، أو من خارج الأمة، من كل الفئات المضلّة من خارج الأمة.
فإذاً إجراءات الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- ترتيباته، الإعلان للنص، النص القرآني بنفسه، علاقة الموضوع في موقعه من الدين، وفي أثره في الحياة، كل هذا يدل على أهمية هذا البلاغ، وعلى أهمية الارتباط بهذا البلاغ من واقع الوعي، من واقع الإيمان، من واقع الاستفادة منه حتى ننظر إلى الإسلام نظرةً صحيحة؛ لأننا إن فقدنا هذا الارتباط نفقده في حلقة الوصل الأولى في الامتداد الأصيل منذ وفاة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- كل هذا سيحدث فراغاً كبيراً في الذهنية العامة، وبالتالي في مشروع الإسلام بكله، سنراه مشروعاً لا رأس له، لا قيادة له، لا معنيّ به، سننظر إليه على أنه مشروعٌ منفلت، مشروعٌ من جاء يتبناه يتزعمه، من جاء يخترقه، من جاء يوظف عناوينه، من جاء يقدم نفسه الأمين المؤتمن عليه، من جاء يتحرك تحت عنوانٍ من عناوينه سيجد فرصةً لخداع الكثيرين من قاصري الوعي، من ناقصي الإيمان، من السذج، من الذين لا يتمتعون بالحصانة الثقافية والمعرفية الصحيحة التي تحميهم من التأثر، معناه أننا ننظر إلى هذا الدين برؤيةٍ قاصرة ستجعل منه مجرد طقوس وأخلاقيات عامة محدودة، بعيداً عن النظرة إليه كمشروع يبني الحياة، يبني الأمة لتتجه هذه الأمة لبناء الحياة، ننظر حتى إلى الإسلام على أنه مجرد مشروع بسيط، يعني: ليس مشروعاً للحياة بكل ما يعنيه في ذلك، ليحقق للإنسان الدور المنوط به كخليفةٍ لله في الأرض، بل ننظر إليه على أنه يرتبط بالإنسان في جوانب محدودة من حياته وشؤونه: بعض من الأخلاقيات العادية، طقوس معينة؛ أما أن يدير شأن هذا الإنسان، أما أن يحل مشاكل هذه الحياة، أما أن يبني واقع البشرية لتؤدي دورها الحضاري، لتؤدي دورها الاستخلافي في الأرض على أساسٍ صحيح، فهذا سيُشطب، سيغيب، أو تقدم رؤية أخرى محرفة، مشوهة، على النحو الذي يقدمه الدواعش والتكفيريون، معناه أن نفتح ثغرةً كبيرةً لأعداء الأمة، أعدائها من اليهود القديرين في عملية التحريف، ليتدخلوا هم في واقع الأمة لصنع ولاءات، لصنع ثقافات، لصنع رموز وهمية في عملية التضليل بالأمة التي حذر منها القرآن الكريم، في عملية التطويع التي ينفذون من خلالها للسيطرة على واقع الأمة.
ولذلك يجب أن نفهم أن هذا المبدأ العظيم مبدأ الولاية بمفهوم حديث الغدير، وثقافة يوم الغدير، ومناسبة الغدير، هو يضمن لنا النظرة إلى الإسلام في امتداده الأصيل والسليم والنقي الذي يبني الأمة، ويحمي الأمة من الاختراق، ويحمي الأمة من كل أولئك الطامعين، من كل أولئك المضلين، من كل أولئك الذين قدموا لهم رؤى بديلة تبرر لهم السيطرة على هذه الأمة، إدارة شؤون هذه الأمة من موقع البغي، من موقع الضلال، من موقع الانتهازية، من الجبارين والطغاة والمفسدين والظالمين والجائرين والمستكبرين، الذين ليسوا أمناء على الأمة في أن يديروا شؤونها، في أن يكونوا امتداداً أصيلاً على أساس مبدأ الولاية، في السير بالأمة على أساس منهجها الإسلامي العظيم في كل مجالاته: التربوية، التثقيفية… التي تبني الإنسان أولاً هو حتى على المستوى التربوي، تهدي هذا الإنسان، تزكي هذا الإنسان، تربي هذا الإنسان، تصلح هذا الإنسان، تسمو بهذا الإنسان ليؤدي دوره العظيم في هذه الحياة، الإسلام هو دينٌ عظيم إذا تمسكت به الأمة كما هو في أصالته، في نقاءه، في مبادئه الحقيقية، في مشروعه العظيم، في أهدافه الكبيرة؛ تصلح البشرية وتصلح الحياة، يصلح واقع الحياة، يحقق للناس الخير، ويحقق للناس العدل، ويسمو بالبشر في أخلاقهم، في تصرفاتهم، في سلوكياتهم، في أعمالهم، يسموا بالإنسان.
