نص سلسلة محاضرات السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي بذكرى عاشوراء 1441هـ – المحاضرة الأولى
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّداً عبدُه ورَسُوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأخيارِ المنتجبين، وعن سائرِ عِبَادِك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في هذه المحاضرة نتحدث عن عاشوراء وعن فاجعة كربلاء من خلال عنوانٍ مهم: ما هي علاقة الأمة بتاريخها وماضيها؟ من خلال هذا العنوان ندخل إلى هذه الفاجعة وهذه المأساة الكبرى التي سطَّرها لنا التاريخ، وكانت حادثةً عظيمةً ومؤسفةً ورهيبةً في تاريخ الأمة، عندما نعود إلى واقعنا فإنه هو الأساس الذي ننطلق من خلاله لقراءة التاريخ ولاستشراف الماضي، الحاضر- أيها الإخوة والأخوات- الذي نعيشه، والواقع الذي نحن فيه بكل ما فيه إنما هو نتاجٌ للماضي، وأيضاً هو عندما نتجه لإصلاح ما فيه وللتغيير فيه، فنحن سنكون حتماً بحاجة إلى العودة إلى هذا الماضي، لنشخِّص من خلاله جذور ما نعيشه من المشاكل والاختلالات والأزمات، ولنستفيد مما في ذلك الماضي وما في ذلك التاريخ من الدروس والعبر التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها للاستفادة منها في معرفة الطريقة الصحيحة، والحلول الصحيحة الناجعة والمفيدة التي تنقذ الأمة مما تعانيه.
إذا تحدثنا عن الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية بشكلٍ عام فكلنا يعرفه: واقعٌ مليءٌ بالمشاكل والأزمات والصراعات والحروب، واقعٌ تعيش فيه الأمة حالة الفرقة والاختلاف، واقعٌ مليءٌ بالمظالم، ومليءٌ بالمفاسد، مليءٌ بالمنكرات، مليءٌ بالأزمات والمشاكل، تعيش فيه الأمة التخلف على المستوى الثقافي والعلمي والمعرفي والحضاري، وتعيش فيه الأمة أيضاً المشكلة الكبرى في واقعها الاقتصادي، من خلال ما تعانيه من الأزمات الشديدة التي لا تعود إلى ندرة الموارد، أو إلى افتقار هذه الأمة فيما لديها وفيما هي فيه على مستوى الثروات والإمكانات والطاقات، وعندما ندرس سبب هذا الواقع الذي نحن فيه، هل هو حالة مفاجئة، وأتت وطرأت على واقعنا بشكلٍ مفاجئ كأمةٍ إسلامية بمختلف شعوبها وبلدانها وأقطارها، أم هي حالة ورثها هذا الجيل كما كانت حالةً قائمةً على امتداد الأجيال الماضية، على مدى مئات السنين- القرون تلو القرون- التي عاشت ظروفاً مشابهة، وفي بعض الأحوال ظروفاً أصعب وأسوأ من هذا الظرف التي تعيشه الأمة في هذا العصر؟
من هنا نتطلَّع لنعرف جذور المشكلة؛ لأننا عندما نرى واقعنا وواقع الأمة بشكلٍ عام على هذا النحو، ثم نعود إلى حقيقةٍ مهمة: هي ما هو الواقع المفترض لهذه الأمة لو كانت وفق المسار الصحيح الذي رسمه الله “سبحانه وتعالى” لها، عندما نعود إلى القرآن الكريم لنعرف ما هو الواقع المفترض بحسب انتمائنا لهذا الإسلام العظيم كأمةٍ مسلمة، انتمائنا للقرآن، انتمائنا للاتباع للرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، نعود إلى القرآن الكريم فنجد الحقيقة المفاجئة والمؤلمة جداً، عن الفجوة الكبيرة جداً بين الواقع المفترض أن تكون الأمة عليه لو أنها سارت وفق ذلك المسار المرسوم لها من الله “سبحانه وتعالى”، والواقع الذي تعيشه الأمة، وهو يختلف كلياً عن ذلك الواقع المفترض، ثم ندرس ما هي المشكلة وأين جذور هذه المشكلة.
الله “سبحانه وتعالى” قال في كتابه الكريم وهو يذكر نعمته العظيمة علينا كأمةٍ مسلمة، يقول “جلَّ شأنه”: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الجمعة: 2-3]، الله “سبحانه وتعالى” امتنَّ علينا بخاتم رسله وأنبيائه سيدنا محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وبعثه بالرسالة لينفِّذ مهمةً عظيمةً، لها أثرها الكبير في الناس وفي واقع حياتهم، يمتد أثرها في أنفسهم وإلى واقع حياتهم، هذه المهمة عبَّر عنها وفق النص القرآني: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، وهذه النصوص المباركة في هذه الآية القرآنية:
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}، آيات الله “سبحانه وتعالى” التي هي نور، التي فيها الحقائق التي ينبئنا الله عنها ويخبرنا بها؛ فتصنع فينا البصيرة، وتمنحنا الوعي، ونكتسب بها الهداية، التي فيها أيضاً التوجيهات الحكيمة والبنَّاءة والمثمرة والنافعة والمصلحة للإنسان ولحياته، والتي فيها الدعوة من الله إلى كل خيرٍ ورشدٍ وفلاحٍ وعزةٍ، آيات الله التي هي من حكمته ومن رحمته، ويدعونا فيها إلى ما فيه الخير لنا، إلى ما يصلح حياتنا، التي فيها البرنامج الإلهي لهذا الإنسان الذي تصلح به حياته، وتستقيم به حياته، التي فيها- ما إن التزمنا به- ما يحقق لنا في واقعنا العدل، ما يحقق لنا في واقعنا الألفة والصلاح، ما يحقق لنا في واقعنا الاعتصام والكلمة الموحَّدة.
