نص المحاضرة الرمضانية السادسة والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1440هـ
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَلِكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عَبْدُه ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وباركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهم برضاكَ عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
وتقبل الله منّا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، اللهم اهدنا وتقبل منّا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
محاضرة اليوم ستكون على أساس الاستفادة من الآيات المباركة في سورة لقمان، وسنتحدث – إن شاء الله- على ضوء الآيات المباركة التي ذكر الله فيها بعضاً من وصايا لقمان الحكيم.
لقمان اشتهر بأنه من حكماء البشر، وفي القرآن الكريم سورةٌ باسمه، وردت فيها بعضٌ من توصياته وتوجيهاته لابنه، توجهات قيِّمة وحكيمة ومفيدة، ولقمان الحكيم اختلف المفسرون في أصله من أي أمةٍ هو؛ لأنه من الأمم القديمة، فالبعض قالوا: كان من بني إسرائيل، والبعض قالوا: كان حبشياً، والبعض قالوا: كان من أهل اليمن. من خلال البحث والتحري والتأكد من الأقوال هذه، أرجح ما نرجِّحه أنَّ أصله من اليمن، هذا هو القول الراجح الذي يستند إلى بعضٍ من الحقائق والأدلة والبراهين المطمئنة، وكان على شريعة نبي الله هود -عليه السلام-.
وبالمناسبة كنا تحدثنا بالأمس عن العنوان للدين الإلهي السماوي وأنه الإسلام، وأوردنا الكثير من الآيات المباركة التي تحدثت عن الأنبياء والرسل السابقين، وكيف كان العنوان الرئيسي البارز في حركتهم لتبليغ رسالة الله -سبحانه وتعالى- يبقى لنا أن نؤكِّد اليوم أيضاً أنَّ أصل الدين في عقيدته ومبادئه، وفي الروحية والأخلاق أيضاً واحد، وليس فقط العنوان، بل إضافةً إلى العنوان هناك أيضاً العقيدة، المبادئ، الروحية، الأخلاق… واحدة.
فيما يتعلَّق بالشرائع: الشريعة هي تواكب مسيرة الحياة في تفاصيلها العملية، بملاحظة متغيرات الحياة وظروفها المختلفة، ولذلك يأتي نتيجةً لاختلاف واقع الحياة وظروف الحياة أحكام متجددة تواكب مسيرة الحياة من هذه الشريعة، إلى هذه الشريعة، إلى تلك الشريعة، ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[المائدة: من الآية48]، بل حتى في داخل الشريعة الواحدة نجد مثلاً في الشريعة الإسلامية، في شريعة الله إلى عبده ورسوله محمد (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله) ما يواكب مسيرة الحياة في ظروفها المختلفة في كل التفاصيل المتعلِّقة بشتى المجالات، مثلاً: في الصلاة، هناك صلاة السفر، هناك صلاة المريض، هناك صلاة الأمن والحرب والظروف المخوفة، صلاة الخوف يعني، هناك حالات مختلفة فيما يتعلق بالصيام بين المسافر والمريض والمقيم…إلخ. فالشريعة في ارتباطها بالتفاصيل العملية هي تواكب مسيرة الحياة بملاحظة ظروفها وأحوالها المتغيرة، ومستجدات هذه الحياة.
فلقمان -عليه السلام- كان أصله من اليمن، وكان على شريعة نبي الله هود -عليه السلام- ربما بعد زمن نبي الله هود، الله أعلم بكم من الزمن، وفي هذا عظة لنا في اليمن، يا أهل اليمن الحكمة يمانية، علينا أن نحرص على أن نكون حكماء بما تعنيه الكلمة، فلقمان اشتهر في التاريخ بكله وبين مختلف الأمم بحكمته، سنتحدث عن هذه الحكمة.
الله -سبحانه وتعالى- قال في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ}[لقمان: من الآية12]، الله -جلَّ شأنه- آتى لقمان الحكمة؛ لأن الله هو أحكم الحاكمين، وهو مصدر الحكمة، الإنسان بدون الله -سبحانه وتعالى- بدون ما يمنّ الله به عليه من هداية، ومعرفة، وعلم صحيح، وتبصرة، هو لا شيء، هو جاهل، هو غافل، هو عاجز، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}[النحل: من الآية78]، الله -سبحانه وتعالى- زوَّد الإنسان أولاً بقابليات، مدارك، مَلَكَة معينة، مواهب معينة، حواس معينة: كالسمع والبصر مع الفؤاد، تساعده على استقبال الحكمة، واستقبال ما يساعده على الفهم الصحيح، على المعرفة الصحيحة، على الرشد الفكري، والزكاء النفسي، والاستقامة في السلوك والعمل، والسداد في القول، والإنسان بحاجة إلى هذا، بحاجة إلى هذا.
الحكمة، ما هي الحكمة؟ تأتي تعريفات متعددة: أنَّ الحكمة هي: وضع الشيء في موضعه، هي: إصابة الصواب في الفكرة، وفي العمل، وفي السلوك، وفي القول… تعاريف متعددة.
الله -سبحانه وتعالى- آتى لقمان الحكمة، فكانت فكرةً بالنسبة له، وكانت منهج حياة، وكانت استقامةً عمليةً وسلوكيةً، وكانت كلاماً صحيحاً وصواباً، وكانت رأياً حكيماً ومصيباً، هذه هي الحكمة التي آتاها الله لقمان، فكان إيتاؤه الحكمة هدايةً اكتسب منها الرشد الفكري، واكتسب منها الاستقامة السلوكية والعملية، واكتسب منها السداد في القول، والرشد في الرأي، والإصابة في التفكير، هذه هي الحكمة، الحكمة ليست فقط مجرد مقالة وكلام يهذرفه الإنسان وانتهى الأمر. لا، هي تتصل بواقع الحياة من خلال الرؤية الصحيحة، والفكرة الصحيحة، والسلوك الصحيح، والله -سبحانه وتعالى- هو مصدر الحكمة؛ لأنه هو الحكيم، وأحكم الحاكمين، كل أعماله، وكل تشريعاته، وكل توجيهاته، وكل تدبيره سليمٌ من العشوائية، سليمٌ من التصرفات الخاطئة، سليمٌ من الأفكار أو من التصرفات أو التشريعات أو التدابير العشوائية… سليمٌ من ذلك كله.
في واقعنا نحن البشر الإنسان قد يتصرف في هذه الحياة أو ينطلق في كثيرٍ من المواقف أو الأعمال أو التصرفات على أساسٍ من غرائزه، يعني: بدافعٍ من غرائزه ومشاعره وانفعالاته وشهواته، وهذه منطلقات خاطئة، عندما يكون ما يحكم الإنسان، ويؤثر عليه، ويعتمد عليه في الموقف، في العمل، في التصرف هو الغريزة، أو الشهوة، أو الانفعال، أو الغضب، فهو إنسانٌ غير رشيد، وغير حكيم، هو إنسانٌ حيوانيٌ يتحرك كبقية الحيوانات التي تتحرك بالانفعال الغريزي، هو كسائر الحيوانات، هو يحطّ نفسه من المكانة الإنسانية، الإنسان زوَّده الله -سبحانه وتعالى- بَمَلَكَات وقُدرات وإمكانات ومدارك تساعده على التصرّف الصحيح المنضبط المسؤول، وحمَّله مسؤولية كبيرة، حاله يختلف عن سائر الحيوانات، فإذا أصبح كالحيوانات يتحرك بناءً على مجرد شهواته أو انفعالاته وغضبه، وهذا هو حال الكثير من الناس، إذا غضب؛ قال أي شيء، أو تصرَّف أي تصرف، إذا انفعل؛ فلن يتردد في إطلاق أي كلام مهما كان ذلك الكلام سيئاً، أو ظالماً، أو خاطئاً، همُّه أن يُرضي غضبه، إذا انفعل؛ سيقول أي شيء، ويتصرف أي تصرف، بل ويتخذ أي قرار، وتكون الكارثة عندما يكون الإنسان في موقع مسؤولية مهمة، له نفوذ، أو له تأثير، أو له دور في هذه الحياة، فيبني على ذلك تصرفات خاطئة، تكون الطامة أكبر، وإلَّا فالحالة خطيرة على الإنسان ولو كان في مستوى واقعه الشخصي، على مستوى واقعه الأسري مثلاً، أو واقعه الشخصي، مشكلة كبيرة، الإنسان يتسبب بتصرفاته الخاطئة، بأقواله الخاطئة، بتصرفاته العشوائية لنفسه بكثيرٍ من المشاكل التي لا ضرورة لها، يهدر الكثير من إمكاناته، ويعاني الكثير في غير محلّه، معاناة في غير محالها، جهود في غير محلها، مشاكل في غير محلها، بل الكثير منها مع الوزر، مع الإثم، مع التبعات الكثيرة، فنحن بحاجة إلى الحكمة، بحاجة إلى الرشد الفكري، البعض من الناس قد يكون مدركاً لخطأ أن يتصرف بناءً على انفعالاته وغضبه، أو يقول بناءً على ذلك، أو يتخذ مواقف فقط من هذا المنطلق وبالتأثر بهذه الحالة النفسية، أو مثلاً بسبب ميوله، أطماعه، أو رغباته وشهواته، البعض قد يدرك خطأ أن يفعل شيئاً بهذا الدافع فقط، أو بالاندفاع من خلال ذلك فحسب.
وقد يحاول أن يتحرك بناءً على أفكار، المشكلة الأخرى عندما تكون هذه الأفكار التي يعتمد عليها أفكاراً غير صحيحة، وأتت من مصادر قدَّمتها، ونمَّقتها، وزخرفتها، وزينتها؛ حتى تبدو أفكاراً جميلة، وأفكاراً صحيحة، وأفكاراً سليمة، من خلال أنها ألبستها عناوين جذَّابة، والعنوان قد يكون في أصله عنواناً إيجابياً مقنعاً، مثلاً: عنوان الحرية، الغرب يستخدم عنوان الحرية ويقدِّمه إلى شعوبنا ليشجَّع على الانفلات من الضوابط الشرعية والأخلاقية، ليزخرف الجريمة والفساد تحت عنوان الحريات الشخصية، والمطلوب من الناس – من جانب الغرب، من جانب اليهود والنصارى بهذا العنوان- أن يرتكبوا الفواحش والجرائم الأخلاقية، وأن يقوِّضوا البنيان الأسري تحت عنوان الحرية، هذه ليست حكمة، مثلاً: قد يُقَدَّم للناس عناوين حتى بلباس العناوين الإيمانية والدينية، عنوان الحق، أو حتى أحياناً عنوان الإيمان، مثلما يفعل التكفيريون ويزخرفون ويزينون ذلك، والمطلوب من هذا هو أن يتجنَّد الإنسان تحت العنوان الديني لخدمة المؤامرات الأمريكية في ضرب الأمة من الداخل، وتفريقها بالتكفير.
كثير من الأفكار التي قد تُقدَّم في شتى مجالات الحياة، وهي أفكار غير صحيحة بالأساس، بالأساس، إذا اعتمد عليها الإنسان وانخدع بها؛ فهي أفكار لا تصيب الحق، وليست مطابقةً للشرع، وليست مضبوطةً لا بالمعيار الأخلاقي، ولا بالمعيار الإنساني والفطري، ولا بالمعيار الشرعي والديني؛ لأن الحكمة مضبوطة تضبط تصرفات الإنسان، وتضبط فكرته بمجموعةٍ من المعايير: معيار الشرع، معيار الأخلاق، معيار أن يكون الشيء متوازناً، معيار التوازن والتطابق في كل شيءٍ مع ما يناسبه، ومع ما يوافقه، ومع ما يعبِّر عن حقيقته بحسب اختلاف الأمور.
على كلٍ نحن كأمةٍ مسلمة الله يريد لنا أن نكون حكماء في تفكيرنا: فنمتلك الرشد الفكري، وفي أقوالنا: فتكون أقوالنا سديدة وصائبة، سليمة من اللغو والفُحش والكلام الباطل، وفي تصرفاتنا: أن تكون التصرفات والسلوكيات بشكلٍ عام متوازنة وسليمة ومضبوطة بمعيار الشرع والأخلاق، وفي مواقفنا، ولذلك أنعم علينا بالقرآن الكريم، القرآن هو كتاب حكمة، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}[لقمان: الآية2]، {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}[يس:1-2]، القرآن الكريم هو حكيمٌ أيضاً، هو قرآنٌ حكيمٌ أحكِمَتْ آياته، إذا عدنا إلى هذا الكتاب المبارك، وإلى الاقتداء برسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- والاهتداء به؛ فسنكون أحكم البشرية بكلها، وأحكم الخلائق على هذه الأرض، أحكم من الجن، وأحكم من بقية الإنس، إذا لم نهتد بهذا الكتاب المبارك، إذا لم نحاول أن نتثقف بثقافته، إذا لم نستفد منه في تحديد المواقف، وفي الالتزامات العملية والسلوكية؛ فسنكون أغبى الخلق، سنكون أغبى الخلق؛ لأننا سنُخذل، ونفقد حتى فهمنا الفطري؛ وبالتالي نتأثر بما يأتينا من أعدائنا، وما يأتينا من أعدائنا هو في سياق تآمرهم علينا، وسعيهم للتأثير علينا سلباً بما يخدهم وما يحقق مصالحهم.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ}، فالله هو مصدر الحكمة، وهو القائل -جلَّ شأنه-: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[البقرة: الآية269]، لو أنك تقدَّم إليك عروضاً معينة، مثلاً: هل ترغب بأن تُعطَى المليارات من الأموال أو أن تعطى الحكمة؟ لكان الخير لك في أن تؤتى الحكمة، الحكمة أغلى من كل الماديات، أغلى من كل الإمكانات الأخرى، الأمة مهما امتلكت إذا فقدت الحكمة لا تستفيد مما امتلكته من إمكانات مادية.
