نص المحاضرة الرمضانية الـــ 17 للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 18 رمضان 1444 هجرية
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وَعَلَى آلِ إبراهيم إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أصحابهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنت السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنت التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه.
الإنسان في هذه الحياة في ميدان مسؤوليةٍ هو اختبار، وهو يحظى برعاية من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في إطار دوره في هذه الحياة، كمستخلفٍ لله في أرضه، وعملية الاختبار للإنسان هي واسعة، يُختبر في هذه الحياة ويبتلى بأشياء كثيرة ومتنوعة.
من أكثر الأمور حساسيةٍ لدى الإنسان، فيما يختبر به، وأهميّة: هي الاختبار بالغنى والفقر، وسعة الرزق، وتقدير الرزق، هذا الاختبار لمَّا كان له علاقة بحياة الإنسان المعيشية، ومتطلبات حياته الأَسَاسية، كان مؤثرًا على الكثير من الناس، وحساسًا لديهم.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بحكمته يختبر البعض بسعة الرزق، ويختبر البعض بتقدير للرزق، التقدير للرزق عكس السعة، يقابل سعة الرزق، يكون بِقَدَر محدود، وقد تتغير أحياناً أحوال الإنسان نفسه، في مسيرة حياته، فقد يشمله الاختبار بالأمرين: بسعة الرزق، وأحياناً بتقدير الرزق، وقد تتكرّر هذه الأحوال بالنسبة للإنسان في مراحل حياته لمرات متعددة، أحياناً يمر بظروف متيسرة وسعة رزق، وأحياناً بظروف يُقدَّر عليه فيها رزقه، وقد يبتلى البعض، أَو يختبر البعض، بأن يكون الأغلب في حاله هو تقدير الرزق، والبعض بأن يكون الأغلب في حالته هو سعة الرزق، أَو الغنى بأكثر من ذلك، سعة إلى درجة الغنى، وامتلاك ثروة كبيرة.
كل هذه الحالات هي اختبار:
-
الإنسان في حالة الفقر هو في مقام اختبار، وفي حالة تقدير الرزق هو في حالة اختبار، هل سيصبر؟ هل سَيَعِفّ عن المحرمات؟ هل سيبقى متوكلًا على الله، راجيًا لله، ملتجئًا إلى الله، يحمل اهتمامات أكبر، نظرته وامتداد آماله إلى ما وراء هذه الدنيا، إلى عالم الآخرة، وما فيها من الخير، وما وعد الله به من الأجر العظيم؟ أم سيؤثر عليه تقدير الرزق، فيفعل المحرمات، ويتجاوز الحدود، وهو يسعى للحصول على المال، والخروج من ضائقة الظروف؟
-
في حالة سعة الرزق، الإنسان في محل اختبار، هل سيشكر هذه النعمة؟
ولله حكمة في مسألة هذا التدبير، في سعة أرزاق الناس، وفي تقدير الرزق على بعضهم، حكمة هي ضمن تدبيره الواسع في شؤون الخلق، لتسخير بعضهم البعض، للتكامل فيما بينهم، كما هي بقية مواهبه؛ لأَنَّ مواهب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لعباده، ونعمه عليهم، هي واسعةٌ جِـدًّا، ليس المال، أَو السعة في الرزق ومسألة الرزق، إلَّا واحدة منها، هناك مواهب على المستوى النفسي والمعنوي:
-
البعض -مثلًا- يهبهم الله الذكاء، والفطنة، وحسن التدبير، والحكمة.
-
البعض يهبهم الشجاعة، والقدرة.
-
البعض يهبهم الصحة والعافية، والصحة والعافية من أعظم وأهم النعم.
-
البعض يهبهم القدرة البدنية، والتحمل، والطاقة، والقوة في أجسامهم، وأبدانهم، وحواسهم.
وهكذا، مواهب الله لخلقه مواهب واسعة جِـدًّا، هذه نماذج وأمثلة فقط.