ما يصلح أنفسنا أيضاً من خلال قوله أيضاً: {وَيُزَكِّيهِمْ}، هذه التزكية التي تنمِّي فينا الخير، وتنمِّي فينا مكارم الأخلاق، وتهذِّب النفس البشرية؛ لتضبط غرائزها، ولتنقيها من حالة الميول الفاسدة، والنزعات الخطرة، والميول الشريرة، التزكية التي تعني تنمية مكارم الأخلاق، وفي نفس الوقت الحد من تنامي كل عناصر الشر في داخل النفس البشرية، وكل المساوئ والسلبيات التي تؤثِّر على الإنسان في أعماله، وفي تصرفاته، وفي مواقفه، وفي سلوكياته بشكلٍ عام.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}، من جديد تتمحور المهمة الرئيسية للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله” حول الكتاب: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}، وكذلك قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}، ورسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” في تعليمه الكتاب لم يكن مجرد أستاذٍ يقدم المعارف على النحو الذي يقدِّمه الأستاذ للتلاميذ، بل أكثر من ذلك، كان من موقع التربية، كان من موقع المسؤولية، كان من موقع القيادة، كان من موقع التحرك العملي، كان من موقع الإرشاد المرتبط بالواقع، الذي يتجه إلى هذا الواقع، كان من واقع الإدارة لشؤون هذه الأمة، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الحكمة لتكون أمةً حكيمةً في تصرفاتها، في مواقفها، في رؤاها، متوازنة، لا إفراط ولا تفريط، صائبة، راشدة، لا تعيش حالة الغباء، ولا تعيش حالة التحرك وفقاً للغرائز، ومن خلال الاندفاع الغريزي ومن خلال هوى الأنفس، أو من خلال رؤى خاطئة وأفكار باطلة؛ إنما لتكون أمةً راشدة، تمتلك الرؤى الصحيحة، المفاهيم الصحيحة، وتنضبط على أساسها في تصرفاتها الصحيحة والمسؤولة والمنضبطة بمعايير الحكمة وموازين الحكمة.
{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ}: ما قبل هذه النعمة الإلهية ببعثة الرسول ونزول القرآن ومجيء الإسلام، {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، كل هذا كان غائباً عنهم، فكانوا يعيشون حالة الضياع بما تعنيه الكلمة، حالة التصرف بعيداً عن المسؤولية، عن الحكمة، عن الزكاء.
وهذه النعمة ليست منحصرةً وخاصةً بالجيل المعاصر لرسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”؛ إنما أرادها الله نعمةً تستمر في هذه الأمة، وتستمر في الواقع البشري من خلال هذه الأمة التي إن سارت وفق المسار الصحيح يمكن أن تتسع دائرتها في الوسط البشري، ولهذا قال الله “جلَّ شأنه”: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} للأجيال القادمة، للأجيال اللاحقة، هذا هدى الله لها، هذه نعمة الله المقدَّمة لها.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وثمرة كل هذه النعمة الإلهية، كل هذه الإرشادات (نعمة القرآن، نعمة الرسول بهذه المهمة العظيمة): هي عزة، وهي حكمة، وهي خير، وهي رشاد، والله “سبحانه وتعالى” فعل كل ذلك بعزته وبحكمته.
أيضاً في القرآن الكريم يقول الله “سبحانه وتعالى”: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران: من الآية110]، يريد الله “سبحانه وتعالى” للأمة الإسلامية أن تكون خير أمة، وهيَّأ لها خير قادةٍ وخير هداةٍ، هيَّأ لها الطليعة والنواة التي يمكن أن تقودها على هذا الأساس لتجعل منها خير الأمم.
{خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}؛ لأن المسؤولية مسؤولية عامة، مسؤولية تجسيد هذه القيم والتحرك بهذه الرسالة في أوساط البشرية، وقيادة المجتمع البشري على أساسٍ من هذه المبادئ والتوجيهات والتعليمات الإلهية المهمة.
{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ثلاث عناصر أساسية تقوم عليها خيرية الأمة، وتنطبق كلياً في أخيار هذه الأمة، في صفوة هذه الأمة، في هداة هذه الأمة، ويراد للأمة أن تنهج هذا النهج، وأن تسير في واقعها على هذا الأساس، أن تكون الأمة التي تتحرك وهي تحمل هذه المسؤولية، وفي نفس الوقت تلتزم في واقعها على أساس هذه المسؤولية؛ فتكون هي أمة المعروف، المعروف الذي يشمل كل مكارم الأخلاق، يشمل كل الإيجابيات، يشمل كل ما دعانا الله إليه، وأمرنا الله به، ورسمه لنا في هذه الحياة، يشمل كل ما يترتب عليه الخير لنا والفلاح والصلاح، وما تصلح به حياة البشر، هذا المعروف الذي أراد الله “سبحانه وتعالى” للأمة أن يكون لها النهج، وأن يكون لها المبادئ، وأن يكون لها العنوان الذي تتحرك في تفاصيله ملتزمةً بها، وداعيةً إليها، وآمرةً بها، وساعيةً إلى ترسيخها وإلى نشرها وإلى فرضها في واقع الحياة.
{وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، المنكر ذلك العنوان الواسع الذي يندرج تحته كل التفاصيل السيئة: الفساد، الظلم، الباطل، الجرائم… كل تلك التفاصيل والسلبيات الخطيرة والسيئة في واقع الحياة، أن تكون هذه الأمة أمةً تعمل على تحصين ساحتها من المنكر، وتحارب المنكر، تمقت المنكر، تتخذ المواقف الحاسمة ضد المنكر، تسعى لإزالة المنكر، تنهى عن المنكر، تسعى لتحصين ساحتها الداخلية وتطهير ساحتها الداخلية من المنكر، ثم تسعى إلى- أيضاً- إلى إزاحة هذا المنكر من واقع حياة البشرية؛ فتكون الأمة الناهية عن المنكر، والتي لا تقبل بالمنكر: سواءً كان هذا المنكر ظلماً، أو فساداً، أو انحرافاً أخلاقياً، أو باطلاً… كل التفاصيل التي تندرج ضمنها، كل السلبيات السيئة في واقع الحياة وفي كل مجالات الحياة، فتكون هذه الأمة أمةً تحصِّن نفسها وتبعد نفسها عن المنكر، ثم تنهى عنه أيضاً في الساحة البشرية من حولها، وتنطلق في هذه المسؤولية بكلها، وهي مسؤولية كبيرة جداً؛ لأنها ستضبط مسيرة حياتها على أساسها، يكون المعروف هو الذي نعمل على أن نربط مسيرة حياتنا، برنامج حياتنا، ننظم شؤون حياتنا في كل المجالات: إن جئنا إلى المجال الاقتصادي، إن جئنا إلى المجال السياسي، إن جئنا إلى… كل مجال من مجالات الحياة، كل شأن من شؤون هذه الحياة، في واقعنا الاجتماعي، في واقعنا الاقتصادي، في واقعنا السياسي… في كل مجال، في سلوكياتنا وتصرفاتنا بشكلٍ عام نضبطها بالمعروف وعلى أساس المعروف، ثم نعمل على إزاحة المنكر، على تنقيتها من المنكر، على تطهيرها من المنكر، على التخلص من هذا المنكر في كل أشكاله السلوكية والعملية.
