نص المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي الأحد 21 رمضان 1445هـ 31 مارس 2024م
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبِين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
نختتم في محاضرة اليوم قصة أبينا آدم “عَلَيْهِ السَّلَام” أبي البشر، وعلى ضوء الآيات المباركة: (من سورة الإسراء، ومن سورة طه، ومن سورة ص)، قد تقدم الحديث على ضوء الآيات المباركة: (من سورة البقرة، ومن سورة الأعراف، ومن سورة الحجر).
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” (في سورة الإسراء): {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}[الإسراء: الآية61]، تحدثنا على ضوء الآيات المباركة سابقاً عمَّا يعنيه هذا السجود، وأن الله أراد به أن يكون تكريماً لآدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، فذلك السجود كان تكريماً لآدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، وفي نفس الوقت عبادةً لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأنه تسليمٌ لأمره، وطاعةٌ له “جَلَّ شَأنُهُ”، والأمر لإبليس؛ لأنه كان في صفوف الملائكة يتعبد الله معهم، ويستقر بينهم، فكان مشمولاً بالأمر معهم، وكانت هذه مسألة واضحة حتى بالنسبة له أنه مأمورٌ بالسجود معهم.
وإبليس امتنع عن السجود، وحاول أن يبرر لنفسه ذلك، مع أنه ليس له أي مبررٍ في عصيان أمر الله تعالى، ولكنها عقدة الكبر كانت هي السبب وراء امتناعه للسجود: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}، كان هذا منه احتقاراً لآدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، وزعماً أنه أعلى شأناً، وأرفع قدراً ومكانةً من أن يسجد تكريماً لآدم.
{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}؛ لأنه عرف كما عرفت بقية الملائكة أن ذلك السجود يعني التكريم لآدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، وهو بسبب عقدة الكبر يأنف من ذلك، يأنف من ذلك، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء: الآية62]، فإبليس يعتبر نفسه أنه كان أولى بذلك التكريم، فربما كان يتمنى ويرغب في أن يسجد الملائكة تكريماً له، وكذلك غضب جداً أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” غضب عليه وطرده، عندما امتنع من تنفيذ أمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بذلك السجود؛ فتحولت أيضاً عقدة الكبر إلى عقدة حقدٍ كبيرةٍ جداً، واتجهت هذه العقدة (عقدة الحقد) نحو آدم وذرية آدم بكلهم، حيث يريد أن يسعى للانتقام من الجميع، وأن يورِّطهم فيما يصل بهم إلى نار جهنم، وإلى الخسران الكبير معه، كما هو خاسر.
{لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}، وهو هنا يتوعَّد ويتهدد أنه سيسعى للسيطرة التامة على ذرية آدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، باستثناء القليل، باستثناء القليل، {إِلَّا قَلِيلًا}، فهو يتوعَّد، ويتهدد، ويتبجح؛ لأنه سيسعى للسيطرة على أكثرهم، على الأكثرية البشرية، الأكثرية من المجتمع البشري، ثم يسعى لتوريطهم معه، فيما يصل بهم إلى نار جهنم، وفيما ينزل بهم عن مرتبة الكرامة التي كرمهم الله بها، فإبليس من عقدته يسعى إلى أن ينزل بالإنسان عن مرتبة التكريم، ويحاول أن يجعل الإنسان يتجه باتجاه متنكر لنعمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عليه، فعبارة (لَأَحْتَنِكَنَّ) تعني: تلك السيطرة عليهم، والاقتطاع لهم، والتوجه بهم معه إلى نار جهنم والعياذ بالله.
{قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}[الإسراء: الآية63]، {قاَلَ اذْهَبْ}: طردٌ له، وفي نفس الوقت يبيّن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” غناه، هو الغني الحميد، ليس بحاجة إلى ذرية آدم، ولا إلى عبادتهم وطاعتهم؛ إنما تكون المسألة عائدةً في خيرها أو شرها عليهم، {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ}؛ لأنه ليس له سلطة عليهم، ولا مقدرة للسيطرة عليهم إجبارياً، لا يستطيع أن يجبر أي إنسان على الإطلاق، أن يجبره على معصية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ إنما هو يستخدم أساليبه في الإغراء والإغواء والتزيين فقط، أسلوب الخداع والتزيين للإنسان؛ ولذلك فالخطر على الإنسان عندما يتجه هو لاتِّباع الشيطان، لاتِّباع إبليس، {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}، جزاء كافٍ، بما فيها من العذاب الرهيب- نعوذ بالله- والهوان.