الدور المناط بالمسؤولين، بالمسلمين، والمسؤولية الملقاة على عاتق المسلمين في العمل على تقديم نموذج حقيقي يعبِّر عن هذا الإسلام؛ حتى يكون المسلمون أمةً تحمل هذا المشروع العظيم في رسالته إلى البشرية بكلها، رسالته الهادية، رسالته العادلة، رسالته التي هي خيرٌ لكل البشرية، يحتاج إلى أن يكون القائم على هذا يمثل امتداداً أصيلاً، صحيحاً، سليماً؛ حتى ينهض بهذا الدور، امتداداً لرسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- الإمام عليٌ -عليه السلام- ثم يكون الإمام عليٌ -عليه السلام- هو أرقى نموذج وأعلى ما يعبر عن المعايير والمواصفات والكمالات اللازمة لهذا الدور في الأمة، ونحن نجد أن الذين فقدوا الإيمان بولاية الإمام عليٍ -عليه السلام- فقدوا حلقة الوصل بالرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- خسروا هذا الامتداد الأصيل الذي يحمل إلينا الإسلام، ليس فقط قولاً، وإنما قولاً وفعلاً، والإسلام أيضاً كمشروع لهذه الحياة.
عندما نعود إلى الإمام علي -عليه السلام- نعود إلى أعظم من يقدم لنا الإسلام في حقيقته، في أخلاقه، كناقلٍ عن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وكنموذج حمل الإسلام فكراً، ظهر الإسلام فيه في كل نواحي شخصيته، في كل مجالات حياته، وتحرك بالإسلام من موقع الكمال العظيم الذي تركه فيه هذا الإسلام كمبادئ، وقيم، وأخلاق، ومشروع، ووعي.
وهكذا نحن في هذه المرحلة بأمسِّ الحاجة إلى الإيمان بهذا المبدأ العظيم، الذي يضبط مسار الأمة، الذي يحميها من الاختراق، الذي يجعل من انتماءها للإسلام ارتباطاً، وليس فقط مجرد انتماء شكلي روتيني اعتيادي، يقتصر على التزامات محدودة، ضمن طقوس معينة، ضمن عبادات معينة، ضمن أخلاقيات معينة، ولكن يحوّل انتماءنا للإسلام إلى علاقة وارتباط منهجي للحياة بكلها؛ حتى نعرف أننا أمة مستقلة، نعيش حالة الاستقلال التام الذي يفصلنا عن التبعية بكل أشكالها لأعدائنا من اليهود وغير اليهود، لأعدائنا من المستكبرين في هذه الأرض، من الطاغوت المنحرف عن منهج الله -سبحانه وتعالى- من كل الظالمين والمضلين والمفسدين في الأرض، نرى في الإسلام مشروعاً للحياة نسير عليه، ننعم به بكل ما تضمنه من توجيهات إلاهية، نحظى فيه بالرعاية الإلهية، ولهذا أتت الآية المباركة التي قال الله فيها -سبحانه وتعالى-: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: الآية 55]، وهنا يقدم لنا الإمام علي -عليه السلام- بمعايير إيمانية ومواصفات إيمانية، بعناوين إيمانية: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة: 55-56]، هكذا تحظى الأمة من خلال هذا الارتباط الذي يصلها بمنهج الله كما هو، بتعليمات الله كما هي، بمنهج الإسلام بكل أثره في الإنسان: في نفسية هذا الإنسان، في أخلاق هذا الإنسان، في سلوك هذا الإنسان، في وعي هذا الإنسان، في دور هذا الإنسان، وبالتالي نحظى برعاية من الله -سبحانه