لاحظوا واقع العرب، لاحظوا واقع النظام السعودي الذي يتباهى ترامب المعتوه بأنه أخرج منهم باتصال واحد خمسمائة مليار دولار، هؤلاء فقدوا الحكمة، فقدوا الرشد في تفكيرهم، في تصرفاتهم، في قراراتهم، في مواقفهم… فلم يستفيدوا من إمكاناتهم المادية الهائلة، واستغلهم أعداء الأمة أسوأ استغلال، الإنسان بحاجة إلى الحكمة ليضبط بها تصرفاته، ولتكون له فكرةً، وسلوكاً، ومواقف، وقولاً سديداً، وتحركاً مصيباً، بعيداً عن العشوائية من جانب، بعيداً عن التصرفات المندفعة بدافع الشهوات، والغرائز، والرغبات، والأطماع، أو الانفعالات والغضب، وبعيداً عن الأفكار الخاطئة.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}، رأس الحكمة هو الشكر لله، فلأن لقمان أوتي الحكمة وهداه الله فكان حكيماً، كان أكبر عنوان ضبطَ مسيرة حياته؛ وبالتالي تأثر به على مستوى التفكير، وعلى مستوى العمل، وعلى مستوى السلوك، كان هو عنوان الشكر لله، وعنوان الشكر هو أهم وأوسع وأكبر عنوان قدَّمه الله إلينا لنضبط على أساسه مسيرة حياتنا كبشر في علاقتنا بالله -سبحانه وتعالى- الله يقول عن الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان: الآية3]، الشكر لله -سبحانه وتعالى- هو العنوان المهم الذي نبني عليه علاقتنا بالله -سبحانه وتعالى- بشكلٍ صحيح، الإنسان يدين لله بكل النعم التي أنعم بها عليه، ولا نعمة إلا من الله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النحل: من الآية53]، الإنسان في وجوده، وفي حياته، وفي كل ما يتقلّب فيه في هذه الحياة على هذه الأرض، حتى في الهواء الذي يستنشقه، في الأوكسجين، في كل تنفس يتنفسه هو مدينٌ بالنعمة من الله عليه، وبالشكر لله -سبحانه وتعالى- الله هو الذي وهبك الوجود، وهبك الحياة، ومنذ خلقك وأنت تتقلب في نعمائه تتحرك في هذه الحياة بين نعمه، تحيط بك نعمه، تعيش بنعمه، يرعاك ويغذيك بنعمه، ونعمه لا تحصى ولا تعد {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[النحل: من الآية 18]، فعندما ندرك أننا في هذه الحياة بنعمة الله، وأنَّ كل واقع هذا العالم سُخِّر لنا، وصُمم بما يناسبنا في هذه الحياة، بما في ذلك هذه الأرض التي نعيش عليها، ثم نعمة الهداية، نعمة التكريم لنا كبشر، التكريم للإنسان: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء: من الآية70]، وما ميزنا به في هذه الحياة، وما أكرمنا به في هذه الحياة زيادةً على كثيرٍ من مخلوقاته، نجد نعمة الله علينا عظيمة وسابغة، ولذلك إذا فقد الإنسان هذا الإدراك، وهذا الوعي، وهذا الشعور، ولم يلتفت هذه الالتفاتة في حياته ويرتبط في علاقته بالله من خلالها، فلا يمكن أن يكون مصيباً ولا راشداً ولا حكيماً، هذا أولاً هو رأس الحكمة، ومن ثم ندرك أنَّ علاقتنا بالله هي علاقة العبد بربه ومالكه المنعم عليه، ولي كل نعمة، نبني على أساسها علاقتنا بالله، بالمحبة لله -سبحانه وتعالى- بالتعظيم لله -سبحانه وتعالى- بالرغبة إلى الله -سبحانه وتعالى- بالإقبال بالشوق إلى الله -سبحانه وتعالى- فيما يهدينا إليه، وفيما يدعونا إليه، وبإدراك أن كل ما يأتينا منه -سبحانه وتعالى- في هديه، في توجيهاته، في تعليماته، هو من نعمته أيضاً، من نعمته علينا؛ لأن نعمه المعنوية والمادية ونعمته فيما يهدينا إليه، وفيما يأمرنا به، وفيما يوجهنا إليه، وفيما يترتب على ذلك من نتائج عظيمة هي نعمٌ، كلها نعم من منطلق رحمته، وفضله، وكرمه، وبِرِّه، وإحسانه الواسع، وفضله العظيم، إذا استوعب الإنسان هذا الأساس وبنى عليه حياته، استقام وارتبط في علاقته الإيمانية بالله -سبحانه وتعالى- بمشاعر المحبة، والخير، والرغبة، والانسجام مع تعليمات الله -سبحانه وتعالى- لا يتخذ المواقف السلبية، يدرك أنَّ الله رحيمٌ به، وكريمٌ أحاطه بكرمه وفضله، ومن أسوأ ما في واقع الإنسان أنه يتنكر كثيراً لله ولنعمه ولفضله.
إنَّ نعمةً واحدة من نعم الله -سبحانه وتعالى- لو كانت من غيره لربما بقيتَ طول عمرك وحياتك ممتناً له، مثلاً: لو خُلِقْتَ أعمى ونشأت لا ترى شيئاً، لا تعرف حتى أمك، وحتى أباك، وحتى إخوتك، وحتى محيطك، ولا ترى شيئاً في واقع هذه الحياة، وتسمع الناس يتحدثون عمَّا يشاهدون، عن مختلف الأشياء في هذه الحياة، وأنت لا ترى شيئاً منها، ولا تدرك ولا تبصر شيئاً منها، ونشأتَ مثلاً إلى مرحلة معينة من عمرك وأنت تعيش هذا الواقع لا ترى شيئاً أبداً، تسمع الناس يتحدثون عن مختلف الأشياء، لكنك لا تراها، ولا تعرف كيفيتها ولا أشكالها، ثم أتى إليك شخصٌ ما ورزقك هو بقدرته الذاتية ومما يمتلكه هو، وهذا ليس موجوداً عند أحد، ليس موجوداً عند أحد، لكن على سبيل الافتراض، أنعم عليك مثلاً بنعمة البصر، وأوجد لك البصر، فرأيت هذه الدنيا، رأيت هذه الحياة، رأيت واقعك ومحيطك، عرفت الكل من حولك، أصبحت ترى الأشياء، لبقيت ممتناً له بقيِّة عمرك أنه بنعمته عليك، وبهبته لك أصبحت ترى الأشياء، كنت تعاني، لا تعرف الأشياء ولا تعرف كيفيتها، تواجه صعوبةً في تحركاتك في هذه الحياة وأشياء كثيرة لا تستطيع أن تعملها.
لكن الله -سبحانه وتعالى- الذي رزقك بهذه النعمة وأنعم بها عليك منذ البداية، ثم أنت قد لا تُقدِّر هذه النعمة، قد تتنبّه لها في الحالة التي تفقدها، لو فقدتها حينها ستتنبه إلى أن شيئاً عظيماً، نعمةً كبيرة كانت بحوزتك بفضلٍ من الله عليك، ثم فقدتها، أدركت ماذا يعنيه فقدان هذه النعمة.
نعمة الصحة، الكثير من الناس لا يدرك هذه النعمة، إلَّا إذا فقدها، أصبح مريضاً بمرضٍ عُضال أو مرضٍ مزمن، أو يعاني من الآلام الشديدة؛ حينها يدرك نعمة الصحة التي كان غافلاً عنها.
كم من النعم التي أنعم الله بها عليك، ولو أتتك من غيره لبقيت ممتناً له، ومحباً له، ومرتاحاً له طول حياتك.
نكتفي بهذا المقدار من الحديث عن هذه القصة، إن شاء الله إذا أُتيحت لنا الفرصة أكثر نكمل المشوار…
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لما يُرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