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا}[الإسراء: 64-65].
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ}، يتبين لنا من خلال هذه الآية المباركة أن إبليس يتحرك للتأثير على البشر، وتوظيف قدراتهم وإمكاناتهم في عملية الإغواء، في عملية الباطل، في ارتكاب المعاصي، فيما يبعدهم عن تعليمات الله وهدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويكون له عواقبه السيئة عليهم؛ فيحوِّل الكثير مما بأيديهم من إمكانات- عندما يتبعونه- إلى وسائل: وسائل للإغواء، وسائل للإغراء، وسائل للإيقاع بهم في المعاصي وفي الذنوب.
فعبارة: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}، صوت الشيطان يشمل كل صوت إغراءٍ للباطل، أو للفساد، فما كان من وسيلة لإغراء الناس بالباطل، أو لإغرائهم إلى الفساد، من كل الأصوات التي تُسمع، كل صوتٍ يدعو الإنسان للفساد، يؤثر عليه التأثير السيء لإفساده، أو لإغوائه، فهو صوتٌ شيطانيٌ يخدم إبليس، ويستغله الشيطان في الإغواء لبني آدم، والاستفزاز يعني: الإثارة، التي تدفع الإنسان للاستجابة للشيطان، والتحرُّك فيما يريده بجهالة، وطيش، وسَفَه، بعيداً عن الرشد، بعيداً عن الحكمة، بعيداً عن مقتضى الإيمان والأخلاق والقيم، فالإنسان بتلك الإثارة التي يستثيره بها الشيطان- من خلال كل صوت إغواءٍ، أو صوت إغراءٍ على الفساد- يتجه في نفسه اتجاهاً بعيداً عن الرشد، اتجاه السَّفَه، الجهالة، الطيش، الابتعاد عن القيم والأخلاق والمبادئ والإيمان، وبذلك يكون متفاعلاً بتلك الصورة السلبية، متفاعلاً مع الإغواء الشيطاني.
{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}، وهي معركة يخوضها الشيطان لإغواء الإنسان، ويستخدم فيها وسائل متنوعة، بحسب المؤثرات التي تختلف من التأثير على هذا أو ذاك، مثلما تحدثنا سابقاً: البعض تؤثِّر عليهم المخاوف، البعض أكبر ما يؤثِّر عليهم في حياتهم المخاوف؛ فيسعى إلى إخافتهم: إخافتهم إما من الفقر، إخافتهم من الموقف الذي فيه رضوان الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ بتهويل عواقبه، أو نتائجه، أو ما يترتب عليه من مشاق، أو تضحية… أو نحو ذلك، التخويف لهم من أعداء الله، التخويف لهم ممن هم في صف الشيطان، وهكذا. البعض من الناس يستغل عليهم الغضب، البعض الشهوات بأنواعها، البعض الجوانب المعنوية، والسمعة، وحب السلطة… وغير ذلك.
{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ}، الشيطان عندما قرر أن يتحرك في كل المرحلة التي يمهله الله فيها لإغواء البشر، هو لم يتحرك وفق ميزانية مسبقة، وإمكانات مادية معينة، ابتدأ في إعدادها، وتخصيصها لعملية الإغواء؛ لأن عملية الإغواء لبني آدم تتطلب أيضاً إمكانات في كثيرٍ مما فيها، ولكنه سيتجه على أساس أن يستغلهم، ويستغل ما لديهم من إمكانات؛ حتى تُسَخَّر في ما يريده هو: في الإغواء، في الإضلال، في الإفساد، وبذلك يدخل في تلك الشراكة: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ }، الأموال التي تُكتسب من الحرام، وتُصرف في الباطل، وتصرف في الفساد، وتصرف في المعاصي، كل ما كان من الأموال بهذه الطريقة: إمَّا أنه اكتُسِب من حرام، أو أنه يُصرَف في المعاصي؛ يصبح الشيطان شريكاً فيه.