هذه الأمة يضبط برنامجها هذا ومسؤوليتها هذه ضابطٌ مهم وأساسيٌ: هو الإيمان بالله، {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، عندما تنطلق على هذا الأساس هو الذي يضمن لها الاستقامة، ويضمن لها الدافع، ويضمن لها العامل المهم الذي يساعدها على الانضباط وفق هذه المسؤولية المهمة والعظيمة.
هذه الأمة هي الأمة التي قال لها الله “جلَّ شأنه” في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ}[المائدة: من الآية8]، هي الأمة التي أمرها الله، وجعل من أهم التزاماتها الإيمانية والدينية أن تكون أمةً قائمةً لله، بل قوامةً وليس فقط قائمة، لما يفيده هذا التعبير القرآني (قَوَّامِينَ) من حركة مستمرة، من نهوض مستمر، من حركة متصاعدة، {قَوَّامِينَ لِلَّهِ}، قوامين بماذا؟ يعني: تنهضون بهذه المسؤولية، تقومون بمسؤوليتكم في إحقاق الحق، في إقامة العدل، في الالتزام بمنهج الله “سبحانه وتعالى”، في إصلاح واقع الحياة، في الالتزام بالمبادئ والقيم والأخلاق التي أمر الله بها، في دفع الظلم، في دفع الفساد، في دفع المنكر، في التجنّد لله “سبحانه وتعالى”، فتكونون جنداً لله في مواجهة كل عناصر الشر والإجرام، وكل أولياء الشيطان، في مواجهة كل المؤامرات الشيطانية، كل المفاسد والمظالم التي يتحرك بها الأشرار في هذه الأرض.
{شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}، أمة تشهد بالقسط فيما تجسده كواقعٍ عمليٍ يقدِّم الشهادة على أنها أمة تلتزم بالقسط، وفي ما تشهد به كذلك في الواقع.
يقول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}، هنا آية أيضاً تركِّز وتدخل مباشرة إلى المسؤولية، هناك: {قَوَّامِينَ لِلَّهِ}، ولها مدلوها المهم في أن يكون اتجاه هذه الأمة من أجل الله “جلَّ شأنه”، ووفق الطريقة التي رسمها الله “سبحانه وتعالى”، فتصلح النية، ويتجه الجميع نحو الهدف الصحيح الذي رسمه الله، ووفق الطريقة التي رسمها الله، هنا يدخل أيضاً إلى صلب الموضوع، إلى المسؤولية بشكلٍ مباشر: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}، أن نكون الأمة التي تعمل وتسعى وتتحرك وتقوم بما يعنيه هذا القيام من عمل، من تضحية، من نهوض، من جهاد، من تحملٍ للمسؤولية، {بِالْقِسْطِ} لإقامة القسط في واقع الحياة بما يشمله من مفاهيم، في مقدِّمتها العدل، {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}[النساء: من الآية135]، الأمة التي يقول لها الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103]، الأمة التي نهاها الله عن التفرق: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: الآية105].
وهكذا لو نأتي إلى القرآن الكريم كم فيه من الآيات القرآنية المباركة التي تحدد للأمة هذه كيف تكون، وما ينبغي أن تكون عليه، وبالتالي ما سيترتب على ذلك من نتائج، الأمة إذا كانت تتحرك وفق هذا المسار المرسوم لها من الله “سبحانه وتعالى”: تزكية، مكارم أخلاق، أمر بمعروف، نهي عن منكر، إقامة للقسط، نهوض بالمسؤولية، مواجهة للمنكر وسعي لإزالته، مواجهة للطاغوت وللظلم وللفساد، كيف ينبغي أن تكون حياتها، كيف ينبغي أن يكون واقعها؟ الواقع الذي بُني على أساس توجيهات الله وتعليماته في القرآن الكريم: العدل سيتجسد في واقع الحياة، الخير سيكون هو السائد في واقع الحياة، الاعتصام بحبل الله جميعاً والألفة ستكون هي السائدة في واقع الحياة، ثم الزكاء والتربية على مكارم الأخلاق، والاستقامة في السلوكيات والتصرفات، والرشد في الرؤى والأفكار، والحكمة في كل الاتجاهات: رؤيةً، سلوكاً، عملاً، موقفاً… ثم العلاقة في الواقع الداخلي للأمة، معنى ذلك كله أن تصلح حياة الناس، أن تستقيم على أساسٍ من هذه القيم العظيمة والمبادئ العظيمة، وأن يسود فيها الخير، وأن يقود فيها هذه الأمة أخيارها وصلحاؤها ورشداؤها وهداتها على أساسٍ من هذه القيم.
ولكن ما الذي نرى عليه واقعنا؟ هل هو هذا الواقع كأمة بشكلٍ عام في مختلف أقطارها وبلدانها، هل نرى الحكمة هي السائدة؟ هل نرى الرشد والزكاء ومكارم الأخلاق هي السائدة، هل القيام بالقسط هو الحالة السائدة في واقع هذه الأمة بمختلف بلدانها وشعوبها ودولها؟ هل وحدة الكلمة والاعتصام بحبل الله هو الواقع السائد؟ هل القيادة للمجتمع البشري من حولنا وفق هذه المسؤولية المهمة والعناوين العظيمة التي تندرج تحتها هذه التفاصيل المهمة هي الحالة القائمة؟ أم أننا نشاهد بِأُمِّ أعيننا الكثير من زعماء هذه الأمة ومن قادتها ومن حكوماتها وهي تعيش واقع التبعية المكشوفة الواضحة الفاضحة لأعداء هذه الأمة: لليهود، للصهاينة، للأمريكان، لطغاة هذا العصر ومستكبريه، لأولياء الشيطان؟ أم أننا نرى الواقع يفتقر إلى حدٍ كبير إلى دفع هذه الأمة لتستحضر هذه المسؤولية، هذا المسار الصحيح، وتسعى إلى العودة إليه؟
مع وجود هذا التوجه كحالة قائمة في واقع الأمة، لكن هذا التوجه القائم في واقع الأمة هنا أو هناك، في نطاقٍ محدود هنا أو هناك، هو ثمرة- كما سيأتي الحديث إن شاء الله- لتضحية الإمام الحسين “عليه السلام”، لجهوده، للجهود التي هي امتداد لتلك التضحية، لذلك العمل، لذلك السعي، لذلك الجهاد، وامتداد أيضاً لما قبله من تضحية أخيه الحسن “عليه السلام”، وما قبل ذلك من تضحية وجهود الإمام عليٍ “عليه السلام”، فيما كان ذلك بكله امتداداً للرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” في كل جهوده وما قدَّمه للبشرية من هدى وفق الرسالة الإلهية التي بعثه الله بها.