وتعالى- نحظى بالنصر، بالمعونة، بالتأييد في مواجهة كل الآخرين الذين يسعون إلى الاستحواذ علينا، إلى التغلب علينا، إلى السيطرة علينا من كل كيانات الطاغوت المستكبرة في الأرض، التي لا ترضى لنا بالاستقلال، هذا الاستقلال الذي نبنيه على أساسٍ من هويتنا، من انتماءنا الحقيقي الواعي الصحيح للإسلام، فالولاية تحول الانتماء للإسلام، تجعله انتماءً واعياً، انتماءً إلى المشروع وليس فقط انتماءً إلى الطقوس، وليس فقط انتماءً شكلياً روتينياً، بل انتماءً بناءً، انتماءً صحيحاً، انتماءً عملياً، انتماءً وارتباطاً بمصادر الهداية التي تتحرك بنا في هذا المشروع العظيم في واقع الحياة ليؤتي أثره وثمرته في واقع الحياة، هكذا نجد أن هذا المبدأ مبدأٌ عظيم ومهم، وأن الرؤية الناقصة كما الرؤية المحرفة أيضاً تفتح المجال لكل من هب ودب أن يأتي باسم هذا الإسلام حتى، أو لا نجد الشواهد الماثلة أمامنا في التاريخ: سواءً في العصر الأموي، أو العصر العباسي… أو غيره، أو لا نجد الشواهد المثالة أمامنا في واقع الحياة من زعماء، من حكام، من جائرين، من طغاة، من مضلين يقدمون أنفسهم باسم الإسلام، يتحركون في الساحة بعناوين إسلامية، ثم نجدهم على ارتباطٍ تام بأعداء الأمة من المستكبرين، ارتباط وثيق بأمريكا، ارتباط التبعية، ارتباط الولاء لأمريكا، ارتباط العلاقة بأمريكا التي يتحركون من خلالها في واقع الأمة كأدوات لأمريكا، ثم تأتي العناوين الدينية التي يسعون إلى توظيفها واستغلالها في خدمة أمريكا، نجد ما يمكن أن يحد من هذا بكله، أن يمنع هذا الاستغلال في التوظيف للعناوين الدينية، والاستغلال لها في داخل الأمة الإسلامية من خلال مبدأ الولاية الذي يفصلنا عن كل أولئك المستكبرين، وعن كل أولئك الطغاة والجائرين والمفسدين والمضلين، والذي يربطنا بالمسار الصحيح الذي تحكمه المعايير الإيمانية، والذي يصلنا بالإمام عليٍ -عليه السلام- بآل الرسول -صلوات عليه وعلى آله- برسول الله محمد -صلوات الله عليه وعلى آله- يصلنا بمصادر الهداية الموثوقة، المأمونة والمؤتمنة حتى لا نضل، مع القرآن الكريم منهجاً، مع أولئك كرموز وهداة وقادة وقدوة نعرف الحق، نرى طريق الحق، نرتبط بالهداية ضمن رموزها ومنهجها العظيم ومصادرها الصحيحة؛ فنتحرك في واقع هذه الحياة ونحن في المنهج الإلهي الذي يفصلنا عن كل المستكبرين والمضلين والمفسدين.
في هذه المرحلة أخطر ما تعاني منه الأمة، وأكبر التحديات التي تواجه هذه الأمة: هي سعي المستكبرين من أعداء الأمة، كيانات الطاغوت المتمثلة بأمريكا وإسرائيل، ومن يدور في فلك أمريكا وإسرائيل للسيطرة علينا كأمةٍ مسلمة، للتحكم بنا في كل شؤون حياتنا: السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، للتأثير علينا إعلامياً وثقافياً وتعليمياً، للتحكم بالمناهج، للتحكم بما يؤثر على الرأي العام بالتلقين الثقافي والفكري، حتى في الخطاب الديني، وهذا واضح من أوضح الواضحات.