وفعلاً في عالم اليوم هناك دول، أنظمة، كيانات مختلفة متنوعة، تخصص ميزانيات هائلة لإغواء الناس، أو لإفسادهم، إمَّا للإضلال، وإمَّا للإفساد، كم هناك من قنوات فضائية مخصصة لإفساد الناس أخلاقياً، ونشر المواد الإباحية التي تُفسِد النفوس، وتروِّج للفساد والفحشاء والمنكر، كم يُصرف عليها من مليارات، تلك الأموال التي يموّل بها ما هو وسيلة لإفساد الناس أو لإضلالهم، يصبح الشيطان شريكاً فيها.
كذلك القوة البشرية عندما تسخر لخدمة الشيطان، في أي مجال من المجالات: عسكرياً، أو غير عسكرياً، أو في مجال آخر، أو غير المجال العسكري، في أي مجالات أخرى، ما يُشَغَّل من قدرات الناس، من إمكاناتهم التي وهبهم الله إيَّاها، من الإمكانات التي يكتسبونها بأي شكلٍ كان، ما يُسَخَّر في خدمة الشيطان؛ يصبح الشيطان شريكاً فيه، ومستغلاً له.
فالشيطان اعتمد في نشاطه لإضلال الناس، وإغوائهم، وعملية الإغواء والإضلال والإفساد عملية مستمرة، هو يريد أن يستغرق الإنسان حياته ووقته وجهده وأنشطته في اتجاه المعاصي، والذنوب، والأعمال السيئة، والأعمال الفاسدة؛ فالشيطان اعتمد في ذلك على ما لدى الناس أنفسهم من إمكانات، ولم يحتج إلى إمكانات من جهته هو، إلى ميزانيات ضخمة، وأموال كثيرة، وتعب وعناء في توفيرها.
والوعد الشيطاني هو وعد غرور: يعد الإنسان بالسعادة، يعد الإنسان بالراحة، يعد الإنسان بالعزة، يعد الإنسان بالأمور التي يطمح إليها، وفوق ما يطمح إليه؛ ولكنَّها مجرد خداع، وقرأنا فيما سبق كيف وسوس لآدم عن تلك الشجرة: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف: من الآية20]، كيف يُقدِّم وهماً وهو وهم غرور للإنسان، وهم غرور؛ فالشيطان هو يعد الناس بالغرور والأماني، ويوم القيامة يتنكر لوعوده لهم: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}[إبراهيم: من الآية22].
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا}، فالشيطان لا يمتلك سلطة الإجبار للإنسان، والإكراه والقسر للناس في السير في طريقه؛ إنما يوسوس فقط، ويدعو: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}، ويسعى لمخادعة الإنسان بالأماني، ويحاول أن يشتغل على مسألة الإغراء والتزيين وغير ذلك؛ لاستدراج الإنسان.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” (في سورة طه): {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه: الآية115]، فيما أعطاه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” من تعليمات واضحة، وحذَّره من الأكل من تلك الشجرة، ومن الاقتراب منها، وحذَّره من الشيطان، وأنه يريد أن يخرجه من تلك الجنة، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لم يكن من جهته أي تقصير، وهذه سنة من سنن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في الهداية لعباده، والتبيين لهم، وإقامة الحجة عليهم، والتوضيح لهم، فليس هناك تقصير من جانب الله أبداً، {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}، ضَعُفت إرادته تجاه تلك التعليمات، والالتزام بها، والتَّمَسُّك بها، والحذر من الشيطان، وتأثَّر بحجم الوساوس، والكذب، والخداع، واليمين الفاجرة من جهة الشيطان.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (115) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}[طه: 115-116]، فنجد أن هذا كان توضيحاً بَيِّناً لآدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، تبيينٌ له أنَّ الشيطان (أن إبليس) عدوٌ له ولزوجه حواء “عَلَيهِمَا السَّلَامُ”، وأنه يسعى لإخراجهما من الجنة، أن ذلك هدف يسعى إبليس لتحقيقه: كيف يخرجهما من الجنة، {فَتَشْقَى}، يعني: في حال الخروج من تلك الجنة التي أنت فيها، وما هيَّأ الله لك فيها من متطلبات حياتك بدون عناء، إذا خرجت من تلك الجنة، فأنت ستشقى؛ ستنتقل إلى حالٍ صعبة، إلى ظروفٍ صعبة، تحتاج إلى كد وعناء شديد لتوفير متطلبات حياتك الضرورية، ولاسيَّما أنه سيبدأ من نقطة الصفر في الكد والعمل والسعي.