فعلى كُلِّ، هناك فجوة كبيرة جداً في واقع هذه الأمة بكلها- بشكلٍ عام- ما بين الواقع المفترض، الذي نفترضه واقعاً يسود فيه: الصلاح، والخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والعدل، والوحدة، والاعتصام بحبل الله جميعاً، والاستقامة وفق المنهج الإلهي بكل تفاصيله تلك، وبناء الحياة على أساسه، والنهوض بالدور المهم المنوط بنا كبشر مستخلفين في هذه الأرض على أساسٍ من ذلك الهدى، وبناء حضارة إسلامية رائدة متميزة، تقود المجتمع البشري على أساسٍ من منهج الله “سبحانه وتعالى”، هذه الأشياء غائبة في واقع الأمة إلى حدٍ كبير، ونشاهد المآسي اليومية في واقعنا كأمة، المظالم الرهيبة والكبيرة، الحالة المأساوية من: التخلف، والشتات، والفرقة، والنزاعات، والأمِّيَّة الكبيرة، ونقص الوعي بالمفاهيم القرآنية، وغياب كبير للثقافة القرآنية في واقعنا، لا تعيش الأمة- بشكلٍ عام- حالة هذا التمحور الذي أتى في الآية المباركة في قول الله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، هذا التمحور حول القرآن الكريم؛ للاهتداء به، للتثقف بثقافته، للاسترشاد به، للاهتداء به، للتحرك في هذه الحياة على أساسه، لاتخاذ المواقف والتمسك بالمواقف التي يحددها، والتي أمر الله بها في هذا الكتاب المبارك، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}، غائبٌ هذا في واقع الأمة- بشكلٍ عام- إلى حدٍ كبير.
ولهذا تعاني هذه الأمة من مشكلات كبيرة، ومن مظلومية كبيرة، أمة تعاني من التظالم الداخلي، هناك سلطة ظالمة جائرة هنا أو هناك، كالنظام السعودي الذي نشاهد ما يفعله هو ومن يتحالف معه تحت قيادة أمريكا وبالتحالف مع إسرائيل ضد شعبنا العزيز، فنجد المشاهد المأساوية من القتل الذريع للآلاف من الأطفال والنساء والناس الأبرياء، ونرى الحصار الاقتصادي الخانق- الذي هو محرَّمٌ شرعاً، ومن أكبر المنكرات، ومن أكبر الجرائم- بحق شعبٍ بأكمله، ونرى مظلومية هذه الأمة فيما يعانيه شعب فلسطين أمام مرأى ومسمع من بقية أبناء الأمة، ما يعانيه المسلمون في أقطارٍ شتى، مثلما يحصل على الروهينجا هناك، مثل ما يحصل أيضاً على المسلمين في كشمير، مثل ما يحصل في شتى بقاع الأرض هنا أو هناك، كم هي مظالم هؤلاء المسلمين.
أين هي الأمة من كل هذه المظالم؟ أين تلك القيم التي تجعلها في موقع الأمة التي تقوم بالقسط، تواجه الظلم، تتصدى للمنكرات، تدرك مسؤوليتها الكبرى؛ فتكون لائقةً بهذه المسؤولية في القيام بالعدل، في التصدي للطاغوت، في إصلاح واقع الحياة؟ هذا الواقع المفترض، وهذه الفجوة الكبيرة لم تكن فجوةً ما بين الواقع وما بين الواقع الفعلي والواقع المفترض بحسب ما رسمه الله لهذه الأمة، لم تكن حالةً خاصةً بعصرنا هذا، عندما نعود إلى التاريخ: سواءً هذا الجيل الذي قبلنا، أو الأجيال ما قبله، جيلاً بعد جيل على مدى زمنٍ طويل، عبر المئات من السنين، عبر القرون والأجيال الماضية، سنجد واقعاً مظلماً، مليئاً بالمآسي، والمظالم، والمفاسد، والجهل، والتخلف، وغياب هذه القيم، ولكن ليس إلى حدٍ نهائي، يوجد عبر كل هذا الامتداد الزمني يوجد هناك حضور وامتداد للحق، للمبادئ الإلهية، للقيم الإسلامية، يتمثل ذلك الامتداد في أهل البيت “عليهم السلام” ومن كان معهم من صالحي الأمة، من رشداء الأمة، من أبناء الأمة الأخيار والأبرار والصالحين الذين كانوا على امتداد هذا الزمن على نحوٍ مغاير، مغاير للحالة العامة، للحالة السائدة، للحالة المنتشرة، ولكنهم كانوا- في كثيرٍ من الحالات وعلى مدى مئاتٍ من السنين- كانوا محاربين، كانوا- في كثيرٍ من الحالات- إلى درجة أن يعيشوا الغربة في واقع هذه الأمة، أن يعانوا من الخذلان في الساحة العامة.
