نص المحاضرة الرمضانية الـــ 19 للسيد عبدالملك الحوثي ( ذكرى استشهاد الإمام علي عليه السلام) 20 رمضان 1444 هجرية
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
وعظّم الله أجورنا وأجوركم، في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وإمام المتقين: علي بن ابي طالبٍ “عَلَيهِ السَّلَامُ“، الذي استُشهِد في ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك، سنة أربعين للهجرة النبوية، في مسجد الكوفة، أثناء خروجه لأداء صلاة الفجر، في فناء المسجد.
أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيهِ السَّلَامُ” فيما يعنيه للأمة، كهادٍ للأمة بعد نبيها “صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، وحَلَقَة وصلٍ في الأمة بالنبي والرسالة، وللامتداد الأصيل للإسلام، في نقاءه ومسيرته الصحيحة، يُعتبر استشهاده، والاستهداف له، خسارةً كبيرةً على الأمة، ودليلًا على انحرافٍ رهيبٍ في واقع الأمة، واستهدافًا خطيرًا جدًّا للأمة نفسها.
عندما استُشهِد أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ“، وكان الذي استهدفه هو من سمَّاه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” أشقى الآخِرين، وأشقى الأمة، واستُهدِف بسيفٍ محسوبٍ على أبناء هذه الأمة، على من ينتمي إلى هذه الأمة، كان ذلك يدل على انحرافٍ خطيرٍ جدًّا في واقع الأمة: في فهمها للإسلام، وفي انتمائها للإسلام، وفي صحة استمرارها على أصالة الإسلام، يدل ذلك على ما حصل، من انحراف خطير جدًّا، وصلت تداعياته وآثاره إلى استهداف أتقى الأمة، وأزكى الأمة، وخير الأمة، وهادي الأمة بعد نبيها “صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”.
ثم الاستهداف له بما هو عليه من كمالٍ إيمانيٍ عظيم، بموقعه في الإسلام، بمنزلته العظيمة، يمثل جرأةً خطيرةً جدًّا، لا تأتي إلا من واقع انحرافٍ خطيرٍ وسيءٍ للغاية.
والاستهداف له لم يكن اغتيالًا، مجرد اغتيال لزعيم، أو مسؤول على رأس هرم الدولة الإسلامية، وقائدٍ للأمة الإسلامية فحسب؛ بل كان:
-
استهدافًا له فيما يعنيه للأمة، في دوره المحوري والمهم في هداية الأمة، في تربيتها على الإسلام، في الحفاظ عليها، والحفاظ على مسيرة الإسلام فيها، لتبقى مستمرةً بالشكل الصحيح، وهو الذي قال عنه رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ“: أنه يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتل النبي على تنزيله.
-
وأيضًا استهدافًا له، واستهدافًا للأمة؛ لتمكين الطغاة من السيطرة عليها، ولتمكين الطغيان من الاستحواذ عليها، وهو الذي حصل ما بعد استشهاد أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”، حيث تمكن الطغاة المجرمون من الوصول إلى هرم السيطرة على الأمة، إلى هرم القيادة والسيطرة التامة على الأمة، وكانت خسارةً رهيبة، امتدت آثارها وتداعياتها في كل أجيال الأمة، جيلًا بعد جيل.
عندما نتحدث عن أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ“، فهو مدرسةٌ متكاملة، الحديث عنه هو حديثٌ عن الإسلام، عن قيمه، عن مبادئه، عن أخلاقه، عن القرآن الكريم وهديه العظيم، فهو كان تجسيدًا للإسلام، وكان قرآنَا ناطقًا، والحديث عنه فيما كان عليه من كمالٍ إيمانيٍ عظيم، وما كان عليه أيضًا من المواصفات، والقيم، والأخلاق الفطرية، والإنسانية، والإسلامية، والكمال العظيم في ذلك، وما قاله الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ” بشأنه، هو يفيدنا، ويبيّن لنا ما يعنيه لنا نحن كأمةٍ إسلامية؛ لأن الحديث عنه لم يكن حديثًا عن مجرد شخصٍ حاز مستوى الكمال الإيماني العظيم، وكان فقط مجرد نموذج في كمال الإيمان، وتجسيدًا لقيم الإيمان فحسب؛ وإنما بدوره المهم في الأمة، الذي بيّنه رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ” في نصوصه المهمة المعروفة بين كل الأمة.