{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}[طه: 118-119]، إن لك في هذه الجنة التي أنت فيها أن يتوفر لك ما تحتاج إليه، من متطلبات حياتك الضرورية:
- فالغذاء متوفر، والغذاء من أول احتياجات الإنسان، ومتطلبات حياته الضرورية، والله قال لهما: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}[البقرة: من الآية35].
- {وَلَا تَعْرَى}، كذلك الملابس متوفرة، ولا تحتاج إلى عناء لتوفير الملابس.
- {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}، كذلك فيها الماء، ويتوفر لك، وهو في ميسورك تناله بدون عناء، لا تحتاج إلى عملية نقل، ولا أي أعمال وأعباء في الحصول على الماء.
- {وَلَا تَضْحَى}، كذلك لا تحتاج إلى أن تخرج للكد في الشمس، وحرارة الشمس ومعاناتها.
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}[طه: الآية120]، اتجه الشيطان في مسعاه لإخراج آدم وحواء “عَلَيهِمَا السَّلَامُ” من تلك الجنة، واستخدم أسلوب الوسوسة عن تلك الشجرة، التي نهاهما الله، وقال لهما: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}، فقدَّم لهما تصوراً خاطئاً وباطلاً، في أسلوب خداع، عن تلك الشجرة، وعن سرِّها العجيب: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ}، فهو يسميها بشجرة الخلد، يعني: أن من أكل منها لا يموت، يبقى على قيد الحياة للأبد، {وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}، مُلكٍ يتجدد ويستمر، تبقى ملكاً- أنت يا آدم- على ذريتك بشكلٍ مستمر، تعيش للأبد، وتكون ملكاً على ذريتك، وتستمر في هذا الملك، لا يبلى، ولا يملُّون منك، ويبقى ملكك كذلك في متطلباته وعوامل بقائه واستمراره قوياً مستمراً.
هذا هو الأسلوب الشيطاني، الذي يخادع الإنسان، ويُزَيِّن له بالأكاذيب، بالخداع، فوسوس له هذه الوسوسة عن تلك الشجرة، وأقسم له ولحواء “عَلَيهِمَا السَّلَامُ” كما تقدَّم (في سورة الأعراف)، في الأخير: {فَأَكَلَا مِنْهَا}، بعد سعي من قبل إبليس مستمر للتأثير عليهما، {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}[طه: من الآية121]، اتضح أن تلك الشجرة لا تعني شيئاً مما ذكره، وليس لها أي خصوصية من هذه الأمور المعنوية.
ومن الغريب جداً أن البعض من البشر لديهم تصور خاطئ عن تلك الشجرة التي أكل منها آدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، وفي ثقافتهم ومعتقداتهم: [أنها شجرة العلم، وأن آدم “عَلَيْهِ السَّلَام” حين أكل منها أصبح يميز بين الخير والشر، وأن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” استعجل عليه بالإخراج قبل أن يأكل من شجرة أخرى كانت موجودة، هي شجرة الخلد]، فحاولوا أن يقدِّموا لتلك الشجرة سراً من هذه الأسرار المعنوية، وهو أمرٌ لا صحة له على الإطلاق، بالنسبة للعلم، والتمييز بين الخير والشر، هذا شيءٌ منحه الله لآدم قبل حتى أن يسكنه في تلك الجنَّة، وعندما علَّمه الأسماء، بعد أن خلقه وهيأه للاستخلاف في الأرض، علَّمه ما يحتاج إليه، وحتى هذه التحذيرات: من الشجرة، ومن إبليس، هي في إطار التمييز بين الخير والشر؛ فهي خرافة، تصورات خرافية [أنها شجرة العلم]، الشجرة لم تكن تعني أي أمرٍ معنوي من هذه الأمور.
{فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}[طه: من الآية121]، وهو ما كان يسعى له إبليس في الحقيقة: أن يجرِّدهما من كل ما كانا فيه من النعيم، من الحياة السعيدة، وأن يشقيهما، يريد أن يخرجا إلى وضعية صعبة، ومعاناة كبيرة؛ ليعيشا فيها.
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[طه: من الآية121]، كانت مخالفة خالف فيها آدم، نتيجةً لذلك الإغواء، والإغراء، والتزيين من قِبَلِ الشيطان، فكانت النتيجة بالنسبة لآدم “عَلَيْهِ السَّلَام”: أن تأثرت حياته لذلك، {فَغَوَى}: كانت مخالفته تلك عصياناً، وكانت أيضاً- في نفس الوقت- غوايةً، وتصرفاً بخلاف الرشد، وترتب عليها: أن يتَّجه حالهما إلى حالٍ صعبٍ، وظروفٍ صعبة، وهي النتيجة التي يريد الشيطان أن يوقع الإنسان فيها: أن يوقعه في حالٍ سيئةٍ، في سوء الحال، في واقعٍ لا يهنأ فيه بحياته.
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ}[طه: 121-122]؛ لأن مخالفته تلك تختلف عن مخالفة الشيطان، لم تكن جرأةً على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بل لربما كان يطمح أن يَقْرُب من الله أكثر، وأن يرتقي في مقام العبادة لله أكثر… وغير ذلك، فلم تكن من منطلق الجرأة على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي نفس الوقت كانت بداية تجربة لآدم وحواء “عَلَيهِمَا السَّلَامُ”، لم يكونا ربما يتوقعان أنَّ الشيطان على ذلك المستوى من السوء والخداع، وعندما أقسم لهما، لم يتصورا أن مخلوقاً سيحلف يميناً غموساً فاجراً، فكان هناك مجموعة عوامل أثَّرت عليهما، وهما عادا إلى الله، وَاعتَرَفَا بالخطيئة، وَنَدِمَا أشد الندم.
{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}[طه: الآية122]، اصطفاه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتاب عليه، وهداه، ومنحه النبوة، فهو بالنسبة له (آدم) قد تجاوز تلك المعصية بالتوبة، والإنابة، والاصطفاء الإلهي، والهداية من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولكنه بقي يعاني الآثار المترتبة على تلك المخالفة: في الخروج من تلك الجنة.
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}[طه: من الآية123]، يعني: آدم وحواء، وكذلك الشيطان، وذريتهم، {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، اهبطا إلى الأرض، من تلك الجنة إلى الأرض، والأرض أصبحت هي المعترك، المعترك بين الأعداء: بين آدم وذريته من جهة، والشيطان وبقية الشياطين معه من جهةٍ أخرى، الأرض هي الميدان الذي تجري فيه هذه المعركة.
ذلك العداء هو عداءٌ مستحكم، ليس فيه هدنة، ولا مصالحة، وليس فيه حياد، ولا مجال للحياد فيه أصلاً، ولكن المسألة بالنسبة للانتصار في هذه المعركة تعود إلى الإنسان نفسه، إلى الإنسان نفسه:
- إمَّا أن يوقع نفسه هو في الهزيمة أمام الشيطان، ويتيح المجال للشيطان ليسيطر عليه، ويتغلَّب عليه، ويستغله، ويستغل ما معه من إمكانات أيضاً في خدمة الباطل، في ارتكاب المعاصي، في الأمور التي يريد الشيطان أن تكون وسيلةً لهلاك الإنسان وشقائه.
- وإمَّا أن يتَّجه الاتِّجاه الذي فيه سلامته، ونجاته، وفوزه، وسموه، والحفاظ على كرامته.
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}[طه: 123-126]، كانت الخلاصة من هذا الدرس (في سورة طه)، هي هذه الخلاصة المهمة جداً: أنَّ مصير الجميع مرتبطٌ بموقفهم من هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وتعليماته، من اتَّبع تعليمات الله “جَلَّ شَأنُهُ”، وتمسَّك بها؛ يفوز، ويربح، وينجو، وتكون النتيجة لصالحه، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}: يسلم من الضلال، ويسلم من الشقاء، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي}: أعرض عن هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.
إبليس ضلَّ وشقي بسبب معصيته، اجتمع له الضلال والشقاء، وآدم بسبب المخالفة شقي، بخروجه من تلك الجنة إلى ظروف الحياة الصعبة، التي ابتدأ فيها من نقطة الصفر كده وسعيه لتوفير متطلبات حياته، بمشقة زائدة، غير المشقة الطبيعية؛ لأنه في ظروف الحياة، وسعي الإنسان، وأعماله، الإنسان كما قال الله عنه: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}[الانشقاق: الآية6]، فلا تخلو حياة الإنسان من أن يكون فيها التعب، فيها النصب، فيها المشقات، فيها الصعوبات، ولكن الفارق الكبير بين:
- أن تكون هذه الصعوبات وتلك المشاق، في إطار أعمال مفيدة، مثمرة، جيدة، وليس لها عواقب سيئة على الإنسان.
- أو أن تكون على العكس من ذلك: غير مثمرة، ولها عواقب سيئة على الإنسان، ونتائجها خطيرةٌ عليه، مشقتها كبيرة فوق المشقة العادية، التي هي طبيعية في ظروف هذه الحياة، في إطار الأمور الواقعية والاعتيادية في هذه الحياة.
فإبليس ضلَّ وشقي، اجتمع له الضلال والشقاء، وآدم شقي، بانتقاله إلى الحياة الصعبة، من نقطة الصفر كما قلنا.
والمصير للبشر، وللثقلين (للجن، والإنس)، ارتبط بموقف الجميع من هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، النتيجة لمن اتَّبع هدى الله، الآتي من الله، عبر أنبيائه ورسله وكتبه، هذا الهدى من اتَّبعه سلم من الضلال، وسلم من الشقاء، وفاز؛ أمَّا الإعراض عنه، فالنتيجة هي: المعيشة الضنكا، الضيِّقة، التي لا يتذوق الإنسان فيها السعادة أبداً.
وهذا الضيق لا ينحصر في الجانب المادي، البعض من الناس قد تكون معيشتهم ضنكا؛ باعتبار ما هم فيه من ظروف صعبة جداً في حياتهم، ومعاناة كبيرة جداً في حياتهم، ظروف الجوع والخوف… وغير ذلك، وانعدام البركات والخيرات، المعاناة التي ليست معاناة عادية في إطار التعب العادي، التعب المفترض والطبيعي في هذه الحياة، بل المعاناة الزائدة على ذلك.
والبعض قد تكون حياتهم ومعيشتهم الضنكا؛ باعتبارات أخرى غير الاعتبار المادي، تتوفر لهم الإمكانات المادية في حياتهم بشكل كبير، ولكنهم لا يهنؤون بها، لا تتوفر لهم بأموالهم، بما يتوفر لهم الإمكانات المادية، لا تتوفر لهم بها السعادة، ولا الطمأنينة، ولا الارتياح النفسي، بل يعيشون في حياة قلقة، ومضطربة، ومتوترة، ولا يجدون، ولا يحسون، ولا يشعرون بقيمة الحياة التي هم فيها أصلاً، يشعرون بالضياع، يشعرون بالعبث، يشعرون بانعدام الطمأنينة والسكينة النفسية، لا يستشعرون القيمة والكرامة الإنسانية التي وهب الله الإنسان إيَّاها، لا يعيشون مشاعر القرب من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذا ما هو حاصلٌ في المجتمعات الغربية.
الذي هو حاصل في كثيرٍ من المجتمعات الغربية: أنها تتوفر لهم متطلبات الحياة والمعيشة على المستوى المادي برفاهية واسعة، ولكنهم يعيشون أجواء مقلقة، واضطرابات نفسية كبيرة، ويلجأ كثيرٌ منهم للانتحار، ولا يسعدون، ولا يهنؤون بما هم فيه، أولاً: لأنهم يرتكبون الكثير من المعاصي، التي تشقيهم في حياتهم، مثلاً: هم لا يهنؤون بالاستقرار الأسري؛ بسبب ما هم فيه من المعاصي والفوضى، ليس هناك اطمئنان في حياتهم الأسرية، الزوج مع زوجته، وكذلك الأب والأم مع أولادهم، هناك واقع مختلف تماماً لديهم.
الحالة الأسرية عندهم هي حالة جحيم، ليس فيها ثقة، ليس فيها اطمئنان، ليس فيها روابط أسرية قائمة على الرحمة، والتضامن، والتعاون، والألفة، كل هذه المعاني غائبة من حياة الكثير منهم؛ وبالتالي يعيشون حالة شقاء، وحالة معاناة، ويعتمد الكثير منهم على الخمور، وعلى المخدرات؛ لمكافحة تلك الحالة من الاكتئاب النفسي، ولكنهم يشقون أكثر وأكثر.