ما يحمينا من كل ذلك، ما يفصلنا عنهم، ما يُغلق كل النوافذ بوجوههم هو هذا المبدأ العظيم؛ لأننا نخرج من حالة الفوضى، الفوضى الثقافية، الانفلات في الولاءات، الارتباطات غير المنضبطة، البيئة المفتوحة لمن هب ودب أن يتحدث باسم الدين، أن يقدم أي رموز أي ثقافة، والمهم فقط هو العنوان؛ أما المضمون والحقيقة فلا تركيز على ذلك، هذه هي الحالة التي تمثل سلبية كبيرة وخطورة كبيرة في واقع الأمة، هذه الحالة التي فتحت المجال للدواعش، للتكفيريين، لكل الفئات المضلة أن تتحرك في واقع الأمة، هذه الحالة التي أتاحت لأمريكا وأتاحت الفرصة لإسرائيل أن تخترق الأمة إلى عمقها في الداخل، وأن تتبنى لها من يتحرك في داخل هذه الأمة بهذا العنوان أو ذاك العنوان، بذلك الاسم أو بذلك الاسم، بتلك الطريقة أو بتلك الطريقة، ويحاول أن يلبِّس على الأمة، ما يحمينا من كل ذلك هو هذا المبدأ العظيم الذي يضبط مسيرة حياتنا، ويربطنا بمصادر الهداية، ويربطنا بالامتداد الأصيل لحركة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- بدوره في الأمة، حتى ندخل ضمن قول الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-: (فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ)، لنؤمن بولاية الرسول، وبالتالي نؤمن بامتدادها في الأمة؛ لأن الذي لا يؤمن بامتداد ولاية الرسول في الأمة، وبترها بتراً، وجعلها ولايةً منحصرةً على عهد النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- بلا امتداد صحيح يعبر عنها بالفعل، يعبر عنها بالحقيقة، هو ينظر إلى هذا الإسلام- كما قلنا- برؤيةٍ قاصرة، وينظر إلى ولاية الرسول برؤيةٍ بترت هذه الولاية وقطعت أو انفصلت عن امتدادها الصحيح، بكل ما لهذا الانفصال عن امتدادها الصحيح من تبعات كبيرة، على مستوى الضلال الفكري، والضلال الثقافي، والانحراف العملي.
ثم يبقى لنا أن نؤكد على أن الإيمان بهذه الولاية ليس مجرد كلامٍ نقوله، ليس عبارةً عن انتماءٍ مذهبي، كمذهب وانتهى الأمر؛ إنما هو علاقة فيها ارتباط مبدأي، وأخلاقي، وعملي، نرتبط بهذا الإسلام في منهجه العظيم، في مشروعه العظيم، فنجعل من عليٍ حلقة الوصل التي تربطنا برسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- تربطنا بهذا الإسلام في مبادئه، بهذا الإسلام في أخلاقه، بهذا الإسلام في مشروعه العملي، بهذا الإسلام فيما يقدمه لنا من وعي، من بصائر، من حقائق، يكون مستوى هذه العلاقة من خلال التفاعل، من خلال تفاعلك أنت بهذه العلاقة، إقرارك بها يساعدك على أن تبني على هذا الإقرار هذا التفاعل اللازم؛ لكي تستفيد، لكي تكون ملتزماً بهذه الولاية في واقعك العملي وفي التلقي الثقافي والفكري الذي تعرف به الإسلام كما هو؛ لتتحرك على أساس ذلك عملياً بالالتزام في مسيرة حياتك، هذه هي المسألة المهمة جداً.
من النعمة أن يكون الإنسان مؤمناً، متقبلاً، منسجماً مع رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- فيما يقدمه، تمثل مسألة التجاهل لهذا الإعلان والبلاغ العظيم، وتمثل مسألة الجحود لمدلوله الحقيقي ومعناه الصحيح، تمثل مشكلةً على البعض من أبناء الأمة، تفصلهم عن هذا الامتداد؛ فلا يستفيدون منه كما هو، فيكونون في موقفٍ صعب، في بيئة يسهل اختراقها وتأثير الأعداء عليها، في بيئة يكثر فيها التشويش والاختلال الثقافي والفكري، في بيئة تصعب فيها عملية الوعي والفهم الصحيح والنظرة الصحيحة، في بيئة تعيش حالة الانفلات والفوضى على المستوى الثقافي والفكري؛ فيسهل فيها الاختراق ويسهل فيها التأثير.
ولكن من يعيشون حالة الانتماء لهذا المبدأ العظيم عليهم أن يكونوا واعين لما يعنيه هذا الانتماء في تفاعلهم؛ حتى يعيشوا ثمرة هذا الانتماء وهذا الإيمان، ثمرته العظيمة التي وعد الله بها برعايته -سبحانه وتعالى- حتى يُحسوا بهذه العلاقة مع الله، علاقة الولاية الإلهية في الارتباط بالله -سبحانه وتعالى- من خلال الارتباط الصحيح والواعي والفاهم والكامل بمشروعه العظيم.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لكي نكون ممن يؤمن بهذا المبدأ العظيم، ويتفاعل معه إيمانياً، فنكسب هذه الثمرة العظيمة: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، وأن يفصلنا عن التولي لأعدائه من اليهود والنصارى، من المستكبرين من كل كيانات الطاغوت وعملائهم وأدواتهم، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