-
المزايا والخصائص البارزة والمهمة لعليٍّ “عَلَيهِ السَّلَامُ“ كثيرةٌ جدًّا:
-
في مقدمتها: أنه وليد الكعبة، وشهيد المحراب، وما بين المولد والشهادة حياةٌ نقية، سليمةٌ من كل شوائب الشرك، والكفر، والفسق، ومن كل رجس الجاهلية، حياةٌ متميزةٌ بالإيمان، والعطاء، والعمل، والقيم الراقية، والقيم العظيمة:
هو كان السابق إلى الإسلام، سبقًا مبكرًا من يومه الأول، بدأ الإسلام، وكان سابقًا فيه، ومن دون تردد، ومن غير سابقة شرك، أو تلوثٍ بدرن الجاهلية، وسبقه إلى الإسلام كان سبقًا مميزًا، بإيمانه العظيم، الواعي، الصادق، وبارتقائه الإيماني، نحو سُلَّم الكمال الإيماني، وبالاستقامة التامة الممتدة في مسيرة حياته، ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عن فضيلة السبق والسابقين: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة: 10-11].
-
وهو ذلك الذي عندما دخل في الإسلام، استوعب الإسلام، في مبادئه، في قيمه، وجسَّده في مسيرة حياته بتميُّز، في كل مجالٍ من المجالات، فهو في جهاده السابق أيضًا إلى بيع نفسه من الله تعالى، والفدائي الأول، وبطل الإسلام، والمجاهد العظيم، ورجل المهمات الصعبة، والمواقف الخالدة:
هو المصداق الأول للآية المباركة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: الآية207]، هو المصداق الأول أيضًا للآية المباركة: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[التوبة:19].
هو بطل المواطن الكبرى الفاصلة:
-
في يوم بدر (يوم الفرقان)، كان له الموقف الأبرز، في الفتك بالمشركين وأبطالهم، وقادتهم، وفي التفاني والاستبسال في تلك المعركة المهمة.
-
وفي يوم أحُد، كان له الموقف الأبرز، في تفانيه، وثباته، واستبساله، حتى قال عنه جبرائيل: ((إن هذه لهي المواساة))، وحتى هتف الهاتف، الذي سمع الناس صوته: ((لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي)).
-
وفي يوم الخندق، قال عنه رسول الله: ((برز الإيمان كله، إلى الشرك كله))، عندما برز لقتال عمرو بن عبد وُدّ العامري، وقتَلَه.
-
في بقية المواطن: هو المذكور في الموقف المهم، الموقف الصعب، وبالتفاني، وبالثبات، وبالاستبسال، وهو فاتح خيبر، يوم قال رسول الله “صَلَىَ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وسَّلَمُ “: ((لأعطين الراية غدًا رجلًا، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، يفتح الله على يديه)).
وهكذا في بقية مواطن الإسلام، له الإسهام البارز والمتميز، والجهد الكبير، والتفاني العظيم، والأثر المميز والواضح.
-
هو النموذج في كمال الإيمان وتجسيد القيم:
فليس فقط على مستوى الجهاد في سبيل الله، بل في كل المجالات، الجهاد في سبيل الله: هو في مقدمة ما يبيّن مصداقية الانتماء الإيماني، والكمال الإيماني:
-
هو في مقام العبادة ذلك العابد، الخاشع، الخاضع لله، الذي شهد له القرآن بإقامة الصلاة، والذي شهد له القرآن، وشهد له التاريخ، بخضوعه وإخباته لله “عَزَّ وَجَلَّ”.
-
هو في مقام العطاء، والإنفاق، والرحمة بالضعفاء والمساكين، من تصدّق بخاتمه وهو راكع، هو في مقامٍ عظيم من مقامات الإقبال على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومع ذلك ينتبه، يلتفت إلى الفقير، ويُهِمُّه أمره، ويحرص على أن يعطيه شيئًا، هو ذلك الذي آثر بطعامه وهو صائمٌ جائعٌ، لا يمتلك غير ذلك الطعام، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}[الإنسان: الآية8].
-
هو ذلك- على مستوى العلم والوعي والبصيرة- الأذن الواعية، باب مدينة العلم، الذي قال عنه رسول الله: ((أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابها)).