وسنة الله فيهم هي أن يتكاملوا، أن يكمّل بعضهم بعضًا، وأن يحتاج بعضهم إلى بعض، هذا عنده في مجال معين موهبة أعطاه الله إياها، وأنعم عليه في مجال معين، وكل هذا في إطار المسؤولية، هي نعم يترتب عليها مسؤوليات والتزامات في هذه الحياة، تحدث عنها هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، تشريعاته، أتت بها تعليماته.
فالإنسان في هذا الاختبار، هو في إطار حكمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في تكامل البشر فيما بينهم، فيما وهبهم الله إياه؛ لأَنَّ الله لو جعلهم كلهم أغنياء، لتعطلت الحياة من الأعمال، إذَا كان الكل غنيًّا، كيف يبقى عنده حافز للعمل، وخُصُوصاً الكثير من الأعمال التي فيها مشقة؟ لامتنع الكثير منها؛ لأَنَّ همَّه كان من العمل هو السعي لتوفير الرزق، فبذلك تُعْمَر الحياة، ويأتي العمل في كافة المجالات، بما في ذلك أعمال شاقة، لكنها أعمال مهمة في الحياة، وفي عمارة الحياة، وفي توفير متطلبات الحياة، والخدمات المهمة للإنسان، هذا جانب.
الجانب الآخر: يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَيْـضاً في القرآن الكريم: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرض وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}[الشورى: الآية27]، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قادر على أن يبسط الرزق لكل عباده، وأن يكون متوفرًا بشكلٍ كبيرٍ جِـدًّا للكل، لكنّ هذا -والله هو الخبير بعباده والبصير بهم- كان سيترتب عليه: بغيهم الرهيب في الأرض، لحصلت مفاسد، وبغي، وظلم، ومفاسد رهيبة جِـدًّا، فمسألة أن تبقى هناك ظروف معينة، سقف معين، للكل، حتى الأغنياء، حتى الأثرياء، حتى للمتمكّنين، حتى للدول الغنية، في نهاية المطاف تصل عند سقف معين من الإمْكَانات، يفرض عليها، في واقعها، في سياساتها، في مواقفها، مستوى معين لا تقدر أن تتجاوزه، لا تمتلك الإمْكَانية لذلك، والبعض أَيْـضاً يُضرَبون فيما بعد؛ بسَببِ بغيهم؛ فيخسرون ما هم فيه من النعم، ويتحولون إلى واقع مختلف، والحديث عن هذه النقطة يمكن أن يطول، ونحن نريد أن ندخل في كثيرٍ من التفاصيل.
في إطار الظروف الحياتية للناس والمعيشية، وفي مسألة تقدير الرزق، هناك أَيْـضاً نظامٌ في الإسلام يخفف من حالة البؤس، ويمنح الفقراء رعاية ومساندة، من خلال الزكاة، من خلال الصدقات، من خلال وجوه البِر وسبل الخير، التي أمر الله بالإنفاق فيها، لإغاثتهم، والوقوف إلى جانبهم، وحمَّل الأغنياء مسؤوليات والتزامات مالية تجاه ذلك، هذا جانب.
الجانب الآخر: أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يعطي الأمل للناس، أنهم إذَا استقاموا، ورجعوا إليه، والتزموا بهديه وتعليماته، وصبروا، يغيِّر الكثير من أحوالهم، ويوسِّع لهم في ظروف حياتهم.
إضافة إلى أن الإنسان المؤمن الصابر يمنحه الله القناعة، ويسلم حالة الطمع، التي هي تؤثر على الإنسان، وتزيد من مستوى فقره وبؤسه، كلما كان طمعه أكثر، كلما صَعُبَ عليه التحمل، واتجه بِشَرَه وراء متطلبات الحياة، وباندفاع غير طبيعي، حالة الطمع حالة رهيبة جِـدًّا، ولهذا يقول الله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئك هُمُ الْـمُفْلِحُونَ}[التغابن: من الأية16].