وهكذا تختلف أنواع الشقاء، وأنواع المعيشة الضنكا من مجتمعٍ إلى آخر، لكنها النتيجة الحتمية للإعراض عن هدى الله وتعليماته؛ أمَّا في الآخرة: فالعمى، العمى والضلال، ولا يجد الإنسان وسيلةً آنذاك لإنقاذ نفسه.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” (في سورة ص): {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[ص: 71-75]؛ لأن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ابتدأ خلق الإنسان، هو خالق الإنسان هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وابتدأ خلقه، لم يكن مجرد خلق صنعه آخر، أو تفرَّع بالطبيعة من مخلوقات أخرى، كما في نظرية [التطوُّر]: من القرد إلى الإنسان، وهي نظرية باطلة، لا أساس لها أبداً، وهي متباينة تماماً مع الحقيقة العلمية، التي يثبتها العلم كحقيقة، وتتنافى مع كتب الله، ومع ما هو موروثٌ بين البشر جيلاً بعد جيل عن بداية الوجود البشري والإنساني.
{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ}[ص: من الآية75]؛ لأن الله خلق الإنسان بقدرته، وابتدأه ابتداءً كمخلوق مستقل، وليس متفرَّعاً عن مخلوقٍ آخر، أو حيوانٍ آخر، {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ}[ص: من الآية75]، يعني: هل هذا بسبب كبرك؟ أم أنك تعتبر نفسك أعلى شأناً من أن تسجد وتنفِّذ أمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بالسجود تكريماً لآدم؟ {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[ص: الآية76]، مع أنَّ هذا لا يبرر له، ليس هناك مبرر للإنسان لرفض أوامر الله، والأنفة من قبول الحق، هذه المسألة ليس فيها اعتبارات: [أنا وأنا، أنا خيرٌ من فلان، أو فلانٌ خيرٌ مني]، الإنسان أمام أوامر الله، وتوجيهات الله، والحق من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، عليه أن يقبل به، وألَّا يأنف أبداً، وتصوُّره كان تصوراً خاطئاً وباطلاً.
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}[ص: الآية77]، ضلَّ، وشقي، وطُرِدَ، وأُهين، وغروره وكبره لم يفده شيئاً، لم يحظَ بالمكانة والأهمية، لا أهمية له، ولا قيمة له، وليس شخصيةً محترمةً عند أحد.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[ص: الآية78]، نعوذ بالله، وحذَّرنا في المحاضرات السابقة من كثير من المعاصي التي يتوعَّد الله عليها باللعنة: بالطرد من رحمته.
{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: 79-82]، أقسم بعزة الله، وهو يعرف أنَّ هذا قسماً كبيراً، وتعمَّد أن يقسم بهذا القسم، وكما تحدثنا سابقاً: إبليس يقرُّ بالله، ويعترف بالله، وبربوبيته، وبألوهية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أنَّ الله هو الإله، هو الرب، يقول: {رَبِّ}، {قَالَ رَبِّ} فيما سبق، وهو يتخاطب مع الله، يعترف بكل ذلك، يعترف بالبعث، والجنة، والنار، لكن معرفته وإقراره ذلك لم يكفِ، ولم يرتقِ به إلى مستوى أن يكون زاكي النفس، وصالحاً، ومستقيماً، فكانت عنده عقدة الكبر التي أوصلته إلى ما وصل إليه.
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[ص: 82-83]، فهو أقسم على أنه سيسعى لإغواء أكثرهم، أكثر المجتمع البشري، وسيعمل على ذلك، وهو يعرف أنَّ هناك من لا يستطيع أن يؤثِّر فيهم أصلاً؛ ولهذا بادر هو بالاستثناء: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}: الذين خَلَصوا من الشوائب، التي تُمثِّل ثغرات للشيطان في التأثير على الإنسان، وتحدثنا سابقاً: هناك شوائب تتفرَّع عنها المعاصي في الواقع العملي:
- فالبخل- مثلاً- شائبة من الشوائب، تكون حالةً نفسية، تتفرَّع عنها: منع الحقوق الشرعية في المال، وعدم العطاء، يبخل الإنسان على الإنفاق، يبخل في الزكاة… يبخل في أشياء كثيرة،
- وهكذا الطمع- مثلاً- شائبة خطيرة في الإنسان، ينتج ويتفرَّع عنها الكثير من المعاصي.