وهكذا في كل مجالات الإيمان، كان هو السابق، وهو الكامل، وهو الذي تكاملت فيه كل قيم الإسلام ومبادئه، وجسَّدها على أرقى مستوى، فكان النموذج الذي يعبِّر عن كمال الإيمان، وقيم الإسلام، وأصالة الإسلام، والشاهد للإسلام في أثره التربوي العظيم في الإنسان، وفي أثره في واقع الحياة.
-
النصوص النبوية المتعلقة به، كثيرٌ منها– مما اشتهر بين الأمة، بمختلف فئاتها، وطوائفها، ومذاهبها- يبيّن ما يعنيه لنا أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ“:
-
من أهم النصوص المعروفة، المتواترة، الثابتة، قول الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ” له: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)):
وهذا نصٌ في غاية الأهمية، يجب أن نستوعبه، أن نتفهمه؛ لأنه يبين لنا نحن ما يعنيه (عليٌّ) لنا، الرسول حدّد منزلته وموقعه منه ((بمنزلة هارون من موسى))، باستثناء شيءٍ واحد: هو النبوة، ((إلا أنه لا نبي بعدي))، فهو في منزلته، في مقامه الإيماني العظيم، في دوره في الأمة: بهذا المقام بمقام هارون من موسى، لا يمكن أن نتصور في أمة موسى من هو أرقى من هارون، في كماله الإيماني، أو في فضله، أو في دوره، أو في مهمته، وفيما يعنيه لأمة موسى، لا يمكن أن نتصور من كان في مستوى هارون، أو أكبر من مستوى هارون من موسى، هذا هو دور أمير المؤمنين في هذه الأمة، التي تؤمن برسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”: هاديًا ونبيًا، ومعلمًا، وقائدًا وقدوةً، فأمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ” له دور هارون، باستثناء النبوة.
-
رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ” قال: ((علي مع القرآن، والقرآن مع علي)):
فيما يبينه ذلك من اقتران بالقرآن، في مسيرة حياته، في مواقفه، في الهداية والاهتداء، وبالتالي هو في مقام القدوة والهداية مرتبطٌ كل الارتباط بالقرآن الكريم، لا ينفصل عنه أبدًا، في مسيرة حياته، في مواقفه، في دوره، في عمله، في التزامه.
بل مع ذلك أخبر رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ“، أنه سيقاتل على تأويل القرآن، فيما يفيده ذلك من حفاظه على أن تبقى مسيرة الإسلام، فيما يهدي إليه القرآن، في أمر الدين، في مسيرة الأمة، على أساسٍ من دينها وانتمائها، وفقًا للقرآن الكريم في مفهومه الصحيح، عندما يأتي الاعوجاج في داخل الأمة، تأتي المفاهيم المنحرفة الخاطئة، التي لا تعبّر عن حقيقة الإسلام، فتؤثر على الكثير من أبناء الأمة، وتنحرف بالكثير من أبناء الأمة، وتؤثّر على الكثير من أبناء الأمة، يبقى هذا الدور المهم جدًّا للإمام عليٍّ “عَلَيهِ السَّلَامُ” في الحفاظ على تأويل القرآن، والقتال على تأويل القرآن، يقاتل لتبقى مسيرة هذه الأمة مسيرةً على أساسٍ من قرآنها، في مفهومه الصحيح، وفي مفاهيمه الحقة.
-
يقول عنه: ((عليٌ مع الحق والحق مع علي)):
فيما يفيده ذلك من ثباته على الحق، في مواقفه، في مسيرة حياته، في حركته بالأمة، يتحرك بها على أساسٍ من الحق، فلا يزيغ بها، ولا يميل بها عن الحق أبدًا، يوم يأتي الباطل ليتسلل إلى داخل هذه الأمة، فينحرف بالبعض من أبنائها، ويؤثر عليهم تحت عنوان الحق، في أسلوب الخداع والتضليل.
-
من أهم النصوص المعروفة بين الأمة، الثابتة، المشتهرة، المتواترة، قول رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ“ في غدير خُمّ: ((إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه، فهذا عليٌ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)):
هذا النص يبيّن ولاية أمير المؤمنين، أنه ولي كل مؤمنٍ ومؤمنة، يتولاه بعد رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، ويصلك برسول الله، بولايته، بهديه.
-
يقول عنه رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ“: ((لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)):
فنجد هنا أنه “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ“ علامةٌ فارقة بين الإيمان والنفاق، وما ابتُلِيَت به الأمة في الانحراف، الذي طرأ على واقعها، وتغلغل في أوساطها، وأثَّر على مسيرتها، هو نتيجةٌ لحركة النفاق.
النفاق، تحركت رايته في أوساط الأمة بالبغض لعلي، والمحاربة لعلي، والعداء لعلي، لماذا؟ لما يمثله أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”، من امتداد أصيلٍ ونقيٍ وصحيحٍ لمسيرة الإسلام، وللقرآن الكريم، في مفاهيمه الصحيحة، وفي تأويله الصحيح، فالنفاق اصطدم بعلي، وجد في عليٍّ “عَلَيهِ السَّلَامُ” المشكلة فيما يمثله للأمة، في دوره في الأمة، فيما يقدمه للأمة، في حركته بالأمة، هذه مشكلة النفاق والمنافقين مع أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”.
-
أمير المؤمنين هو مدرسةٌ متكاملة، الحديث عنه واسع جدًّا:
-
على مستوى الإرث الديني والإيماني.
-
وعلى مستوى سيرة حياته.
-
وما قاله عنه الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”.
-
وما ورد عنه من الحِكَم، من الرسائل، من الدروس المهمة والمفيدة.
إذا جئنا إلى جانبٍ من الجوانب المهمة البارزة في مسيرة حياته، وفي نصوصه، ومواقفه: هو جانب الوعي والبصيرة والثبات، في مواجهة الأعباء، والتحديات، والصعوبات، والمخاطر، وكيف واجهها أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”، بدءًا بالواقعة والحادثة الكبيرة، وهي الشهادة في سبيل الله، من المعروف بين الأمة، أن أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ” عندما استُهدِف في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، ضربه ابن ملجم- لعنه الله- في تلك الليلة بالسيف، قال “عَلَيهِ السَّلَامُ“، في اللحظة التي ضربه فيها بالسيف على رأسه الشريف: ((فزت ورب الكعبة))، هتف بهذه الجملة المهمة، ((فزت ورب الكعبة))، لم يتأوَّه، لم يندم، لم يعبرّ عن الحسرة، أو حالة الخسران، أو حالة الندم، أو أيٍّ من ذلك، بل أعلن فوزه مقسمًا على ذلك، ((فزت ورب الكعبة))، فهو كان على بينةٍ مما هو عليه، على بصيرةٍ مما هو عليه، أنه على منهجيةٍ وطريقٍ يفوز من يسير عليها، وأن عاقبته هي الجنة، هي رضوان الله، هي الفوز العظيم بما وعد الله به؛ ولذلك استقبل الشهادة بصدرٍ رحبٍ، بإعلانٍ لفوزه، بسعادةٍ غامرة.
عندما أُخبِر في عهد رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ“، أخبره رسول الله بأنه سيستشهد، وبتلك الطريقة، يقتله من هو محسوبٌ على هذه الأمة، من سمَّاه رسول الله بأشقى الأمة؛ لأنه يجلب الشقاء على الأمة، وبأشقى الآخرين، أشقى الأجيال الآخرة بكلها؛ لأنه جلب الشقاء عليها، كما سمَّى عاقر ناقة ثمود بأشقى الأولين، عندما أخبره رسول الله بأن لحيته الشريفة ستخضب من دماء رأسه، ماذا كانت ردة فعله؟ ماذا كان موقفه؟ ماذا عبرّ عنه؟ قال: ((أفي سلامة من ديني؟))، قال له رسول الله: ((نعم))، ((أفي سلامة من ديني يا رسول الله؟))؟ قال: ((نعم))، قال: ((إذًا لا أبالي)).
يبيّن لنا هذا روحية أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ“، ووعيه الكبير، حيث توجّه كل اهتمامه نحو سلامة دينه، كان هذا هو المهم بالنسبة له: سلامةَ دينه، هذا يعبِّر عن عمق وعيه، وعن عمق إيمانه، وعن بصيرته الكاملة، هو يدرك أن أهم شيءٍ بالنسبة للإنسان هو سلامة دينه، وأن أكبر خسارةٍ يخسرها الإنسان إذا خسر دينه، إذا خسر دينه، خسر دنياه، وخسر مستقبله في الآخرة، وخسر كرامته، وخسر كل شيء، وهو يدرك ويعي أيضًا الواقع الذي ستمر به الأمة، وما يحصل ويطرأ في واقع الأمة، من فتنة وانحرافات، وأمور خطيرة جدًّا، يخاف الإنسان فيها على دينه، ويهم الإنسان المؤمن فيها سلامة دينه، قال: ((نعم))، قال: ((إذًا لا أبالي))، فهو لا مشكلة عنده في الشهادة، ولا مشكلة عنده فيما يحصل.
في موطنٍ آخر، قال أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ“ وقد سأله سائلٌ عن الفتنة، فقال “عَلَيهِ السَّلَامُ“: ((إنه لما أنزل الله سبحانه قوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت: الآية2]، علمتُ أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله “صَلَّى اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ“ بين أظهرنا، فقلتُ: يا رسول الله، ما هذه الفتنة، التي أخبرك الله تعالى بها؟ فقال: يا علي، إن أمتي سيُفتنون بعدي. فقلتُ: يا رسول الله، أوليس قد قلت لي يوم أُحُد، حيث استُشهد من استُشهد من المسلمين، وحيزت عني الشهادة، فشقّ ذلك عليَّ، فقلتَ لي: أبشر فإن الشهادة من ورائك؟ فقال لي: إن ذلك لكذلك، فكيف صبُرك إذًا؟ فقلت: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر)).
فنجد كيف نظرته إلى الشهادة في سبيل الله، يعتبرها فوزًا عظيمًا، ويعتبر موطن الشهادة، وموقف الشهادة، ليس من مواطن الصبر، بل من مواطن البشرى والشكر.
هذه النظرة الواعية، وهذه الروح الإيمانية الجهادية العالية، كان يحملها أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”، فيما يدل على بصيرةٍ عالية، ووعيٍ عميق، وإيمانٍ عظيم، وتفانٍ عظيم، وشوقٍ إلى لقاء الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، واهتمامٍ كبيرٍ بأمر الآخرة.
في عباراته، في رسائله، كان يركِّز على مسألة البصيرة والوعي، وكان يعبَّر عن بصيرته، ووعيه، وثباته، على أساسٍ من تلك البصيرة، يقول “عَلَيهِ السَّلَامُ“ بعدما تحرك أعداؤه للحرب عليه: ((ألا وإن الشيطان قد جمع حزبه، واستجلب خيله ورجله، وإن معي لبصيرتي، ما لَبَّسْتُ على نفسي، ولا لُبِّسَ عليَّ، وَأيْمُ الله، لأَفرِطَنَّ لهم حوضًا، أنا ماتحه، لا يصدرون عنه، ولا يعودون إليه))، هكذا كان يتحرك في مواجهة الأعداء، في فتنتهم، في ضلالهم، في باطلهم، في سعيهم للانحراف بالأمة، تحت راية الشيطان، يتحركون تحت راية الشيطان، فيتصدى لهم ومعه بصيرته، ((وإن معي لبصيرتي))، ينطلق بوعي، بيقين، بفهمٍ صحيح، بنظرةٍ صائبة، ((ما لَبَّسْتُ على نفسي، ولا لُبِّسَ عليَّ)).
في جوابٍ له على رسالةٍ إليه من أخيه عقيل بن أبي طالب، قال “عَلَيهِ السَّلَامُ“: ((وأمَّا ما سألت عنه من رأيي في القتال، فإن رأيي قتال الـمُحلِّين، حتى ألقى الله، لا يزيدني كثرةُ الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة))، لاحظوا، ما أهم هذه العبارة! لأنه منطلِق انطلاقةً مبدئية، بيقين، ووعي، وبصيرة، وانطلاقةٍ إيمانية، بمسؤولية إيمانية، ولهذا يقول: ((لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة ولا تفرقهم عني وحشة))، هو ذلك الثابت على كل الأحوال، وفي كل الظروف، ((ولا تحسبن ابن أبيك، ولو أسلمه الناس متضرِّعًا متخشعًا، ولا مقرًّا للضيم واهنًا))، يحمل عزة الإيمان، وشموخ الإيمان، وثبات الإيمان، مهما كانت الظروف، ومهما كان التخاذل من جهة الناس.
يقول “عَلَيهِ السَّلَامُ“ في أحد رسائله وهو يتحدث عن الأعداء: ((إني والله، لو لقيتهم واحدًا، وهم طِلاع الأرض كلها، ما باليت، ولا استوحشت، وإني من ضلالهم الذي هم فيه، والهدى الذي أنا عليه، لعلى بصيرةٍ من نفسي، ويقينٍ من ربي، وإني إلى لقاء الله لمشتاق، وحسنُ ثوابه لمنتظرٌ راج))، هكذا هي روحية أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”، هي مدرسةٌ مهمةٌ بالنسبة لنا، أن ننطلق ببصيرة، بوعي، ونحن في زمن ينتشر فيه الضلال، ويمتلك الضلال من وسائل التضليل، ما لم يسبق أن امتلكه في أي زمنٍ مضى، زمنٌ بلغ فيه الضلال ذروته، نحتاج إلى الوعي، نحتاج إلى البصيرة، إلى الانطلاقة الإيمانية الواثقة الثابتة، ننطلق على يقينٍ وبصيرةٍ من ربنا، لا نتزحزح، لا نميل، لا نزيغ، لا نتأثر، لا بتخاذل الناس، ولا بحجم الصعوبات، ولا بالمخاطر في مواجهة الأعداء.
يقول “عَلَيهِ السَّلَامُ“: ((ما شككت في الحق مُذ رأيتُه))، هو ذلك الذي لم يشك في الحق، لم يرتب أبدًا، كما قال الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}[الحجرات: من الآية 15]، وما أحوجنا إلى أن نكون في وعينا، في إيماننا بالحق، في قناعتنا بالحق، في بصيرتنا تجاه الحق، على هذا النحو، الذي لا نرتاب أبدًا، لا يستطيع أحد أن يشككنا في أي مرحلةٍ من المراحل، أو أن يؤثر على قناعاتنا في الحق، في أي ظرفٍ من الظروف، لا بالتشكيك، ولا بضغط الأحداث، ولا بصعوبة الواقع، ولا بحجم التحديات.
هو القائل “عَلَيهِ السَّلَامُ“: ((لا تجعلوا علمكم جهلًا، ويقينكم شكًّا، إذا علمتم، فاعملوا، وإذا تيقنتم، فأقدموا)).
وهكذا نستفيد من أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ“ الكثير الكثير، مدرسةٌ متكاملة، نتعرّف من خلالها على الإسلام، على الدين الحق، على مفاهيم القرآن الصحيحة، يصلنا برسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، كحلقة وصلٍ صافيةٍ أمينةٍ، نطمئن إليها، ولا نرتاب، ولا نشك في ذلك.
التثقيف الديني، والتعليم الديني، يجب أن يحتوي على ما ورد وأُثِر عن أمير المؤمنين وصحّ عنه، وأن نتعرف على سيرته، وحياته، وجهاده، وأن نستوعب دوره في هذه الأمة، وطبيعة علاقتنا الإيمانية به؛ حتى ننتظم في سلك المؤمنين، ((لا يحبك إلا مؤمن))، وحتى نبرأ من النفاق، وحتى نحصِّن أنفسنا وساحتنا من تأثير المنافقين، الذين يفضحهم ويكشفهم ويبيّن واقعهم: بغضُهم لأمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ“، كعلامةٍ مهمةٍ وأساسية.
في العشر الأواخر أيضًا هناك أهمية كبيرة لإحيائها، وللتركيز فيها على الدعاء، والإقبال على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ باعتبار أن ليلة القدر محتملةٌ فيها بأكثر من غيرها، محتملةٌ فيها بشكلٍ كبير.
وليلة القدر، ليلةٌ عظيمةٌ الشأن، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” تحدث عنها في القرآن الكريم، بأنها كما قال عنها: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان: الآية4]، قال عنها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: الآية1]، يعني: القرآن، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3) تَنَزَّلُ الْـمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر: 2-5]:
-
فيها نزول القرآن.
-
وفيها تتنزل الملائكة.
-
وفيها يقدِّر الله أمر العباد، على المستوى التفصيلي، فيما يكتبه لهم، أو عليهم.
-
وفيها مضاعفة الأجر، بشكلٍ عظيمٍ جدًّا، على الأعمال الصالحة المقبولة.
-
وفيها نزول الرحمة.
-
وفيها استجابة الدعاء.