إضافة إلى ذلك: أن المسؤوليات على الجميع هي -فيما يتعلق بالأمور المالية- بحسب إمْكَاناتهم وظروفهم، وما يستطيعون توفيره، ليس عليهم التزامات أكثر من ذلك، فهناك تخفيف عن الفقير، وتكون مسؤولياته حتى في النفقة على أسرته، في التزاماته الأُخرى، بحسب ظروفه وما يستطيع توفيره، ليس عليه مسؤوليات كحال غيره ممن هو ميسور، وممن وُسِّعَ له في رزقه.
ثم يرشد الإسلام إلى الاقتصاد في الواقع المعيشي، والحذر من الترف، والحذر من التبذير، الذين يطلبون الترف في هذه الحياة، والتوسّع في النعمة، والوصول إلى كُـلّ المشتهيات والملذات، ويصبح همهم في الحياة هو ذلك؛ يضيعون، يتورطون، يدخلون في المعاصي، ويُتعِبون أنفسهم، ويخسرون حتى من دينهم، من أخلاقهم، من إنسانيتهم، من كرامتهم، إلى غير ذلك.
ثم الإسلام يرشد إلى أن تكون اهتمامات الناس، ونظرتهم إلى الإمْكَانات المادية، من دافع المسؤولية، وبنظرةٍ ترتبط بالمسؤولية، مثلًا:
-
أن يسعى المسلمون كأمة إلى أن يعدوا ما يستطيعون من القوة؛ ليكونوا أُمَّـة قوية، تنهض بمسؤولياتها الإيمانية أمام الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: من الجهاد في سبيل الله، من الأمر بالمعروف، من النهي عن المنكر، من التصدي لأعدائها، وتحقيق استقلالها على أَسَاس من هُــوِيَّتها وانتمائها.
-
وأن يبنوا واقعهم الاقتصادي ليكون قويًّا بشكلٍ عام، وأن يحقّقوا الاكتفاء الذاتي؛ لكي لا يكونوا خاضعين لأعدائهم، ولا يكون قُوتُهم بيد أعدائهم.
ولهذا عندما يتجه الناس على هذا الأَسَاس، يصبح اهتمامهم بالأمور المعيشية، وأمور النهضة الاقتصادية، جزءًا من جهادهم وأعمالهم، التي يتقربون بها إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتتزكى أنفسهم عن الترف، عن البطر بالنعمة، عن التبذير، عن السلبيات التي تحصل عندما يكون الاتّجاه اتّجاه الهوى: الشهوات، الرغبات، الملذات، الترف، تتغير المسألة إلى حَــدٍّ كبير.
في مسألة الاختبار باليُسر وسعة الرزق من جهة، أَو تقدير الرزق، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {فَأَمَّا الْإنسان إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأكرمهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أكرمنِ (15) وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}[الفجر: 15-20].
يبيّن الله في هذه الآيات المباركة من سورة الفجر أنه يختبر الإنسان -والاختبار هذا تترتب عليه التزامات ومسؤوليات- بالنعمة، يعطيه النعمة، ويوسع له في النعمة، فالبعض من الناس لا يفهم المسألة بأنها مسألة اختبار، يتصور وكأن الله أحبه هو شخصيًّا، وأكرمه، وأعطاه لجدارة، لاستحقاق، وينسى مسألة الاختبار والمسؤوليات والالتزامات، التي عليه تجاه ما أنعم الله به عليه، كيف يشكر هذه النعمة، ويؤدي ما عليه من مسؤوليات تجاهها، فيغترّ، ويبطر، ويتجه فقط للتنعم بالمال، والانشغال به، والالتهاء بتنميته وتثميره، وتوفيره، والاتِّجار فيه، إلى غير ذلك.
{وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}، اختبره بتقدير الرزق، فينسى أن هذا اختبار، وكيف يتعامل مع هذا الاختبار: بالصبر، بالالتجَاء إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بالعفة عن الحرام، بالاقتصار على السعي الحلال، بالرجاء فيما عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بالأمل أَيْـضاً فيما أعد الله للصابرين من جزاءٍ عظيم في الجنة، إلى غير ذلك، بل يستاء، يتعقد، تتحول عقدة عنده، ظروفه الصعبة تؤثر على نفسيته، هذا حال الكثير من الناس، {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[الفجر: 16]، يتصور أن الله لا يحبه، وأن الله أهانه بذلك، وأن الله أكرم أُولئك، وأهانه في المقابل، ينسى مسألة الاختبار.
{كَلَّا}، تفنيد لهذه النظرة الخاطئة، والتصور الخاطئ، من الكثير ممن يُوسَّع لهم في أرزاقهم، ومن الكثير ممن يُقَدر لهم في أرزاقهم، المسألة ليست كما تتصورون، هي مسألة اختبار، وهناك في هذا الاختبار التزامات، التزامات على الغني تجاه الفقير، {بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا}، جمعًا بين الحلال والحرام، وبأي وجه، {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}[الفجر: 20]، المشكلة هنا: عندما يحب الإنسان المال زيادةً على الحب الفطري الطبيعي، في إطار النظرة إليه كحاجة ووسيلة للمعيشة، ويتحول الحب إلى حب كبير: {حُبًّا جَمًّا}، حبًا يطغى على كُـلّ شيء، فوق كُـلّ شيء، يجعل الإنسان:
-
يُقدِم على المحرمات.
-
ويُخِلّ بالالتزامات.
-
ويفرط في واجباته ومسؤولياته.
هذه الحالة خطيرة جِـدًّا.
واضح أن الاختبار بهذه الأمور حساس على الناس؛ ولذلك ركز القرآن على تصويب التوجّـه في إطار المسؤولية، وأن تبقى حسابات الإنسان أوسع من هذه الحياة، أنت إذَا كنت تنشدّ إلى ما في هذه الحياة، من احتياجات، ومتطلبات ورغبات، وشهوات، هذه الاحتياجات -بنفسها- سيتوفر لك منها بما هو أعظم منها، وأكثر منها، وأرقى منها، وللحياة الأبدية، للدائم في الجنة، وكانت طموحاتك: كيف تحصل على قصر، على مزرعة، على إمْكَانات ضخمة، كيف تعيش مستريحًا بدون متاعب، بدون صعوبات، هذا المجال مفتوحٌ أمامك: في الجنة، أكثر مما هو في الدنيا، في الدنيا حتى لو حصل الإنسان على نعمة معينة، أَو سعة، هناك المنغصات، هناك الاختبارات، هناك الالتزامات، هناك المخاوف، هناك المخاطر، هناك الظروف التي قد تؤثر على الإنسان… إلخ. فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ينبهنا كيف تتوجّـه إرادتنا إليه، وإلى الآخرة، فلو حصلنا على شيءٍ من الدنيا، نوظَّفه للوصول إلى تلك النعم العظيمة، الأبدية، الدائمة، ولا يبقى كُـلّ اهتمامنا وكل توجّـهنا نحو رغبات هذه الحياة.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُولئك الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النَّارُ}[هود: 15-16]، إذَا كان كُـلّ اهتمامك وتوجّـهك في هذه الحياة نحو هذه الدنيا، ومتطلباتها، وأموالها، وزينتها، وليس عندك أي اهتمام بأمر آخرتك، ولا التفات لمستقبلك في الآخرة، المستقبل المهم الأبدي؛ فأنت ستحصل من هذه الدنيا على ما يُكتب لك، ولكن ستخسر مستقبلك الأبدي، النعيم العظيم، إذَا كنت انشددت إلى هذه الدنيا؛ لأَنَّ فيها وفيها وفيها، من تلك الرغبات، والأهواء، والشهوات، ففي الآخرة ما هو أعظم، ما هو أرقى، ما هو أبقى، ما هو أدوم، بدون منغصات، فكيف تختار القليل الزائل، على حساب الكثير، الباقي، الراقي، الدائم، العظيم، حسابات خاطئة من البداية، عندما تتعامل على هذا الأَسَاس.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أراد الآخرة وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئك كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء: 18-20]، من كانت كُـلّ إرادته نحو هذه العاجلة، في هذه الدنيا: مُتَعِها، شهواتها، أموالها، وليس عنده أي اهتمام بأمر الآخرة، {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}، لكن يخسر مستقبله في الآخرة بشكلٍ نهائي، لن يكون له في الآخرة إلا النار، إلا العذاب الدائم، وهو من أول وهلة، من أول لحظة يدخل فيها نار جهنم، سينسى أي نعيمٍ قد تنعمه في الدنيا، أي شيءٍ قد حصل عليه في هذه الحياة.