ولهذا عندما نأتي لنقول لماذا؟ لماذا كل هذا؟ لماذا هذه الفجوة؟ لماذا هذا الواقع المختلف؟ ما الذي حدث حتى انحرف مسار الأمة عن تلك المبادئ العظيمة والقيم الإلهية، وحتى أصبح التوجه الرسمي الذي عادةً ما تكون عليه الحكومة التي تحكم هذه الأمة، والذي عادةً ما يكون عليه القادة الذين قادوا هذه الأمة من موقع السلطة، لماذا هذا الانحراف الرسمي في واقع الأمة الإسلامية؟ ماذا كان وراء هذا الانحراف، وأين كانت جذوره؟
هنا سنعود بالحديث إلى مرحلة الإسلام الأولى في عهد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، كان ألد الخصوم الذين تحرَّكوا ضد هذا الإسلام وحاربوا رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” بكل أشكال الحرب: الحرب الدعائية، الحرب العسكرية، الحرب الاقتصادية… الحرب في كل وسائلها وفي كل مجالاتها، كان ألد عدو هم قريش، قريش كانوا في طليعة من عادوا رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وحاربوه أشد المحاربة، وكانوا هم في الصورة وفي الميدان العدو الأبرز المتزعم لهذه الحرب، كان يقود قريش في هذه الحرب ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” ويتزعم قريشاً في كل تلك الفترة إلى السنة الثامنة للهجرة النبوية أبو سفيان، أبو سفيان هو كان زعيم بنو أمية في وقته وكبيرهم، أبو سفيان كان هو القائد الفعلي والقائد العام لقريش في حربها ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وكان معروفاً بشدة عدائه للإسلام ولرسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وهذا العداء كان يمتد داخل أسرته، ويعرف الأمة ويعرف الناس ما سطَّره كُتَّاب السِّير والمؤرِّخون عن زوجته التي استحقت أن تسمى بآكلة الأكباد، فيما يعبِّر عنه ذلك من الحقد الشديد، وهي التي بقرت بطن حمزة- عم النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”- وتناولت بعضاً من كبده لتأكله؛ من شدة حقدها وعدائها للإسلام وللمسلمين وللرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” ولأنصاره، وبالذات الأنصار الأبطال والمجاهدين العظماء كحمزة.
أبو سفيان حارب رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وقاد الحرب ضد الإسلام والمسلمين، ولم يألوا جهداً في حربه وعدائه، ولكنه في السنة الثامنة للهجرة، وهي السنة التي تمكَّن فيها الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” ومعه المسلمين من فتح مكة بنصرٍ من الله “سبحانه وتعالى”، وفتحٍ من الله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح: الآية1]، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر: الآية1]، في السنة الثامنة فتحت مكة بنصرٍ إلهيٍ عظيم، ولم يتمكن أبو سفيان ومعه جيوشه ومجتمع مكة بمن كان فيهم من المشركين أن يعيقوا هذا الفتح، بل إنهم أصيبوا بالشلل عسكرياً، لم يتمكنوا حتى من القيام بموقف عسكري للتصدي للفتح الإلهي المبين الذي فتحه الله لرسوله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وأرغموا على الاستسلام، وذاقوا مرارة الهزيمة.
وفي ظل هذا الاستسلام اجتمعوا بالقرب من الكعبة المشرَّفة، وخطب فيهم الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، الذي دخل فاتحاً وقد نصره الله عليهم بعد أعوام طويلة من المحاربة بكل أشكال المحاربة، أيام كان في مكة وهم يحاربونه بالكفر، والتكذيب، والحروب الدعائية، والتعذيب للمؤمنين به، ويكيدون له، ويمكرون به، ويتآمرون عليه، ويؤذونه، ويسعون إلى القضاء على رسالته بكل أشكال المحاربة، وما بعد الهجرة بالحروب العسكرية، وبشتى أشكال الحروب، اجتمعوا بعد كل ذلك التاريخ الأسود المظلم الذي عاشوا فيه حالة الجحود والتنكر لرسالة الله “سبحانه وتعالى”، والعداء الشديد لرسوله وخاتم أنبيائه “صلوات الله عليه وعلى آله”، تلك المرحلة الماضية التي وقفوا فيها لمناصرة الطاغوت، في سعيٍ منهم إلى محاربة الإسلام بما يمثِّله هذا الإسلام، وما فيه من مبادئ عظيمة، وأخلاق عظيمة، ومنهج ربَّاني عظيم، وقفوا دائماً بالباطل، وجادلوا به ليدحضوا به الحق، وقفوا سعياً منهم لوأد الرسالة الإلهية والقضاء عليها، وسعياً منهم للمحافظة على ذلك الواقع الظلامي بكل ما فيه من جاهليةٍ جهلاء، وكلما في تلك الجاهلية من الممارسات المنحرفة، والخرافات، والأباطيل، والمنكرات، والمفاسد، والمظالم، كانوا يريدون أن تبقى الساحة البشرية ساحة ظلامية، ساحة وبيئة للمنكرات والمفاسد، ولكنهم فشلوا، وفي النهاية أرغموا على الاستسلام، وخطب فيهم النبي قائلاً: (ماذا تظنون أنِّي فاعلٌ بكم؟)، وهم يعرفون من هو رسول الله، يعرفون ما هو عليه من مكارم الأخلاق العظيمة، قالوا: (أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم)، هم يحاولون أن يتوددوا بالرحامة والقرابة؛ باعتبار قريش تجمعهم برسول الله رابطة هذه القرابة، فبنو هاشم بطنٌ من بطون قريش، قال: (أقول لكم ما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء).
يعتبر هذا الاسم (الطلقاء) اسماً مهماً جداً، سمَّاهم به رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وهذا الاسم له مدلولٌ مهم، إذ أنه ليس فقط ينحصر على مدلول العفو عنهم، بل أكثر من ذلك، هذه الفئة تختلف عن الفئات الأخرى في واقع المجتمع الإسلامي، تتشكل الأمة الإسلامية- آنذاك- في واقعها من فئتين مهمتين، مثَّلت- آنذاك- قطباً قامت عليه رحى الرسالة، واتسعت دائرة الإسلام من خلاله، ومثَّل النواة للمجتمع الإسلامي، هم المهاجرون والأنصار، وهذه التسمية لذلك المجتمع ولتلك الفئة التي أرغمت على الاستسلام، ودخلت الإسلام في وقتٍ متأخر؛ نتيجةً لهزيمتها، وليس نتاجاً لقناعتها ورغبتها، ولا لتقبلها على أساسٍ من التفهم والاستجابة الصادقة؛ إنما نتيجةً لظروف قاهرة، ولنصرٍ إلهيٍ حاسم، ولفتحٍ مبين، وحالةً من الإرغام بعد الهزيمة والاستسلام.
الطلقاء، الطلقاء إذاً فئة أخرى لا يحسبون من المهاجرين، ولا يحسبون من الأنصار، وأدرك أبو سفيان ماذا يعنيه هذا الاسم، وماذا يدل عليه، وسعى ومعه البعض من أولئك الطلقاء إلى أن يطلبوا من رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” أن يدخلوا ضمن المواثيق، وضمن التسمية الأخرى التي هي: المهاجرين والأنصار، فأن يكون ما يشملهم هو نفس ما شمل المهاجرين والأنصار، وأن يدخلوا تحت ذلك الارتباط المهم فيما يعنيه من: روابط، وولاء… مدلولات مهمة جداً، لكن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” رفض ذلك، رفض أن يدخلهم إلى مصاف المهاجرين والأنصار، وحرص على أن يبقى لهم هذا الاسم، ومن لحق منهم بعد الفتح من مكة بالمدينة لم يعتبر في صف المهاجرين، وفي عنوان المهاجرين، لا يعتبر كذلك.