- وكذلك الحقد.
- كذلك- مثلاً- الكبر.
- كذلك العجب.
أشياء كثيرة، هي تعتبر شوائب خطيرة جداً على الإنسان، إذا نمت، وتجذَّرت، وكبرت في نفس الإنسان، وسيطرت على الإنسان؛ تفرَّع عنها الكثير من المعاصي.
ولكن التربية الإيمانية هي تعالج في الإنسان، وتخلِّصه من تلك الشوائب، تعالجه منها، وتخلِّصه منها؛ ولهذا يُسمِّي الله هداه (القرآن الكريم) شفاء، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}[يونس: من الآية57]؛ لأنه يشفي الإنسان من تلك العلل الأخلاقية والنفسية، التي تؤثر عليه، وتمثِّل ثغرةً للشيطان يَنْفُذ من خلالها عليه.
{قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: 84-85]، وهذا قسمٌ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهو الغني، لا يضره أن اتَّجه الكثير من البشر لمعصيته، واتَّجهوا مع عدوهم الشيطان، الذي يوظِّف إمكانات البشر، ويحوِّلها إلى امتدادات لأنشطته في إغواء بقيتهم، فالنتيجة: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}، بكل أصنافهم وأشكالهم؛ لأن هناك دوافع، وفئات، وتشكيلات كثيرة، اتَّبعت الشيطان بأسباب الغواء المتنوعة، أسباب الضلال المتنوعة، اتجاهات الضلال المتنوعة، اتجاهات الفساد والمفسدين المتنوعة، مأوى الجميع إلى جهنم والعياذ بالله، حيث العذاب، والشقاء، والخزي، والهوان.
ولذلك إبليس خاسر، ومن يتبعه خاسر، وعلينا أن نأخذ الدرس مما سمعناه من الآيات المباركة، في أنَّ النتيجة الحتمية هي: الضلال، والشقاء، والخسران، وصولاً إلى الخسران الأبدي في نار جهنم، عندما يعرض الإنسان عن هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويخضع لوساوس الشيطان.
والإنسان في هذه الحياة بين حالة من حالتين:
- إمَّا أن تكون مسيرة حياته مبنيةً على التَّمسُّك بهدى الله وتعليماته القيِّمة.
- وإمَّا أن يخضع لوساوس الشيطان، وتأثير وساوس الشيطان، والامتدادات التابعة للشيطان؛ لأنه تقدَّم في الآية المباركة (من سورة الإسراء): {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ}[الإسراء: من الآية64]، عندما تتحدث عن الخطر الشيطاني، ويريد الإنسان أن يحذر من التأثير للشيطان، من تأثير الشيطان على نفسه؛ فليدرك أيضاً أنه أصبح هناك امتدادات وتشكيلات مرتبطة بالشيطان، لها أنشطتها في الواقع البشري، من البشر أنفسهم، {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ}، أصبح هناك من يتحرَّك في إطار الشيطان، مرتبطاً بالشيطان، وأصبحت هناك جبهة في الواقع البشري بتشكيلاتها المتنوعة، التي تشتغل فكرياً، ثقافياً، إعلامياً، تتحرك عسكرياً، تتحرك سياسياً، تتحرك اقتصادياً، وهي امتداد للشيطان، وللنهج الشيطاني.
ولذلك عندما نحذر من الشيطان، نحذر من كل تشكيلاته، وامتداداته المرتبطة به، التي تسعى لإبعادنا عن هدى الله وعن تعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتسعى لإغوائنا، لإضلالنا، لإفسادنا، فهي كلها امتدادات للشيطان، ويعبِّر عنها القرآن الكريم بـ {أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ}[النساء: من الآية76].
ولندرك- كما أكَّد الله لنا في القرآن الكريم- أنَّ الشيطان بكل تشكيلاته الشيطانية (من الإنس، والجن)، لا يستطيع أن يقسرنا، وليس له سلطة لإجبارنا على الاتجاه في المعصية، والانحراف عن هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أو مخالفة أوامر الله ونواهيه، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}[النحل: 99-100]، الإنسان يخضع للتأثير الشيطاني، عندما يتَّجه هو في طريق الغواية، ويخرج عن ولاية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في هدايته ورعايته، إلى ولاية الشيطان في الاتِّباع والطاعة، والعياذ بالله.
نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