لكن ذلك الذي إرادته الآخرة، وسعيه لها، حتى في اهتماماته في هذه الدنيا: اهتماماته المعيشية، اهتماماته العملية، اهتماماته الاقتصادية، ربطها بمسألة الآخرة، بأعمال الآخرة، بأمور الآخرة، هذا كيف؟ هذا هو وعد الله: {فَأُولئك كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}، ولن يبقى في هذه الحياة بدون رزق، بدون رعاية، فالله يقول: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ}: أصحاب العاجلة، ومن إرادتهم الآخرة، {كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء}، هذا في الدنيا، {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}.
يُقَدِّم الله العرض للإنسان بالرعاية والخير، يُقَدِّم لك العرض بخير الدنيا والآخرة، وترضى بما أعطاك في هذه الحياة، تقنع؛ لأَنَّك ترجو ما هو أعظم، ما هو أهم، ما هو أكبر، ولهذا يقول الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخرة وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء: الآية134]، ويعلمنا الله في الدعاء أن ندعو: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: من الآية 201].
إذا اتجهت اهتمامات الإنسان بكلها، إلى الدنيا، إلى رغباتها، إلى مالها، إلى زينتها، إلى الثروة فيها، إلى الترف فيها، على حساب الآخرة، نسي الآخرة، لم يعد يهمه أمر آخرته، فهنا مكمن الخطورة؛ لأَنَّه يؤثر دنياه على آخرته، يعني: يعصي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ مِن أجل الحصول على شيءٍ من الدنيا، يفرِّط في التزاماته الإيمانية والدينية؛ مِن أجل الحصول على شيءٍ من الدنيا، يرتكب المحرمات؛ مِن أجل الحصول على شيءٍ من الدنيا، يقول الله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخرة خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى: 16-17]، صفقة خاسرة، عندما يخسر الإنسان مستقبله في الآخرة، يقول: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْـمَأْوَى}[النازعات: 37-39]، والعياذ بالله، فالحالة خطيرةٌ جِـدًّا.
-
إذا اتجه الإنسان، كُـلّ اهتماماته ورغباته نحو هذه الدنيا، فهناك الكثير من المفاسد الخطيرة جِـدًّا، الخطيرة للغاية:
-
في مقدمتها: بيع الدين بالدنيا، والاشتراء بآيات الله ثمنا قليلًا:
هذه واحدة من مفاسد أن تتحول رغباتك، اهتماماتك، توجّـهاتك، نحو هذه الدنيا وما فيها، والترف فيها.
الكثير من الناس يقعون في هذا المحذور الخطير جِـدًّا، الخطير للغاية، محذور بيع الدين بالدنيا، والاشتراء بآيات الله ثمنًا قليلًا، ولذلك أشكال وصور متعددة، منها:
-
الوقوف في صف الباطل ضد الحق:
أن تؤيد الباطل؛ لأَنَّك ستُعطَى شيئاً من المال، أَو ستحصل على شيءٍ من المصالح المادية، أَو لتحافظ على مصالح مادية أنت تخاف عليها، فوقفت في صف الباطل، هذا هو من بيع الدين بالدنيا، أنت بعت دينك؛ مِن أجل الحصول، أَو المحافظة، على شيءٍ من الدنيا، وهذه خسارة رهيبة جِـدًّا.
