نص المحاضرة الرمضانية السادسة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 16رمضان 1442هـ 28-04-2021
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أيُّها الإخوة والأخوات: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛
بمناسبة قدوم الذكرى التاريخية لغزوة بدرٍ الكبرى، كان من المهم أن تكون هذه المحاضرة متعلِّقةً بهذا الموضوع الذي له الأهمية الكبيرة جداً، فغزوة بدرٍ الكبرى لها أهميتها الكبرى في تاريخ الأمة:
من حيث ما نتج عنها من متغيرات، وما صنعته من تحولات امتدت وتمتد إلى قيام الساعة.
ومن حيث القائد الذي كان يقود هذه المعركة، وهو النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، بكل ما يمثله ذلك من موقع القدوة والأسوة، ويأتي الحديث عن هذه النقطة- إن شاء الله- على نحوٍ تفصيلي.
ومن حيث الدروس والعبر التي نحن كمسلمين في أمسِّ الحاجة إليها في هذا العصر، وما نواجهه فيه من تحدياتٍ وأخطار، دورس وعبر تصحح لنا الكثير من المفاهيم، ونستفيد منها فيما نحتاج إليه من فهمٍ صحيح، ووعيٍ صحيح، ورؤيةٍ صحيحة لمواجهة التحديات والأخطار.
وقبل أن ندخل في هذه التفاصيل، والحديث عن هذه النقاط في حيثيات أهمية هذه الغزوة، نتحدث أولاً على ضوء موجزٍ عن هذه الواقعة:
رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” ما بعد هجرته من مكة إلى المدينة، حظي في المدينة بنصرة الأنصار، بمجتمعٍ حاضنٍ للرسالة الإلهية، ومؤمنٍ بها، واستقر هناك؛ ليؤسس ويبني الأمة الإسلامية، بدءً من تلك النواة في الأوس والخزرج، والمهاجرين والأنصار.
وقريشٌ ما بعد هجرة النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” من مكة إلى المدينة، لم تكف عن عدائها للإسلام وللرسول والرسالة، بل استمرت في مشوارها العدائي وبأشكال متعددة، فهي بدأت تنسِّق مع الكثير من القبائل العربية، بما فيها القبائل القريبة من المدينة، على أساس الترتيب لحصارٍ خانقٍ على المستوى الاقتصادي للمسلمين، والمقاطعة للمسلمين، ومنعهم من الحركة التجارية، ومن الذهاب إلى الأسواق في تلك المناطق والقبائل، وبدأت تعدُّ العدَّة من أجل أن تقوم بعمليةٍ عسكريةٍ إلى المدينة نفسها؛ لاستئصال النبي والمسلمين، والقضاء على الدين الإسلامي، وعملت على هذا الأساس، تحالفت مع بعضٍ من القبائل العربية، اتفقت معهم على الحصار للمسلمين اقتصادياً، وبدأت تعدُّ العدَّة من أجل تلك العملية العسكرية، وكانت تحتاج إلى التمويل المالي اللازم لتلك العملية التي تريدها أن تكون عمليةً حاسمة، فأعدت قافلةً تجاريةً إلى الشام، الهدف من هذه القافلة: أن تحصل من خلالها على التمويل اللازم الكافي لعملية كبيرة، عملية تتمكن من خلالها من تحقيق هدفها في استئصال المسلمين، وكان يقود هذه القافلة التجارية أبو سفيان زعيم المشركين بنفسه، وهذا يدلل على أهمية هذه القافلة، وهم يقولون أنها كانت قافلة تجارية كبيرة جداً، لربما أكبر قافلة تجارية، عندما كان الهدف منها هدفاً عسكرياً، من أجل التمويل العسكري.
النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” في المدينة المنوَّرة أتاه الأمر من الله “سبحانه وتعالى” بالتحرك لمواجهة هذا التهديد، وهذا الخطر، فتحرك رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” من المدينة بمن استجاب له من المهاجرين والأنصار، وكان أول تحركٍ عسكريٍّ رئيسي، ما قبله كان هناك سرايا صغيرة تتحرك، وسرايا استطلاعية في أغلب الأحوال، تستطلع المعلومات، وتستطلع للاكتشافات الجغرافية والعسكرية، وتجمع المعلومات عن تحركات الأعداء، لكن ذلك سيكون أول تحركٍ عسكريٍ رئيسي يتحرك به المسلمون، وبتوجيهٍ من الله “سبحانه وتعالى” بعد نزول الإذن من الله “سبحانه وتعالى” في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج: الآية39].
السابقة العدائية لقريش في محاربة الرسول والإسلام معروفة، وعندما كان النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” في مكة، حاربوا الإسلام بكل الوسائل، على مستوى الدعاية، والإعلام، والحصار الاقتصادي، والتعذيب حتى القتل، البعض من المسلمون عذِّبوا حتى قتلوا تحت التعذيب، وبعد هجرة النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” ومن معه من المسلمين، صودرت منازلهم في مكة، ونهبت ممتلكاتهم، وهم أخرجوا، هم أخرجوا، هجرتهم هجرة اضطرارية، {أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}[الحج: من الآية40]، فالعداء واضح، ومظلومية المسلمين واضحة، والحالة القائمة هي حالة صراع، وانضم إلى ذلك أيضاً هذا التهديد بالترتيب لعملية عسكرية شاملة لاستئصال المسلمين، فأمام هذا التهديد، أمام هذا الخطر، كان التوجيه من الله “سبحانه وتعالى”، والأمر من الله “جلَّ شأنه” لنبيه “صلوات الله عليه وعلى آله” وللمسلمين أن يتحركوا عسكرياً لمواجهة هذا التهديد، وفعلاً تحرك النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وكان من استجاب له ما يزيد على الثلاثمائة قليلاً، في بعض الإحصائيات يقولون: (ثلاثمائة وثلاثة عشر مجاهداً تحركوا معه)، ولأن المسألة في بداياتها مسألة صعبة، ومحفوفة بهذا الجو من التهديدات، وهو أول تحرك، فقد تقاعس الكثير عن التحرك، وتخاذل الكثير عن التحرك، وكان الجو نفسه في المدينة مشحوناً بالتثبيط، والتخذيل، والإرجاف، والتهويل، وقدَّم القرآن الكريم صورةً عن هذا الموقف، وعن هذه الظروف في قول الله “سبحانه وتعالى”: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: الآية49]، فالمنافقون نشطوا بنشاط دعائي للتخذيل وللتثبيط في داخل المدينة، وأرجفوا على الناس، وأنَّ هذا التحرك هو تحرك خطير، وأنه بالتأكيد له تبعات خطيرة، وسينتج عنه مشكلة كبيرة، وأن المسلمين لا يمتلكون القوة الكافية من حيث العدد، ومن حيث العدُّة لمواجهة هذا الخطر، والنتيجة الحتمية هي الهزيمة والنهاية.
وعندما لم يقبل النبي ومن تحرك معه من المسلمين هذا الإرجاف، ولم يتأثروا بهذا التهويل، ولم يقعدوا بسببه عن التحرك والاستجابة لله “سبحانه وتعالى”، قالوا عنهم هذا التعبير: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، فهم يعتبرونهم من اغتروا بالوعود الإلهية، وصدَّقوا بها، وهي وعود بالنسبة للمنافقين والذين في قلوبهم مرض خيالية، لا يمكن أن تكون صحيحة، فلا يمكن لتلك القلة القليلة من المؤمنين المجاهدين، بإمكانياتهم البسيطة المتواضعة، من حيث الإمكانات المادية أن يحرزوا النصر.
{غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، ولم يحسب هؤلاء حساب التوكل على الله “سبحانه وتعالى”، الثقة بالله، التصديق بوعده “جلَّ شأنه”، إيكال الأمور إليه، والرضا بما كتب “جلَّ شأنه”، مع الثقة بصدق وعده، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}، هو “جلَّ شأنه” يعز أولياءه، وينصرهم، ويؤيدهم؛ لأنه العزيز، {حَكِيمٌ}، وتوجيهاته هي توجيهاتٌ حكيمة، ما يأمر به هو الموقف الحكيم، هو التصرف الحكيم، هو التوجه الحكيم، هو التصرف الحكيم عندما يتصرف الناس على أساسه.
إضافةً إلى ما كان لدى بعض المؤمنين في صفوف جيش النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” من القلق البالغ، إلى درجة الاعتراض، ومحاولة إثناء النبي عن التحرك والخروج، كما بيَّنته الآية القرآنية: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال: 5-6]، فالبعض من المؤمنين كانت هذه التجربة الأولى بالنسبة لهم في إطار حركة الإسلام والجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، كانوا قلقين جداً، وكانوا خائفين إلى هذه الدرجة التي عبَّر عنها النص القرآني: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}، فهم في وضعية كانوا فاقدين فيها الأمل بالنصر، وكانت حالة اليأس من النصر بارزةً بالنسبة لهم، حتى كأنهم إنما كانوا يساقون إلى الموت، والإبادة الجماعية، وكأن المعركة ستكون نهايتها الحتمية هو القضاء عليهم.
ولكن النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” كان واثقاً بوعد الله؛ لأنه أتى وعد من الله “جلَّ شأنه”: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}[الأنفال: من الآية7]؛ لأن النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” عندما تحرَّك كان هناك أيضاً في المقابل تحرك عسكري، غير القافلة التجارية التي كانت قد عادت من الشام، وهي في طريقها إلى مكة، وكان أمل المسلمين أن يلتقوا بهذه القافلة، وأن يأسروا أبا سفيان، وأن يسيطروا على القافلة التي هي بهدف التمويل العسكري أصلاً، ولكن كان هناك أيضاً تحرك للجيش من مكة، خروج لقريش بشكل عسكري، بجيشٍ كبير، أكثر من عدد الجيش الإسلامي بعدد كبير، يعني: كان عدد الجيش الإسلامي ما يقارب الثلاثمائة والثلاثة عشر، أو أكثر من الثلاثمائة بعددٍ قليل، أما أولئك فكانوا ألف مقاتل، يمتلكون من العدُّة العسكرية ما لا يمتلكه المسلمون.
فتحرك الجيش من مكة لاستهداف المسلمين، وأتى الوعد من الله “سبحانه وتعالى” كما في الآية المباركة بإحدى الطائفتين: إما الظفر بأبي سفيان والقافلة، وإما الظفر بالجيش العسكري، الطائفة العسكرية التي خرجت من مكة، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}[الأنفال: من الآية7]، الرغبة السائدة في أوساط المسلمين: أن يسيطروا على القافلة، وأن يتفادوا الاحتكاك العسكري، والمشكلة العسكرية، ولكن كانت إرادة الله شيئاً آخر، غير هذه الرغبة لدى المسلمين، كانت إرادة الله بما فيه الخير للمسلمين، ولهذا قال “جلَّ شأنه”: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال: 7-8]، كان من الواضح والمؤكد أنَّ نتيجة الاحتكاك العسكري، والاشتباك العسكري، والاقتتال مع المشركين في هذه المعركة ستكون نتائجها أفضل للمسلمين، وستكون النتائج المترتبة عليها هي أكثر أهمية من مسألة الحصول على غنائم، أو بعضٍ من الأسرى، فالنتيجة من الاشتباك العسكري هي إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وقطع دابر الكافرين وهذه نتائج مهمة جداً.
إحقاق الحق؛ لأنه سيتحول إلى حالة قائمة فعلية في واقع الحياة، من واقع النصر والتمكين، ولن يبقى مجرد فكرة مثالية يقرأها الناس، ويتمنون أن لو تطبَّق في حياتهم، الحق في تشريع الله، في هداية الله، الحق في الموقف، الحق كمنهج للحياة، سيتحول إلى حقيقة، قائمة، ثابتة، راسخة، يطمئن الناس إلى أنها أصبحت قائمةً منتصرة، وهذا من أهم النتائج الكبرى لهذه المعركة: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.
فبالرغم من الظروف الصعبة في داخل المدينة، وجو الترهيب، والإرجاف، والتهويل من جانب المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وبالرغم من كره بعض المسلمين للخروج والتحرك في هذه المعركة، ومخاوفهم المبالغ فيها، إلَّا أنَّ النبي تحرك، ووصل إلى منطقة بدر، وادٍ على بُعد مائة وستين كيلو متر تقريباً من المدينة، بينها وبين مكة، وهناك وقعت المعركة، وكانت نتائجها كبيرة، وتحقق فيها انتصار كبير للمسلمين، بدأت تلك المعركة بالمبارزة، خرج ثلاثةٌ من المسلمين: حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث رضوان الله عليهم، في مقابل ثلاثة من المشركين، وكانت هذه الجولة لصالح المؤمنين، انتصر فيها أولئك المبارزون الذين خرجوا من جانب المسلمين، وبدأ الالتحام بين الفريقين، والتقى الجمعان، وكانت المعركة كبيرة.
شهدت المعركة كثيراً من مظاهر الرعاية الإلهية للمؤمنين، أتى المطر كما في سورة الأنفال، الغيث، ووفر المياه للمسلمين، وخفف من هواء جسمهم، واغتسلوا به، وانتعشوا منه، واستفادوا منه لتثبيت جغرافيا المعركة (أرضية المعركة)، وأيضاً أتت الملائكة لتقدم الدعم المعنوي للمؤمنين، والاطمئنان إليهم، ونزلت السكينة مع نزول الملائكة، فأتت مجموعة من العوامل والظروف التي ساعدت المسلمين على تحقيق النصر، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}[الأنفال: من الآية10].
من حيث العدد: كانوا قلة في مقابل عدد جيش المشركين، من حيث الإمكانيات: كانت إمكانياتهم متواضعة، ولم يكونوا- في بعض الروايات- يمتلكون إلَّا فرساً واحداً، وكانت السيوف عندهم محدودة، ليس لهم أي سلاح احتياطي، إذا انكسر سيف أحدهم لا يوجد البديل، بينما لم يكونوا مدرعين، لم يكونوا يقتنون الدروع، ويلبسون الدروع، في مقابل ما كان لدى أعدائهم من المشركين من العدة العسكرية، والدروع، والخيول، والعدة الكافية والكبيرة مقارنةً بما كان عليه حال المسلمين، وتلك الوضعية التي كانوا فيها مع مخاوفهم الشديدة، وقلة تجربة الكثير منهم في القتال ممن خرج مع النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، الكثير منهم كانت ستكون أول معركة يقاتل فيها، يأتي القرآن ليعبِّر لنا عن حالة المسلمين في تلك الظروف، في قول الله “سبحانه وتعالى”: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[آل عمران: الآية123]، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}، وضعية صعبة، ظروف صعبة، ومخاوف، ومع ذلك كانت هذه المعركة مصيرية، ظروفها صعبة، والإمكانيات محدودة من حيث العدد والعدة، ولكنها معركة مهمة، ومصيرية، وحاسمة، ولو تمكَّن المشركون من تحقيق أهدافهم، وقضوا على رسول الله وعلى المسلمين؛ فسيكون لهذا تأثير كبير جداً، وسلبي للغاية في مستقبل الرسالة الإسلامية، أو انهزم المسلمون فيها؛ لكان لذلك تأثير سلبي جداً في مستقبل الرسالة الإسلامية.
الناس كانوا ينظرون بشكلٍ عام في تلك المرحلة بريبة وقلق تجاه مستقبل الإسلام والمسلمين، وتجاه إمكانية أن ينتصر الإسلام، وأن يتمكَّن من قيام أمته؛ لأنهم كانوا يلحظون ضعف إمكانيات المسلمين، قلتهم، وكانوا يلحظون أيضاً مستوى الصعوبات من حيث الأعداء الكثيرون المتمكنون، دول، وكيانات، وجماعات، وقبائل، كلها كانت كافرة بهذا الدين، ومحاربة لهذا الدين، معارضة لهذا الدين، مباينة لهذا الدين، ويرون لديها القوة الكافية لمحاربة الإسلام وأهله.
ثم فيما يقابل ذلك من ضعف إمكانيات المسلمين، وقلة عددهم، وانتشارهم، وإمكانياتهم المحدودة جداً، فمن خلال ذلك كان أكثر الناس ينظر بريبة تجاه إمكانية احتمال أن ينتصر هذا الإسلام وأهله، ولكنَّ هذه الواقعة غيَّرت كل ذلك، ومثَّلت نقلةً كبيرةً جداً؛ لأن الانتصار فيها كان كبيراً، والضربة كانت موجعةً جداً للمشركين، وبقي وجعها مستمراً فيهم، حتى فيما تلاها من أحداث؛ لأنها لم تكن البداية والنهاية، كانت بداية المعركة والحرب بذلك الشكل: معارك كبيرة، ولكنها استمرت فيما بعدها، ولكن أثرها امتد لما بعدها، وكان واضحاً فيما بعد ذلك في كل المعارك التي خاضتها قريشٌ في محاربة المسلمين، كان يتجلى أثر تلك المعركة، وأنها قتلت الكثير من القيادات والأبطال الذين يعتمد عليهم العدو، وكان لها صداها في بقية الأعداء، وفي بقية الناس، في بقية المجتمع، حتى في داخل المدينة نفسها بالنسبة للمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، والمتربصين، والمترددين، والمتذبذبين، كان لها الأثر البالغ والمهم جداً، ولذلك سميت هذه الغزوة المهمة جداً في القرآن الكريم بيوم الفرقان، سمَّاها الله يوم الفرقان؛ لأنها مثَّلت مرحلةً فارقة، ما قبلها وما بعدها يختلف كلياً، المسلمون فيما بعدها أهل عزة، أهل شوكة، أهل قوة، أهل هيبة، أصبحت النظرة إليهم وإلى الإسلام بنظرة مختلفة إلى من المجتمعات، من أعدائهم، وهم حتى على المستوى النفسي شعروا بالعزة، والقوة، والاطمئنان تجاه مستقبلهم ومستقبل دينهم، وثقوا بالله أكثر، تعزز إيمانهم، ارتفعت معنوياتهم، وكان لهم آثار ونتائج مهمة جداً، وأحق الله بها الحق، وتحقق بها هذا الثبات لهذا الدين، والرسوخ لهذا الدين، حتى لمستقبله إلى قيام الساعة، فسميت بيوم الفرقان، فهي ذات أهمية كبيرة؛ لأن بركاتها امتدت إلينا إلى هذا الزمن، وتمتد إلى قيام الساعة؛ لأنه لو خسر المسلمون هذه المعركة؛ لكان لذلك آثار سلبية ممتدة وخطيرة جداً، لو استشهد النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” فيها؛ لكان ذلك وأداً للمشروع الإلهي من بدايته، للمشروع الإسلامي من أوله، ولكنَّ الله “سبحانه وتعالى” نصر المجاهدين فيها نصراً عظيماً، فكان لها هذه الأهمية من حيث ما نتج عنها وما ترتب عليها.
لها أهميتها من حيث أنَّ الذي يقود المسلمين في هذه المعركة هو النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، بكل ما يمثله ذلك من أهميةٍ لنا كمسلمين، نؤمن بأنه أسوتنا وقدوتنا، في مشروعية ما يعمل؛ باعتبار ما عمله له مشروعية دينية، انطلق فيه بأمرٍ من الله “سبحانه وتعالى”، وبناءً على مقتضيات أحكام هذا الدين الإسلامي ومبادئه وشريعته، فهو يشرع، أو الله “سبحانه وتعالى” شرَّع لنا، وفرض علينا حتى، أن نتحرك في مواجهة التهديدات علينا، وعلى ديننا، مبادئنا، قيمنا، أن نتحرك على هذا النحو، كما فعل نبينا، قدوتنا أسوتنا “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، لم تكن التوجيهات تجاه ذلك التهديد، وتجاه ذلك الخطر الذي يهدد المسلمين في عقر دارهم أن يجلسوا، وأن يقعدوا، وأن ينتظروا العدو حتى يتمكن إلى نهاية المطاف، أو أن يستسلموا، وتنتهي الأمور على هذا الأساس، لا، كان هناك أمر واضح للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله أن يتحرك على هذا النحو.
ولم تكن أيضاً الطريقة أن يتجه أمام هذا التهديد إلى المسجد، ويتجه معه المسلمون، ثم يعتكفون ليلاً ونهاراً بالدعاء الدائم، أن يدمر الله قريشاً ويستأصلها، وأن يعفيهم من أن يحتاجوا إلى قتالها، فيكفي الدعاء، ويكفي الابتهال، وتلاوة القرآن، توسلاً إلى الله أن يهلك العدو، وينتهي الأمر.
الدعاء مهم، وكان لا بدَّ منه، وهو دعا، والمسلمون دعوا، ولكنه دعاءٌ في إطار عمل، في إطار تحرك، في إطار جهاد، في إطار النهوض بالمسؤولية، وليس على أساس القعود والتنصل التام عن المسؤولية وعدم التحرك.
النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” وهو أرشد الناس وأكثرهم حكمةً، الراشد، الحكيم، الشخصية العظيمة جداً في رشده، فهمه، وعيه، وأيضاً يتحرك وفق تعليمات الله، وفق توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، التي هي حكيمة، ورحيمة، وعظيمة، وصائبة، لم يمكن أن يشكك الإنسان بصوابيتها، كان له هذا الموقف، هذا التحرك، حمل سيفه، لبس لامة حربة، انطلق وتحرك، لم تكن المسألة أن يقعد، أو أن يكتفي بالدعاء، وهذا يبين لنا حتمية الصراع مع الأعداء، حتمية الصراع مع الأعداء؛ لأن منهج الإسلام في أساسه: هو منهج تحررٍ من الطاغوت، ومن سيطرة الطاغوت، منهج تحررٍ تبني فيه الأمة مسيرة حياتها على أساس منهج الله “سبحانه وتعالى”، وهذا بشكلٍ فوري ينتج عنه مشكلة مباشرة مع الطاغوت، مع المجرمين، مع المتسلطين، مع الظالمين، مع المستكبرين؛ لأن المستكبرين، والأشرار، والطغاة، يعملون بشكلٍ دائم على السيطرة على الناس، والتحكم بهم، والهيمنة عليهم، والاستعباد لهم.
فعندما نتحرك بناءً على انتمائنا لهذا الدين الإسلامي، بهذا الشكل الصحيح، لنبني مسيرة حياتنا على أساس منهج الله “سبحانه وتعالى”، بتحررٍ من سيطرة الطاغوت، الطاغوت يواجه توجهنا هذا التحرري، هذا التوجه التحرري والاستقلالي، يواجهه بالشر، يواجهه بالعدوان، فالنتيجة الحتمية لهذا التوجه الذي هو تحرري؛ لأن الإسلام من أول ما فيه، ومن أعظم ما فيه، ومن أهم ما فيه: أنه يحررنا، يحررنا من الاستعباد للطاغوت المستكبر، للطغاة المجرمين، ونبني مسيرة حياتنا بعيداً عن تحكمهم، إملاءاتهم، شروطهم، ووفق منهج الله “سبحانه وتعالى” وتعليماته؛ لأنه ربنا “سبحانه وتعالى”، نؤمن به، نؤمن بهديه، نؤمن بدينه، ولذلك ينتج هذا الصراع، الصراع حتمي.
لو كان بالإمكان أن تكون الدعوة الإسلامية بشكلها الإرشادي، والتعليمي، والوعظي، كافيةً في تفادي الخطر، وفي أن يتمكن المسلمون من تحقيق هذا التحرر من سيطرة الطاغوت؛ لأمكن ذلك للنبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”؛ لأنه كان الأرشد، والأحكم، والأقدر إرشادياً، هو أعظم واعظٍ، وأعظم خطيبٍ، وأعظم مرشدٍ، وأعلم وأرشد إنسانٍ، وبالتالي هو فيما يمتلكه من الحكمة، فيما أهله الله به من مؤهلات عظيمة جداً، فيما هو عليه من خلقٍ عظيم، فيما كان يمتلكه من الجاذبية الكبيرة، والتأثير الكبير، وما منحه الله من البركات والتوفيق، لو كان يمكن أن يكتفي بالإرشاد والوعظ والحديث مع الناس، ولا يحتاج إلى تحرك مسلح، لكان هو الأولى بذلك، الأولى بذلك رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، هل يستطيع أحدٌ في هذا الزمن أو في غيره أن يقدم نفسه في حكمته، أو في أخلاقه، أو في منزلته العالية عند الله “سبحانه وتعالى”، بأنه أعظم شأناً من النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” في ذلك، أكثر حكمةً، أقدر على تحقيق النجاح بدون أي صراع، لا أحد يستطيع أن يدعي لنفسه ذلك من المسلمين أبداً.
فإذاً يتضح لنا في تحرك النبي حتمية الصراع، وإلا لكان هو الأولى أن يسْلَم أعباء الصراع، ومخاطره، كان يتعرض للخطر في هذا الصراع، كان مهدداً، كان هو أول شخص مستهدف في هذا الصراع، وكان يتحمل أعباء هذا الصراع، يقدم التضحيات، يتحرك، يبذل جهده، يقوم بدورٍ رئيسي في التصدي للأعداء وهو يحرك الأمة، وهو يوجهها، وهو يعمل ليلاً ونهاراً؛ من أجل التصدي لهذا الخطر.
فلنعي حتمية الصراع مع الأعداء؛ لأنهم أشرار، مجرمون، متسلطون، طغاة، لا يسكتوا عن توجهنا التحرري والمستقل على أساس منهج الله وتعليماته، هذا درسٌ مهمٌ جداً، ويصحح الكثير من المفاهيم لدى بعض الناس السذج والأغبياء والمغفلين، الذين لديهم فكرة أخرى.
ثم أيضاً من الدروس المهمة التي علينا أن ندركها: إيجابية الصراع:
صراع له جوانب إيجابية كبيرة جداً، ومهمة جداً، ولا ينبغي النظرة إليه نظرة سلبية تدفع إلى التنصل عن المسؤولية، والتهرب من التحرك الجاد في التصدي للأخطار، وفي إدارة هذا الصراع بشكلٍ صحيح:
الصراع هو أهم ميدان لتجلي القيم، وتجسيد المبادئ:
إيمانك، ثقتك بالله “سبحانه وتعالى”، أخلاقياتك العالية، تضحيتك، إيثارك، عطاؤك، بذلك، صدقك، وفاؤك، كل القيم المهمة أكبر ميدانٍ يجليها، تجسد فيه هذه القيم والمبادئ، هو ميدان الصراع، الإنسان إذا نزل إلى هذا الميدان بأخلاقيات الإسلام: وفاء، وشجاعة، وشهامة، ومروءة، وعطاء، وتضحية، وإيثار، ووفاء، وصدق، والتزام بالحق، وكل القيم العظيمة، أهم ميدانٍ لها هو ميدان الصراع، كل الأجواء الأخرى والميادين الأخرى لا ترقى إلى مستواه.
الوفاء، قد تكون وفياً في قضايا معينة بسيطة، لكن هل تكون وفياً أمام مخاطر كبيرة، قد يكون ثمن وفائك فيها أن تضحي بنفسك، أن تقدم مالك، أن تضطر للهجرة من منطقتك، هنا الكثير من الناس لا يرتقي وفاؤهم إلى هذا المستوى.
مصداقية الإنسان أن يثبت على موقفه الحق، حتى لو كان الثمن أن يضحي بنفسه، كثير من الناس لا يصمدون، لا يرتقون في مصداقيتهم إلى هذا المستوى، قد يكونون صادقين في أشياء بسيطة، وعادية، ومن الأمور الطبيعية، لكن أن يصدق في موقفه، في تضحيته، في ثباته، حتى لو كانت النتائج كيف ما كانت.
الإيثار، التضحية، الغيرة على المستضعفين، والتألم لألمهم، والإباء والعزة… كل هذه القيم تترجم على أرقى مستوى بشكلٍ عملي في ميدان الصراع.
الصراع أيضاً هو محك لمصداقيتك مع الله في انتمائك الإيماني:
هل تثق به؟ هل تثق بوعده؟ هل تثق بقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}[محمد: من الآية7]؟ هل تثق بقوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}[الحج: من الآية40]؟ هل تثق بقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: من الآية47]؟ مصداقيتك في تصديق هذه الثقة، في الإيمان بهذا الوعد الإلهي، عندما تتحرك على أساس ذلك؛ أما عندما لا تجرؤ على أن يكون لك الموقف الحق والتحرك الجاد، فهذا يدل على خلل في مدى ثقتك بالله “سبحانه وتعالى”.
ميدانٌ للفرز والاختبار:
فرز المجتمع المسلم، اختبار مهم جداً، قد يكون الكثير من الناس من أهل الخير، وما شاء الله عليهم، إذا الأمور والظروف عادية، وقد يتظاهرون بثباتهم على مبادئ هذا الدين وقيمه وأخلاقه، والتزامهم بتوجيهات الله “سبحانه وتعالى”، ولكن- كما قلنا- في ظل الظروف الاعتيادية والطبيعية، يقولون عندنا في المثل الشعبي: [يوم العيد كلاً جيد].
لكن أمام التحديات والمخاطر، يأتي هذا الفرز، ليتبين الثابتون، الصادقون، الأوفياء، مِن مَن ليسوا كذلك، ممن إيمانهم ضعيف، ووعيهم ضعيف، ممن ليسوا أصلاً يحافظون على الحد الأدنى من الانتماء الإيماني، من المنافقين والذين في قلوبهم مرض، ولهذا كان يركز القرآن الكريم على أن يجعل من مسألة الولاء والموقف، والتحرك في سبيل الله، والقتال في سبيل الله، علامةً مميزةً للمؤمن الصادق من غيره، وعملية فرزٍ للمجتمع المسلم؛ حتى يتبين الناس، وكان هذا هو المحك الذي يفرز ويبين ويغربل، هو الغربال الضخم، الذي يغربل المجتمع الإسلامي والساحة الإسلامية، هذه سنة من سنن الله “سبحانه وتعالى”، كما قال في القرآن الكريم: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران: من الآية179]، وكما قال “جلَّ شأنه”: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[التوبة: من الآية16]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا هكذا على ما أنتم عليه، بدون أن يتضح من سيجاهد، من سيكون وفياً في ولائه، لا يدخل في ولائه ولاءات أخرى، ميول أخرى، ارتباطات أخرى، بأعداء الله، بأعداء الإسلام، بأعداء المسلمين، لا بدَّ من هذا الفرز، يعني: أنه لا بدَّ من هذا الفرز، من هذا الاختبار، من هذا الغربال، ولا بدَّ منه في كل زمانٍ ومكان.
يأتي قول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}، يعني: نختبركم، الاختبار الذي يبين حقيقتكم، يجليكم، يفرزكم، يغربلكم، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد: الآية31]، فيأتي في إطار الصراع هذه الغربلة للمجتمع المسلم، يتبين المجاهدين، الصابرين، الصادقين، الأوفياء، الثابتين، ويتبين المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، ويتبين ضعاف الإيمان الذين لديهم رؤى أخرى واتجاهات أخرى.
من إيجابيات الصراع أنه عاملٌ مهمٌ في النهضة، وعاملٌ مهمٌ في البناء، ووسيلةٌ فعليةٌ لتحقيق التحرر في واقع المجتمع المسلم:
الصراع من متطلباته البناء، إعداد القوة، التوجه لامتلاك الإمكانات لكل عوامل القوة، الصراع يدفع نحو عوامل القوة، نحو اقتناء عوامل القوة، نحو توفير عوامل القوة؛ لأن من متطلبات الصراع: أن تكون قوياً، أن تسعى لتكون قوياً، وهذا ما يسعى له كل الكيانات، كل القوى البشرية، كل المجتمعات البشرية، كل الدول تسعى لتكون قوية، وتدرك حتمية الصراع، والترويج للضعف، وللجمود، وللقعود، والاستسلام، وللانصراف عن التحرك الجاد في إطار الصراع، والعزوف عن عوامل القوة، هذا يسوَّق ويروج حصرياً بين المسلمين فقط؛ أما الأمم الأخرى، والكيانات الأخرى، والدول الأخرى، فكلها تسعى لكي تمتلك بأقصى ما تستطيع القوة، ولتكون في موقع القوة بأقصى ما تقدر عليه وتستطيعه.
لو نأتي إلى زماننا اليوم، أكبر ميزانية عسكرية تسليحية هي لدى الأمريكيين، الإسرائيلي أيضاً يسعى بكل جهد لكي يكون قوياً، والمبدأ الذي يعمل عليه، ويحظى بالدعم الأمريكي على أساسه، والدعم الغربي على أساسه، أن يضمن التفوق العسكري في المنطقة، على مستوى العالم الإسلامي بكل، وهو كيانٌ غير شرعيٍ، فرضوه وزرعوه في أوساط أمتنا وبلادنا الإسلامية، وأرادوا منه أن يكون متفوقاً عسكرياً، وأن يسيطر عسكرياً، وأن يكون هو الذي يسود هذه المنطقة.