الطلقاء هؤلاء بقي لهم هذا الوصف، لماذا؟ الكثير من المجتمع المكي الذي يعرف رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وعاش رسول الله ونشأ في أوساطهم، عرفوه عن قرب بأكثر مما يمكن أن يعرفه أيُّ مجتمعٍ آخر، سمعوه، وأتت الرسالة والبعثة بالرسالة بين أوساطهم، ورسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” بما منحه الله “سبحانه وتعالى” من المؤهِّلات العظيمة، وهو يتحرك في أوساطهم يقيم أمر الله، يبلِّغ رسالة الله بجدارة عالية، بقدرات كبيرة، بمؤهِّلات عظيمة، يستطيع أن يقنع أيَّ إنسانٍ منصف، لكنَّ ذلك المجتمع أصرَّ على موقفه في كثيرٍ منه، هناك من آمن، هناك من كانوا عظماء، لكن أكثرية هذا المجتمع كان لها موقف معاند، كانت تتجه الاتجاه المحارب للإسلام، المتنكر للرسالة الإلهية، ومعنى هذا التنكر لتلك المبادئ التي أتى بها الإسلام، ولكل تلك الأخلاق والقيم التي أتى بها الإسلام، ولكل تلك الأسس العظيمة والمهمة التي يُبنى عليها الإسلام في كل تفاصيله: في شرعه، في نهجه، في تعاليمه…إلخ.
تلك الفئة التي أصرَّت، عاندت، تنكَّرت للرسالة الإلهية، جحدت، كانت غير منصفة، لم تتأثر بالآيات ولا العِبَر، أساءت إلى الله، وأساءت إلى رسوله، تفرعنت وساءت إلى أن وصلت إلى درجةٍ عبَّر عنها القرآن الكريم بنصٍ مهمٍ جداً: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}[يس: الآية7]، ماذا تعنيه هذه الآية المباركة؟ (لَقَدْ): هذه عبارة تأكيد، (اللام) و (قد) في هذا التعبير القرآني يحمل معنى التأكيد، {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ}، ما هو القول الذي حَقَّ على أكثرهم؟ أنه الوعيد الإلهي، القول الذي حَقَّ على أكثرهم هو الوعيد بجهنم، الوعيد بالعذاب، بمعنى: أنَّ الأكثرية من أولئك الذين بُعِثَ فيهم وأنذرهم فجحدوا الرسالة، وتنكروا للرسول وهم يعرفون من هو، يعرفون أمانته، يشاهدون الآيات الشاهدة، والمعجزات الدالة على صدقه، وتنكَّروا مع كل ذلك، (حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ): حَقَّ الوعيد الإلهي على أكثرهم، وصلوا في سوئهم، في عنادهم، في كفرهم، في إجرامهم، في فسادهم، إلى درجةٍ أصبحوا فيها من أهل جهنم، أصبحوا يستحقون العذاب الإلهي، فقدوا كل عناصر الخير في داخل أنفسهم، فسدت نفسياتهم، حتى أصبحت بعيدةً تأبى أن تتقبل هذا الدين في مبادئه العظيمة وأخلاقه العظيمة؛ فخذلوا، فلم يعودوا قابلين للإيمان أبداً، خذلوا لهذه الدرجة التي أصبحوا فيها جهنميين بما تعنيه الكلمة، منتهى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان حينما يضل ويخذل ويفسد فلا يعد قابلاً للحق، ولا متقبلاً للهدى، ولا منسجماً مع الفطرة، {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، لا يمكن أن يؤمنوا؛ لأنهم قد خذلوا إلى هذه الدرجة الرهيبة جداً.
هذه الفئة عندما كان في يوم فتح مكة وأعلنت إسلامها، لم تعلن إسلامها عن إيمان، إنَّ القرآن يؤكِّد هذه الحقيقة، لم تعلن إسلامها عن قناعة، كانت المسألة بالنسبة لها حالة استسلام، حالة ارغام، حالة هزيمة، ولذلك حينما دخلت في هذا الإسلام دخلته كحالة استسلام، وليس كحالة إيمان، ومعنى ذلك ماذا؟ دخلوا كمنافقين، كمنافقين في هذا الدين.
عندما دخلوا كمنافقين في هذا الدين، ونعرف من خلال القرآن الكريم ماذا ستكون توجهاتهم، اهتماماتهم، برنامجهم، ما هو البرنامج الذي عليه المنافقون؟ الله يقول في القرآن الكريم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}[التوبة: من الآية67]، هذا هو البرنامج الذي يسير عليه المنافقون بعد أن ينتموا للإسلام، بعد أن يشهدوا بالشهادتين، بعد أن يمارسوا طقوساً من طقوس الإسلام كحالة شكلية، بعد أن يتقبَّلوا بعضاً من هذا الإسلام بشكلٍ أو بآخر، لكنَّ برنامجهم في هذه الحياة ليس هو برنامج الإسلام الذي رسمه: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران: من الآية110]. إنَّه اتجاهٌ معاكس، إنَّه برنامجٌ مختلفٌ كلياً، على العكس من ذلك (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ)، المنكر الذي هو مناقضٌ للمعروف في كل تفاصيله تلك: ظلم، فساد، جرائم، تربية فاسدة…إلخ. (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ)، فهم يتجهون اتجاهاً مختلفاً.
ولذلك مثَّل وصول بني أمية إلى السلطة في واقع هذه الأمة كارثة رهيبة جداً، كان يتخوفها النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” على هذه الأمة من يوم أن رأى في منامه أولئك وهم ينزون على منبره نزو القردة، فحزن حزناً شديداً لذلك، أيُّ مستقبلٍ مظلم ينتظر أمةً يصل فيها منافقوها والطلقاء أولئك الذين لم يدخلوا في الإسلام إلا من واقع الهزيمة والاستسلام، يصلون فيها إلى موقع القرار والسلطة، والأمر في هذه الأمة، يصلون إلى التَّحكم في رقاب أبناء هذه الأمة! كانت كارثةً كبيرة.
وإذا جئنا إلى الاستقراء للتاريخ كعناوين فيما فعلوه:
عاشوا أولاً النزعة الانتقامية، كانوا يحملون عقدة الانتقام من رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، ومن أهل بيته، ومن أصحابه الأخيار، وحتى عقدة الانتقام من مدينته، وحتى عقدة الانتقام من مقدَّسات هذا الإسلام.
لو نأتي إلى استقراء لبعضٍ من هذه العناوين، عندما وصلوا إلى السلطة وذهب أبو سفيان إلى أين؟ ذهب إلى قبر حمزة؛ لأنه لم يكن بالإمكان أن يذهب إلى قبر رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وإلَّا لذهب، حالة النفاق تقتضي أن يكون هناك قدرٌ ما من محاولة التظاهر بهذا الإسلام في عناوين معينة ومستويات محددة؛ لأنه لا يمكنه الذهاب إلى قبر رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” ذهب إلى قبر حمزة بن عبد المطلب، ركل القبر بقدمه وحذائه متباهياً- فيما يعبِّر عنه- بوصولهم إلى السلطة، وبأنهم من هذا الموقع سينفِّذون خطتهم التي كانت هي المشكلة ما بينهم وبين رسول الله، وكانت هي المشكلة التي فيها استشهد حمزة بن عبدالمطلب، ماذا نظن أنَّ مشكلة حمزة مع بني أمية في واقعة أحد؟ هل كانت الحرب إلا حرباً بين الإسلام والكفر، بين الضلال والهدى، بين رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وبين أبو سفيان الذين كان قائداً للكفر والكافرين، والشرك والمشركين، عندما ذهب وهو يحمل عقدة الانتقام، عندما قال يخاطب بني أمية بعد أن وصلوا إلى السلطة: (تلقفوها يا بني أمية تلقف الصبيان للكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من جنةٍ ولا نار)، هذه العقدة الانتقامية التي عبَّر عنها يزيد في قوله:
لست من خِنْدَفَ إن لم أنتقم |
من بني أحمد ما كان فعل |
التي عبَّر عنها وهو يتمثل بقول الشاعر:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا |
جزع الخزرج من وقع الأسل |
لأهلُّــوا واستهلُّـــوا فرحـاً |
ولقـالـوا يــا يزيـد لا تُشــل |
تلك العقدة التي عبَّر عنها الكثير منهم هناك وهناك، العقدة من الرسول، العقدة من الإسلام، تلك العقدة التي عبَّر عنها معاوية وهو منزعج وهو يسمع المؤذن يقول: أشهد أنَّ محمداً رسول الله. فيقول: (أما رضي ابن أبي كبشة حتى يذكر اسمه في اليوم والليلة خمس مرات).
تلك العقدة التي عبَّروا عنها في كثيرٍ من أقاويلهم وتصرفاتهم، عندما قال قائلهم:
تلعَّب بالبرية هاشميٌ |
بلا وحيٍ أتاه ولا كتاب |
عندما قال يزيد نفسه:
لعبت هاشم بالملك فلا |
خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل |
عقدة الكفر، عقدة الحقد، عقدة الانتقام، ثم ماذا فعلوه؟ اتجهوا لمحاربة الإمام عليٍ “عليه السلام” من البداية محاربةً شرسة، والأمة تعرف من هو عليٌّ فيما يمثِّله من الامتداد لرسالة هذا الإسلام، عليٌّ الذي قال عنه الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلَّا أنَّه لا نبي بعدي)، اتجهوا للحرب ضد الإمام عليٍّ “عليه السلام”، فكانوا هم الفئة الباغية التي حذَّر منها الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” يوم قال عن عمَّار: تقتلك الفئة الباغية، لماذا؟ تدعوهم إلى الجنة، ويدعونك إلى النار، كانوا هم الفئة الباغية الداعية إلى النار، ماذا معنى تدعو إلى النار؟ الباطل الذي يقدِّمونه، المفاهيم الخاطئة، المواقف الباطلة، السلوكيات الإجرامية التي هم متَّصفون بها، ويتحرَّكون بها، ويتحرَّكون بالناس الذين يغرونهم، ويضلونهم، ويؤثِّرون عليهم، ويسيطرون عليهم بها ومن خلالها.
دعاةٌ إلى النار، هل تكون الدعوة إلى النار إلا انحرافاً حقيقياً عن منهج الإسلام العظيم، هل يمكن أن يكون هناك التزام بهذا الإسلام في مبادئه، التزام بهذا الإسلام في منهجه، التزام بهذا الإسلام في برنامجه، ثم تكون الدعوة دعوةً إلى النار؟ والأمة تروي كل ذلك، ليس فقط في كتب الشيعة وفي تراث الشيعة، الأمة بكلها بمختلف مذاهبها تروي حديث الفئة الباغية، الداعية إلى النار، الداعية إلى النار.
ثم كانوا من تآمر على الإمام عليٍ “عليه السلام” حتى في قتله اغتيالاً عن طريق ابن ملجم، كانوا هم من حرَّكوا الخوارج، ولعبوا بهم، وكانوا يؤثِّرون فيهم بأساليب ووسائل مخادعة، وطرق معينة.
كانوا هم من قتلوا المئات من خيرة أصحاب رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وفي مقدِّمتهم المؤمن العظيم، والصحابي الجليل عمَّار بن ياسر، عمَّار الذي عبَّر الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” عن أنه مُلئ إيماناً، مُلئ إيماناً، هذا عمَّار المؤمن العظيم، هذا المجاهد العظيم، هذا الصحابي الجليل مَن الذي قتله؟ هم أولئك الفئة الباغية، وكان قتلهم له من أكبر دلائل بغيهم، خروجهم على الإمام علي، محاربتهم للإمام علي هي مؤشرٌ كافٍ، ودلالة واضحة وفاضحة على بغيهم، لكن جعلت إضافةً إلى ذلك هناك علامات أخرى إضافية، منها قتلهم لعمَّار الذي أخبر الرسول أنها ستقتله الفئة الباغية، مع عمار قتلوا العدد الكبير المئات من الصحابة، هم من استأصلوا كل من شهد واقعة بدر مع رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” من صحابة رسول الله، كان من ضمن التوجيهات من ضمن التوجيهات والأوامر التي أمر بها يزيد في هجوم جيشه على مدينة رسول الله: أن يستأصلوا وأن يقتلوا كل من بقي من أصحاب بدر، واقعة بدر الكبرى، وغزوة بدر في الجهاد مع رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، هل هذه إلَّا عقدة من الإسلام، وثأر وانتقام من رسول الله، وانتقام من المسلمين، من المؤمنين، من المجاهدين، من الصحابة الأخيار؟
وكانوا هم الذين قتلوا في صفين المئات من أصحاب رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، من المهاجرين والأنصار، كانوا هم من سفكوا دماء هذه الأمة على نحوٍ رهيب في أقطار شتى، في العراق وفي غير العراق، في اليمن.
كانوا هم من انتهكوا حرمة المقدَّسات الإسلامية، فلم يعترفوا ولم يقدِّروا حرمة وقدسية الكعبة المشرَّفة، فهاجموها، ضربوا عليها بالمنجنيق، أحرقوها بالنيران، الكعبة بكل قداستها، بكل حرمتها انتهكوا هذه الحرمة، ولم يقدِّروا هذه القدسية.
كانوا هم من هاجم المدينة المنوَّرة، وكانوا هم من قتلوا الآلاف من أبناء وسكان هذه المدينة، وقتلوا الكثير منهم، قتلوا العشرات على قبر رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” حتى أغرقوه بالدماء.
كانوا هم الذين قتلوا عترة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” وارتكبوا الجريمة البشعة في كربلاء يوم عاشوراء، وفعلوا ما فعلوا في تلك المجزرة الرهيبة والفاجعة الكبيرة، كل ما يعبِّر عن الوحشية، والإجرام، والإفلاس الإنساني والأخلاقي كان حاضراً في سلوكياتهم وممارساتهم.
هم الذين ارتكبوا أبشع الجرائم بحق هذه الأمة في كل سلوكياتهم: السياسة المالية، الاستئثار بالمال العام، والنهب له، والتوظيف والاستغلال له في الترف وفي شراء الذمم، فنهبوا ثروة الأمة، واستأثروا بالفيء، واتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا.
وهم من اتجهوا إلى تحريف المفاهيم، وما فعلوه في ذلك هو جناية كبيرة جداً على الأمة، لقد عملوا على تغيير مفاهيم هذا الدين، هم من شكَّلوا لجاناً واصطنعوا البعض من علماء السوء بالمال (بمئات الآلاف من الدراهم الفضية، والآلاف من الدنانير الذهبية)؛ لاختلاق أحاديث مفتراة ومكذوبة على رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وكانوا يدفعون ثمناً لبعض الأحاديث ثلاثمائة ألف درهم مقابل حديث يفترى على رسول الله، يتضمن مفهوماً باطلاً ومضلاً خطيراً على هذه الأمة؛ فيقدَّم ليحسب على الإسلام، تحرَّكوا من موقع النفاق لتحريف مفاهيم هذا الدين، وهذا كان أكبر خطر على هذه الأمة، خطر كبير جداً، وكم هي المفاهيم التي غيَّروها وتحسب على الإسلام وليست هي من الإسلام، وقدَّموها باسم حديث مختلق ومفترى على رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، أو باسم معناً مزيف لنصٍ قرآني، أو باسم فتوى من الفتاوى الدينية، أو ضمن كتب تكتب، كم فعلوا وكم صنعوا من ذلك؟ الشيء الكثير والكثير.
هم من انتهكوا الحرمة للنساء المسلمات، فارتكبوا جرائم الاغتصاب عند اقتحام جيشهم لمدينة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” استباحوا عرض النساء المسلمات، واغتصبوا المئات من النساء، المئات من النساء، حتى المئات من الابكار، دعك من الثيبات، من الابكار اللواتي حملن بعد تلك الواقعة نتيجةً لجريمة الاغتصاب، هم الذين سبوا نساء أهل اليمن في عصر الإسلام وباعوهن بعد سبيهن في الأسواق، بعد جريمة بُسر وحملته- بأمرٍ من معاوية- على اليمن، فارتكب أبشع الجرائم في اليمن.
الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” كثيراً ما حذَّر منهم ومن خطورتهم على الأمة، حتى أنَّه أوصى الأنصار بوصية، لكنهم لم ينفِّذوها، حين قال لهم: (إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه، إلَّا تفعلوا {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}[الأنفال: من الآية73])، ويوم قدم معاوية إلى المدينة وصعد على منبر رسول الله، تذكَّر بعضهم هذه الوصية، وذكَّر البعض بها، لكنهم كانوا قد وصلوا إلى حالةٍ من الواقع السلبي والتأثر به؛ فلم ينفِّذوا هذه الوصية، كم يمكن لنا أن نتحدث على ضوء ما سطره التاريخ عن ذلك الواقع الظلامي الذي صنعه بنو أمية، لا يتسع الوقت للحديث أكثر، نكتفي بهذا المقدار مع التنبيه على نقطتين:
النقطة الأولى: عندما نتحدث عن بني أمية نتحدث عن أولئك الذين سطَّر التاريخ جرائمهم، وطغيانهم، وظلمهم، ومفاسدهم، من الذين وصلوا إلى موقع السلطة، أو لم يصلوا في تلك الحقبة التي عاشوا فيها السيطرة على هذه الأمة، مع الاستثناء لحالات قد تكون نادرة، كما هو حال عمر بن عبد العزيز الذي اختلف عنهم في كثيرٍ من الأمور.
ثم نحن أيضاً ننبه على أنَّ حديثنا لا يمتد إلى من يُحسب من ذراريهم، من يمتد نسبه إليهم، بيوتات معينة، مثلاً: عندنا في اليمن بيوتات معروفة في اليمن أصلها من ذريتهم، لكنها تختلف عنهم، فحديثنا لا يمتد إليهم، الامتداد لهم هو ما يشكِّل امتداداً سلوكياً، امتداد السلوك، امتداد النهج، امتداد العمل، الموقف الذي عليه كثيرٌ من الأنظمة ومن العملاء والمنافقين الذين يتحرَّكون في أوساط هذه الأمة، فكانوا امتداداً لهم في الموقف، في السلوك، في المسار، في الطريق الخاطئ، في الانحراف الكبير، فنحن لا نقصد أبداً الإساءة إلى تلك البيوتات التي هي جزءٌ من أبناء هذا الشعب، تعيش واقعاً إيجابياً ضمن ما عليه واقع هذا الشعب.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