-
من أشكال ذلك: الصد عن سبيل الله:
عندما تتحَرّك لتصد عن سبيل الله، سواءً بلسانك، أَو بأعمالك، أَو بقتالك، أَو بأي شكلٍ من الأشكال، كُـلّ أشكال الصد عن سبيل الله، مقابل أَيْـضاً مصالح مادية، هذا هو من بيع الدين بالدنيا، والاشتراء بآيات الله ثمنًا قليلًا.
-
تأييد للباطل: إعلاميًّا، أَو ثقافيًّا، أَو عسكريًّا، أَو بأي شكلٍ من الأشكال، بالدعاية، أَو بالموقف، أَو حتى بالمال، عندما تؤيد الباطل بالمال.
-
التزييف للحقائق، والافتراء على الله تعالى:
مثل ما يفعله علماء السوء، الذين يفترون على الله الكذب لدعم الباطل؛ مِن أجل مصالح مادية؛ مِن أجل أن يصبح له رصيد مالي، ومبالغ مالية يراكمها، ومصالح مادية، يحصل هذا عند علماء السوء، الذين يقفون في صف أعداء الله، يؤيدونهم على باطلهم، على ظلمهم، على جرائمهم، يشرعنون لهم ما يفعلونه من الموبقات والكوارث، يسهلون ذلك، يبرّرون جرائمهم، انحرافاتهم، باطلهم، ضلالهم، فسادهم، عدوانهم، ما فعلوه برّروه لهم، ويراكم مبالغ مالية.
في الفترة الأخيرة، في قصة السديس، عندما حصل عليه مشكلة فيما قد راكمه من أرصدة مالية، وأُخِذ عليه البعض، أَو صودر عليه البعض منها، واتضح كم في حسابه من مئات الملايين، أَو عشرات الملايين، في هذا السياق، علماء السوء الذين يبرّرون للأعداء وللظالمين، ويفترون على الله الكذب في مقابل ذلك.
-
من حالات بيع الدين بالدنيا، والاشتراء بآيات الله ثمنًا قليلًا: عندما يصبح الجانب المادي والمصالح الدنيوية هي السقف، في تعاملك مع دين الله، ومع أوامر الله، وتوجيهات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”:
فأنت تطيع الله، لكن بمقدار ما لا ترى أنت أنه يؤثر على مصالح مادية، وفي إطار أنه إذَا توفرت مصالح مادية فلا بأس، فأنت ستتجه، إذَا لم تتوفر، فأنت لن تتجه، فربطت توجّـهك (سواءً فيما تعمل، أَو فيما تترك) تحت هذا السقف، في إطار المصالح المادية، ولذلك ستترك من الدين ما ترى أنه يؤثر على مصالحك المادية، أَو يفوِّت عليك مصالح مادية معينة، أَو يشكِّل تهديدًا على مصالح مادية أصبحت هي الأصل عندك، والدين هو شيءٍ ثانوي، أوامر الله، توجيهات الله، هي شيءٍ ثانوي، سواءً في مسألة الحلال والحرام، أَو المواقف، أَو الأعمال، أَو الالتزامات، أَو غير ذلك.
هذا كله من أشكال بيع الدين بالدنيا.
والله حذر كَثيراً من هذا، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {أُولئك الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخرة فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}[البقرة: الآية86]، يقول “جَلَّ شَأنُهُ”: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قليلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ}[التوبة: من الآية 9]، من يصد عن سبيل الله، ويتحَرّك ضد هدى الله، ضد الحق؛ مِن أجل مصالح مادية، {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[التوبة: من الآية 9].