ولذلك يجب أن يكون لدينا الوعي الصحيح، الفهم الصحيح؛ لأن حركة التثبيط، والتخذيل، والإرجاف، والتهويل، والتشكيك، وإيهان العزائم، وتقديم الرؤى السقيمة، والأفكار غير الصحيحة؛ إنما يأتي في إطار واقعنا كأمة مسلمة وللأسف الشديد، بقية الدول لديها مشاريع وبرامج وأنشطة؛ لكي تكون قوية، وتتحرك في إطار الصراع بشكلٍ قوي.
فالله “سبحانه وتعالى” عندما أمرنا بالجهاد في سبيله، ليس ذلك ليصيبنا بالمصائب، ويحملنا المشاق والكوارث، هذه رحمةٌ منه بنا؛ لأن حتمية الصراع أمرٌ مفروغٌ منه، لا بدَّ من الصراع، فإذا كان لا بدَّ من الصراع في هذه الحياة، فكيف نتحرك بشكلٍ صحيح، نحظى فيه برعاية الله، ونصره، وتأييده، ووفق توجيهاته وتعليماته، بما يحول هذا الصراع إلى عاملٍ إيجابيٍ وبناء في واقعنا، وميدان لتجسيد المبادئ والقيم والأخلاق، وميدان فرز وغربلة، يبين الناس، وهذا مهم جداً؛ لأن تبيينهم أمر مهم جداً، حتى لهم هم، حتى لهم هم.
ولهذا يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}، لم يكن هناك كفاية- على ما يقولون- بالجهاد بالكلمة، كان لا بدَّ من القتال، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: الآية216]، فالله كتب القتال، الميول والطبيعة البشرية قد تكره القتال، نتيجةً لنظرة مغلوطة؛ أما عندما تتصحح النظرة قد يزول هذا الكره، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، هو خيرٌ لكم، يترتب عليه:
عزكم.
استقلالكم.
حريتكم.
كرامتكم.
تدفعون عن أنفسكم الشر الكبير، الذي سينتج إن تمكَّن عدوكم من السيطرة عليكم.
الشر الكبير هو عندما يسيطر العدو؛ أما ما تقدمه الأمة من تضحيات وهي تتصدى لعدوها، فهي تضحيات مثمرة، محسوبة، لها نتائجها، وقيمتها، وثمرتها، وآثارها الطيبة، وهي مكتوبةٌ عند الله “سبحانه وتعالى”.
يقول الله “جلَّ شأنه”: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، فمع الخير في الدنيا: العزة، الكرامة، الحرية، الاستقلال الحقيقي، تجسيد المبادئ والقيم، القوة التي تكتسب في إطار الصراع، هناك ثمن مستقبلي عظيم وأبدي ودائم هو الجنة، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: الآية111]، هذا مع النصر في الدنيا، الله قدم الوعود: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: من الآية7]، المهم هو أن تتحرك بشكلٍ صحيح وفق تعليمات الله وتوجيهاته، وأنت في إطار الحق، وأنت تمتلك القضية العادلة، وأنت تلتزم في أدائك العملي بالتعليمات والتوجيهات التي أمر الله بها “سبحانه وتعالى” في كتابه الكريم، هنا يأتيك من الله النصر، والمدد، والعون، والتهيئة، والتأييد، وتأتي التوفيقات والنجاحات الكبيرة.
أمتنا في هذا العصر في أمسِّ الحاجة إلى أن تستفيد الدروس والعبر من هذه الغزوة، وأن تعزز ثقتها بالله “سبحانه وتعالى”، وأن تدرك جيداً أنه لا بدَّ من التحرك الجاد للتصدي لكل المخاطر والتحديات التي تعاني منها، نحن أمة مستهدفة، أمةٌ مستهدفةٌ معتدً عليها يسعى أعداؤها إلى:
السيطرة التامة عليها.
واستعبادها.
وإذلالها.
وقهرها.
وظلمها.
واضطهادها.
والنتيجة لو تمكن هؤلاء الأعداء: أن تخسر الأمة دينها ودنياها.
فالذي يمكن أن يفيد هذه الأمة: هو التحرك وفق توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، مع الثقة بوعده.
نحن كشعبٍ يمني، شعوب المنطقة بشكلٍ عام، في أمسِّ الحاجة إلى الاستفادة من هذه الدروس، ومن هذه العبر، قدوتنا وأسوتنا هو رسول الله محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، الذي تحرك بالرغم من طبيعة الظروف السائدة، التي كان فيها الإرجاف والتهويل، وفيها المتثاقلون والكارهون للتحرك، ولكنه تحرك وانطلق، وكانت النتيجة هي النتيجة المعروفة.
التجربة التي هي قائمة في واقع أمتنا اليوم، تجربة فيها الدروس والعبرة: ثمرة صمود شعبنا في التصدي للعدوان، الانتصارات التي أحرزها المجاهدون الأبطال في لبنان، وفي فلسطين، وفي سوريا، وفي العراق، وفي أقطار كثيرة.
نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