من يكتم الحق، ويؤيد الباطل، ويفتري على الله؛ مِن أجل مصالح مادية، يقول عنهم: {وَإِذْ أخذ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قليلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}[آل عمران: الآية187]، فهو يقول عنهم هكذا: أنهم اشتروا به ثمنًا قليلًا: مصالح مادية من هذه الدنيا، مكاسب مادية، لكن وراءها جهنم، ويخسر الجنة، يخسر نعيم الجنة بما فيه، ثم يكون مصيره للعذاب الأبدي والعياذ بالله، يقول عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قليلًا أُولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[البقرة : الآية174]، اتّجاه نحو الترف، نحو المصالح المادية، فيكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمنًا قليلًا، في مقابل كتمانهم للحق، وتأييدهم للباطل، يسعون للحصول على أموال وعلى ترف في هذه الحياة، فتكون النتيجة: {أُولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ}، أراد ترف، ونعمة، ووجبات دسمة، لكن في مقابل ماذا؟ كتمان حق، وتأييد باطل، والدعم للضلال، والدعم للباطل، والظلم، تكون العقوبة خطيرة جِـدًّا، {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
يحذِّر الله في القرآن الكريم من ذلك: كُـلّ أشكال المخالفة لدين الله، والسعي وراء ترف الدنيا، والتأييد للباطل، والصد عن سبيل الله، كُـلّ أشكال بيع الدين بالدنيا، والاشتراء بآيات الله ثمنًا قليلًا، يحذِّر من ذلك في القرآن الكريم: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}[البقرة: من الآية41]؛ لأَنَّه ثمنٌ قليل، لو كانت هي الدنيا بكلها؛ لأَنَّك خسرت رضوان الله، خسرت الجنة، الحياة السعيدة الأبدية، وخسرت إنسانيتك، وكرامتك، ودينك، وشرفك، وأصبح مصيرك هو العذاب الأبدي، نار جهنم والعياذ بالله.
هذا واحد من المفاسد: التوجّـه نحو الدنيا وملذاتها بشكلٍ كليٍّ، هو مفسدة بيع الدين بالدنيا.
-
من المفاسد أيضًا: جرائم القتل لأخذ شيء من الدنيا، أَو مقابل شيء من الدنيا:
عندما يدفع بك الطمع، الطمع في الحصول على المال بأي طريقة، فيدفع بك إلى أن تقتل ظلمًا، عدوانًا، سواءً لتأخذ على أحد شيئاً من المال بغير حق، أَو قتلت مقابل أن تُعطى مالًا، مثلما هو حال الكثير ممن يتجندون في صف العدوان، وفي صف الباطل، ومع الأعداء، في مختلف بقاع الدنيا، تحصل هذه على مر الزمان: أن يتجند البعض ليقتل مقابل المال، في موقفٍ هو ظلم، هو عدوان، هو باطل، جريمة رهيبة جِـدًّا، ومحذور رهيب، يقع فيه، وهو يريد أن يحصل على مقابل مالي، المهم عنده هو المال؛ دفع به الطمع إلى ذلك والعياذ بالله.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يقول في القرآن الكريم: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: الآية93]، فنرى وعيدًا شديدًا في القرآن الكريم لمن يرتكب مثل هذه الجريمة، فكيف عندما يتجه الإنسان لارتكاب مثل هذه الجرائم مقابل الحصول على أموال؟! أمر خطير جدًّا! أَو يطمع في مال أحد فيقتله؛ بهَدفِ الحصول على ماله، يقتله بهذا الهدف، جريمة رهيبة جدًّا! كم تحصل في الدنيا من هذه الحوادث، أن البعض؛ بسَببِ طمعه قد يقتل إنسانًا ويأخذ ماله بغير حق، ظلمًا وعدوانًا، فيجمع بين جرمين، عظيمين، فظيعين، كُـلّ منهما يُخلِّد صاحبه في النار:
-
قتل ظلمًا عدوانًا.
-
وأخذ المال الحرام.
-
من المفاسد للطمع في الدنيا: الظلم في الإرث، والظلم أَيْـضاً في أكل لأموال اليتامى: