نواصلُ الحديثَ في سياق الكلام عن أهميَّةِ التقوى، وما تعنيه لنا، في مستقبلِنا المهمِّ الأبدي في الآخرة، والحديث على ضوء الآيات المباركة من سورة الواقعة.
وصلنا إلى قولِ الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَأصحاب الْيَمِينِ مَا أصحاب الْيَمِينِ}[الواقعة: الآية27]، في سياق التصنيف الذي صَنَّف به البشر في يوم المحشر إلى ثلاثة أصناف، صنفين من تلك الأصناف الثلاثة هم الناجون الفائزون، وهم: (السابقون، وأصحاب اليمين).
تحدث عن فضل السابقين، وما وعدهم به، وهذا الحديث هو عن أصحاب الميمنة، سمَّاهم في بداية التصنيف بأصحاب الميمنة، وعندما أتى الحديث التفصيلي عمّا أعده الله لهم، وعن فوزهم، ونجاتهم، وفلاحهم، سمَّاهم بأصحاب اليمين، وكل ذلك يعني: أنهم أصحاب اليُمن، والبركة، والخير، والفوز، والفلاح، ويُؤتَون كتبهم بإيمَـانهم، وقوله “جَلَّ شَأنُهُ”: {مَا أصحاب الْيَمِينِ}، تعظيمٌ لما يصيرون إليه من النعيم العظيم، والتكريم الكبير، واقع النعيم في الجنة، الفوز برضوان الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” وبجنته، هو مقامٌ عظيم، وفضلٌ كبير، ونعمةٌ عظيمة، وكل المستويات فيها هي ذاتٍ شأن كبير، وفضلٍ عظيم، ولو أنها تتفاوت، تتفاضل، يختلف حال أصحاب اليمين عن مستوى منزلة وتكريم السابقين، ومقام السابقين، لكن واقع الجنة بكله عظيمٌ، والشأن فيه كبير، والنعيم والسعادة فوق مستوى ما يتخيل الإنسان.
{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ}[الواقعة: الآية28]، وهنا -كما هو الحال بالنسبة للسابقين -يذكر نماذج من نعيمهم، وما أعده الله لهم، ويوكلنا إلى بقية المقامات، إلى ما ورد في بقية السور والآيات المباركة في القرآن الكريم، التي تحدثت عن نماذجَ أُخرى، وأنواع أُخرى من النعيم، في مقدمة هذه النماذج، وهو يصف الواقع الذي هم فيه في جناتهم: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ}، السدر: هو شجرة معروفة لنا في الدنيا، السدر في بعض البلدان يسمُّونه -وفق التسمية المحلية -بـ (العِلْب)، وفي بعضها بـ (العَرْج)، وفي بعضها بـ (النَبْق)… بأسماء مختلفة، فالسدر هو شجرة -بالنسبة لواقعنا في الدنيا -شجرة معمّرة قوية، معروفة بعسلها اللذيذ، الذي عندما تعتمد النحل عليها، وتجني الرحيق منها، تنتج عسلًا لذيذًا ومميزًا، وَأَيْـضاً معروفة بثمرها، معروفة بخاصيتها في التنظيف، فيما يتعلق بأوراقها، معروفة بقوتها وتحملها، لكن السدر في الجنة يختلف عن السدر في الدنيا، كما هو شأن كُـلّ الأشجار، كما هو شأن كُـلّ النعم، التي يوجد فارقٌ كبيرٌ ما بينها هنا في الدنيا، وما بينها هناك في عالم الجنة.
أول ما يقوله عن السدر في الجنة: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ}[الواقعة: الآية28]، يعني: لا شوك فيه، الكثير من السدر في الدنيا فيه الشوك، المؤذي، والمزعج، فالسدر في الجنة يمتاز بأنه لا شوك فيه، ينعَم الإنسان بظلاله الوارفة؛ لأَنَّ أَيْـضاً من خواصه حتى في الدنيا هو: ظلاله الوارفة والمميزة، في الجنة، سدر الجنة يتميز بسلامته من الشوك، يتميز بثماره، الثمار المتميزة عن ثمار سدر الدنيا، وَأَيْـضاً يتميز بنضارته، بكل شيءٍ فيه، يتميز عن السدر في الدنيا.
{وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ}[الواقعة: الآية29]، يقولون إن الطلح المنضود هو: الموز، هناك شجرة تسمى الطلح أَيْـضاً معروفة بخُضرتها، ونضارتها، وظلها، ولكن يُقال إن الموز كذلك يسمى بهذه التسمية (بالطلح)، والمنضود: المتراكم، وهذا بالنظر إلى أوراقه، وبالنظر إلى ثماره، ثماره المتراكمة، الوفيرة، والموز أَيْـضاً من الأشجار النضرة، الخضراء، الكبيرة الأوراق، البهية المنظر، والموز كفاكهة أَيْـضاً من الفواكه الممتازة واللذيذة، والمفيدة للإنسان.
{وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ}[الواقعة: الآية30]، ظِل لكثافة الأشجار، وأنواعها في الجنة، ليس هناك أذيةٌ من الحر، ولا معاناةٌ من الحر، ولا من الشمس، {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً}[الإنسان: 13]، في مقابل حال أهل النار، الذي هو: حرارةٌ شديدة، يعيشون في حالة احتراقٍ دائم، وحرارةٍ شديدةٍ جِـدًّا، لا تُخفف عنهم ولا للحظةٍ واحدة، فالحال بالنسبة لأهل الجنة: هو الظل، والراحة، وانعدام أذيَّة الحرارة الشديدة؛ فلا حرارة شديدة، ولا برد شديد، جوٌّ معتدل ملائم، وبشكلٍ مُستمرٍّ، لا يعانون -ولو في موسم معين مثلًا -من شدة الحرارة في موسم معين، أَو شدة البرد، البرد القارس في موسمٍ آخر، مثلما هو الحال في الدنيا، البعض من المناطق تعاني من شدة الحرارة، والبعض من البرد القارس؛ أمَّا هناك فحتى الجو، جوٌّ (في عالم الجنة) جوٌّ معتدلٌ ملائمٌ، ليس فيه أذية الحرارة، ولا أذية البرد القارس، {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيرًا}[الإنسان: من الآية13]، زمهرير: البرد القارس.
{وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) وَمَاء مَّسْكُوبٍ}[الواقعة: 30-31]، (وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ) في مختلف أرجائها، يعني: ليس فقط في أماكن محدودة فقط، ثم تكون بقية المناطق والأرجاء، حالتها حالة الصحاري في الأرض مثلًا، الأرض أماكن محدودة قد يتوفر فيها الظل، أماكن محدودة جِـدًّا، بقية الأماكن لا يتوفر فيها الظل، معظم الأماكن على وجه الأرض لا يتوفر فيها الظل، تحتاج أن تلجأ إلى مسكن، أَو إلى مبنى، أَو إلى أي شيء لتستظل به؛ أمَّا الجنة فالظل يمتد فيها إلى مختلف أرجائها، وأنحائها، يتوفر الظل في كُـلّ مكان، وهذه نعمةٌ كبيرة، عندما يتحَرّك الإنسان، يتنقل، هو لا يقلق أنه لا يتوفر له الظل، ويتوفر له الجو المعتدل، الذي يتخلص فيه من أذية الحرارة الشديدة، إلا في أماكن محدودة.
مثلًا: في الدنيا، في بعض البلدان حتى مع ثراء أهلها، وتوفر الإمْكَانات لهم، قد يتوفر له المكيفات، لكن في داخل المنزل، مكيفات تساعده على تخفيف الحرارة، وأن يرتاح، وينعم بالجو المعتدل، ولكن بمُجَـرّد أن يخرج من المنزل انتهى كُـلّ شيء، الحرارة في كُـلّ مكان، الحرارة الشديدة، في بعض البلدان ترتفع درجة الحرارة إلى مستويات قياسية، مؤذية، ومزعجة، ومرهقة، ومتعبة، وضارة، بل في بعض البلدان تحصل الكثير من حالة الوفيات، نتيجةً لشدة الحرارة، والطقس الحار جِـدًّا، ونسمع في وسائل الإعلام عن كذا وكذا من الوفيات الناتجة عن ذلك.
ففي عالم الجنة مع ما يتوفر فيه من النعيم، يتوفر فيه -في كُـلّ أرجائها وانحائها -الجو المعتدل، الملائم، وليس هناك الحرارة الشديدة التي تزعجهم، أَو تؤذيهم، في أي مكانٍ في الجنة، في حالة تنقلاتهم، ورحلاتهم، وزياراتهم، وتنقلاتهم المتنوعة في عالم الجنة، الجو كله ملائمٌ، ومناسبٌ، ومريح.
{وَمَاء مَّسْكُوبٍ}[الواقعة: الآية31]، يتوفر الماء النقي، الماء الملائم، الذي ليس فيه أي شيءٍ يكدره، ليس مشوبًا بأي شيءٍ من المكدرات، يتوفر بشكلٍ كبير في عالم الجنة، الجنة تجري من تحتها الأنهار، وقد يكون فيها أَيْـضاً عيون خَاصَّة، بماءٍ عذبٍ في غاية الجودة، والنقاء، والصفاء، واللذة، يشربون منه، إضافة إلى ما فيها من المناظر الخلّابة، لمختلف الأنهار التي تجري فيها، بأنواعها وأشكالها، فالماء متوفر هناك، غير آسنٍ، ولا متغير، ولا مشوب، بما يكدره، أَو يؤثر فيه، وبشكلٍ دائم، ليس هناك أزمة مياه، أَو مشكلة مياه، في مقابل الحميم الذي يشوي الوجوه، ويقطَّع الأمعاء، ويشربه أهل النار والعياذ بالله.
{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ}[الواقعة: الآية32]، الفاكهة متوفرة لأصحاب اليمين، أصحاب الميمنة، متوفرة بكثرة، في أنواعها، كثيرة في أنواعها، وأصنافها، من مختلف أنواع الفواكه، وفي كمياتها، ليس هناك أزمة، أَو نقص حاد في توفرها، أَو انعدام للبعض منها، بأصنافها، وأنواعها الكثيرة، والمتنوعة، متوفرة أَيْـضاً في كُـلّ وقت.
{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَة ٍ (32) لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}[الواقعة: 32-33]، ليست موسمية فقط، تأتي في موسم معين ثم تنقطع، كُـلّ أصنافها وأنواعها تتوفر في كُـلّ وقت، هي متوفرةٌ في كُـلّ وقت، وليس فقط في موسمٍ معين، كما في الدنيا، تتوفر فاكهة معينة في موسم، وفاكهة أُخرى في موسم آخر، وفواكه في موسم آخر، وهكذا، فواكه الجنة هي مُستمرّة، ثمارها مُستمرّة لا تتوقف أبدًا.
{وَلَا مَمْنُوعَةٍ}[الواقعة: من الآية 33]، ليس هناك ما يمنع منها، لا في طريقة الحصول عليها، ليست طريقة الحصول عليها صعبة، فهي دانية، يقتطفها الإنسان بكل سهولة، وهناك أَيْـضاً الخدم الذين يوفرونها، ولكن حتى لأصحاب اليمين، وحتى لو كان هو من يقتطف لنفسه، فبدون عناء، في الدنيا بعض أنواع الثمار يحتاج الإنسان إلى عناء، في الحصول عليها، مثلًا: في من يقومون بجنايتها، الذين يجنونها، يحتاجون إلى عناء وتعب في ذلك، يتسلق في النخلة الطويلة، المرتفعة، الباسقة، ليصل إلى أعلاها، لينال شيئاً من ثمارها، أَو ليقتطف ما فيها من الثمار، وهكذا بقية الأشجار؛ أمَّا هناك فليس هناك عناء، ولا صعوبة في الحصول عليها، {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}[الحاقة: الآية23].
كذلك ليس هناك مانع صحي، يكون الإنسان مثلًا: قد يتضرر بتناول فاكهة مع فاكهة معينة، إذَا جمع بين ذلك الصنف وذلك الصنف، أَو يضره صنف معين من أصناف الفواكه، فيرى تلك الفاكهة، يرى ثمارها متدلية، في أغصان أشجارها في الجنة، ولكنه يرى نفسه غير مستطيعٍ أن يتناولها؛ لضررها على صحته مثلًا، مثلما يحصل في الدنيا، الكثير من الناس قد تضره تلك الفاكهة، أَو ذلك الصنف، أَو ذلك النوع من الفواكه، لا يتلاءم مع صحته، فيكون ممنوعًا صحيًّا من تناوله، في عالم الجنة ليس هناك -أبدًا -أي مانع صحي، كما قال في الآية المباركة: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ ءَامِنِينَ}[الدخان: الآية 55]، فليس هناك أي نوع يمكن أن يضر ببعضهم، أَو يؤثر على صحة بعضهم، كُـلّ أصناف الفواكه، فليس هناك أي مانعٍ من الحصول على تلك الفواكه، وليس هناك ظروف صعبة، لن تحتاج إلى أن توفر قيمة تلك الفواكه، أنت وفرت قيمتها مسبقًا بعملك الصالح، بما قدمته في الدنيا، بإنفاقك في سبيل الله، في سبل الخير، التي أرشد الله إليها، باستقامتك على منهج الله، بطاعتك لله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبرحمة الله وفضله.
{وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} [الواقعة: الآية 34]، تحدث في سياق الحديث عن السابقين: عن السرر، التي هم عليها، وفي الحديث عن أصحاب اليمين: عن الفرش، التي هي نوعية فاخرة جِـدًّا، وممتازة، ومرفوعة؛ لأَنَّها وثيرة، وفي غاية الروعة، الفرش في الجنة في غاية الروعة، رائعةٌ جِـدًّا، تحدث عنها في آيات أُخرى، ووصفها كذلك بأنواعها وصفًا عظيمًا.
{إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إنشاء (35) فَجَعَلْنَٰاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبـًا أَتْرَابًا}[الواقعة: 35-37]، ثم انتقل -بعد الحديث عن الفرش والمساكن -إلى الحديث عن الحور العين، الحور العين لأصحاب اليمين، وتحدث عنه بهذا الحديث العجيب: {إِنَّا أَنشَأْنٰـَاهُنَّ إنشاء}[الواقعة: من آية 35]، الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” بقدرته العجيبة “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهو المصور، البارئ، الخالق، أنشأهن إنشاء متميزًا، إنشاء وإعدادًا رائعًا جِـدًّا.
{إِنَّا}، الله بقدرته العظيمة، بكرمه الكبير، وهو “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” القدير، البصير، في كيف يخلق، أنشأهن إنشاء متميزًا، بجمالٍ بارعٍ وفائق، بخلقٍ بديع، بشكلٍ متميزٍ جِـدًّا، هذا يبين عظمة تلك النشأة، في مستوى الجمال، في مستوى الخلق، في مستوى الإبداع، {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنشاء}[الواقعة: الآية 35]، تعبير عجيب!
{فَجَعَلْنَٰاهُنَّ أَبْكَارًا}[الواقعة: الآية 36]، يخلقهن الله وينشئُهن وهُنّ في سن بداية الشباب، في تلك الصحة، في تلك البكارة، في تلك النضارة، في ذلك الجمال.
{عُرُبًا أَتْرَابًا}[الواقعة: الآية 37]، وهنا وَصَفَ جانب يعني مما يتعلق بمميزاتهن، في خَلقهن، وفي خُلقهن، وفي آياتٍ أُخرى، وفي سور أُخرى، يأتي بأوصاف إضافية، طريقة القرآن الكريم في الاختصار، وتقديم النماذج هنا، ثم تقديم نماذج في سورةٍ أُخرى، وهكذا، والعُرُب: يعبِّر عمَّا هُنّ عليه، من عشقٍ لأزواجهن، وتحبُّبٍ، وتودُّدٍ، وتلطُّف في التعامل، في الخطاب، في الحديث، في الجاذبية لأزواجهن، هذا معنى عُرُبًا، هذا يعود إلى أخلاقهن، إلى طريقتهن في التعامل، والتودد لأزواجهن، والتلطف في التعبير، وإلى مستوى الجاذبية لأزواجهن.
{أَتْرَابًا}، وهذا يفيد ما هن عليه من تشابه، ومن تساوٍ في مستوى السن، في مستوى الجمال، في مستوى.. بمعنى: ليست هناك مثلًا واحدة طاعنة في السن، وواحدة لا زالت في بداية العمر، أَو في بداية الشباب، واحدة مثلًا في غاية الجمال، فائقة في جمالها وشكلها، والأُخرى تختلف عنها، قد يكون بينهن فوارق في مستوى الجمال، لكن ليست فوارق: تلك هابطة، وتلك مرتفعة، هن أنداد، هن متساويات في ذلك.
{لِأصحاب الْيَمِينِ}[الواقعة: الآية38]، هذا النعيم المتنوع، الذي يتوفر فيه كُـلّ متطلبات الحياة الهنيئة، والسعيدة، والطيبة، والمريحة، لأصحاب اليمين، وهذه فقط نماذج منه: في المأكولات، في المشروبات، في المساكن، في الزوجات، هذه فقط نماذج.
تحدث في بقية السور، في بقية الآيات، عن بقية النعيم الذي هم فيه، أنواع أُخرى من النعيم، مثلًا: فيما يتعلق أَيْـضاً بطعامهم، قال في آيةٍ أُخرى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأنفس وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الزخرف: الآية71]، لو أراد الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يأتي بكل التفاصيل عمَّا في الجنة، لاحتاج هذا إلى كتاب كبير جِـدًّا، يصف فيه كُـلّ التفاصيل؛ وإنما يقدم نماذج وإشارات تقدِّم لنا صورة جيدة، صورة كبيرة عن الواقع هناك، الواقع العظيم.
فالحياة هناك مثلما قال في ذلك التعبير الجامع في الآية المباركة: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأنفس وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فيها كُـلّ ما يشتهيه الإنسان من أنواع النعم متوفر، وكذلك ما تلذّه الأعين، فيما يراه الإنسان، فيما يشاهده، فيما يرتاح ويبتهج ويسر لمشاهدته، ويرتاح لمشاهدته، النعيم الواسع، والنعيم العظيم.
مع السلامة، هي دار السلام، من أوصاف الجنة وسمَّاها الله في القرآن الكريم (في سورة يونس): {وَاللَّهُ يَدْعُو إلى دَارِ السَّلَامِ}[يونس: من الآية 25]، السلام من كُـلّ شيء: من كُـلّ الشرور، من كُـلّ المضار، من كُـلّ المنغصات؛ لا مرض، ولا هرم، ولا ألم، ولا حزن، ولا نصب، ولا تعب، ولا هم، ولا غم، ولا ضجر، ولا ملل، الحالة النفسية للإنسان في وسط ذلك النعيم المادي بكل ما فيه: حالة مريحة جِـدًّا على المستوى النفسي.
الحالة في الدنيا تختلف، البعض من الناس قد يكون لديه إمْكَانات مادية، في مستوى معين، ولكن كم يشوبها من المنغصات؟ كم يعاني من الهموم، من المشاكل النفسية، من المنغصات، من الأمور المزعجة… إلى غير ذلك.
أمَّا هناك فمع النعيم المادي المتوفر على أرقى مستوى، كُـلّ شيءٍ فيه على أرقى مستوى: المساكن، المأكولات، المشروبات، عالم الجنة -بنفسه -ليس كحال الدنيا، الكثير من الناس قد يسكن في الصحراء، أَو في منطقة عادية، أَو في قمة جبل معلق، أَو في وضعية هنا أَو هناك، هناك عالم بكله، في شكل الجنة، في واقعها الجغرافي الجذاب جِـدًّا، البهيج، الذي يرتاح فيه الإنسان، كُـلّ ما يراه يُسرّ به، تُسرّ من كُـلّ ما ترى، ترتاح بكل ما تشاهد، كُـلّ الأجواء، وكل المشاهدات، وكل شيءٍ تراه يُدخِل على قلبك السرور والراحة والابتهاج، والحالة النفسية كذلك، لا يتأثر واقعك البدني والنفسي مع طول الوقت، {وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، حياة للأبد، لكن ليس مع هَرَم، ليس مع تغيرٍ تبلى فيه الأجساد، مثلما هو الحال في هذه الدنيا، كلما امتد عمرك، كلما تغير وضع جسدك ونفسك، على المستوى النفسي، على مستوى الحواس، على مستوى القدرات الذهنية والبدنية، تتأثر في الإنسان؛ أمَّا هناك فلا يتأثر شيء في الإنسان، يبقى في نضارة الشباب، وكمال الشباب، وكمال الصحة، يتمتع بذلك للأبد، لا تنقص منه حواسه، ولا قدراته، ولا كُـلّ ما يتمتع به من الصحة، ولا يصيبه المرض أبدًا في أي حالٍ من الأحوال، ولا الهم، ولا الغم، ولا يواجه أي مشاكل، أَو نزاعات، أَو خلافات، أَو توجّـه إليه إساءَات من أحد: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً}[الواقعة: الآية25]، {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً}[الغاشية: الآية11]، في عالم الجنة بكل.
راحة كاملة، سعادة تامة، حياة طيبة مكتملة، وبكل ما تعنيه الكلمة، وللأبد، للأبد، حتى الملل، لا يصابون بالملل، الحياة عندهم، والنعم عندهم: متجددة، الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” أعد لهم أنواع النعيم العجيب: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}[السجدة: من الآية17]، يعني: ما تقر به أعينهم، ما ترتاح به أنفسهم، إذَا كنا نشاهد في هذه الحياة موديلات، تتجدد أنواع من المنتجات المختلفة، في شتى مجالات الحياة، ومتطلبات الحياة، فالله ادخر لهم في عالم الجنة، مما تقر به أعينهم، وترتاح وتسعد به أنفسهم: الأنواع الكثيرة، حياة متجددة، تتجدد فيها أنواع النعيم، فلا يصابون بالملل، ولا الضجر.
وعالم شاسع واسع، يتنقلون فيه، يتاح لهم التنقل في الجنة: {نَـتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ، حَيثُ نَشَاء}[الزمر: من الآية74]، لا يحتاجون إلى معاملات صعبة، معقدة: فيزا، وجواز، وتكاليف السفر، والتعقيدات التي يحتاجها الناس في الدنيا من الانتقال من بلد إلى بلد، من أصعب الأمور -الآن في حياة البشر -مسألة التنقل من بلد إلى بلد، هناك يقولون هم: {نَـتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ، حَيثُ نَشَاء}، وعالم شاسع جِـدًّا، {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرض}[آل عمران: من الآية133]، ليست بقعةً صغيرة، تمل من البقاء الدائم فيها، لا يمكنك أن تذهب إلى هنا، أَو هناك، تتنقل في عالم الجنة، الشاسع والواسع جِـدًّا، أين تشاء من أقطارها، من بُلدانها الواسعة جِـدًّا، إلى مستوى يفوق تخيلنا، يفوق تخيلنا، لا نستطيع أن نتخيل مستوى سعة الجنة، وما فيها، ولا تحتاج إلى عناءٍ على أي شيءٍ فيها، عناء وأنت تحافظ على مزرعتك، أَو بساتينك، مثل هنا في الدنيا، انتباه للوثائق، والبصائر، والأدلة، وإلَّا أتى من ينازعك، وإلَّا الوضع معرض للخطر أن يقتطع أحد عليك شيء، أَو يأتي أحد فيحاول أن يأخذ ما لديك، أَو يزعجك، هناك استقرار في حياتهم، استقرار تام، ليس هناك أي منغصات على الإطلاق.
هذا النعيم يعرضه الله علينا، أعماله هي في وسعنا، هي في طاقتنا، هي أيسر حتى من الأعمال التي يدخل بها الناس النار، طريق النار وصفها الله في القرآن بالعسرى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[اليل: الآية10]، هي العسرى، الأعمال التي أرشدنا الله إليها، ووجهنا إليها، هي لصلاح حالنا في الدنيا، وحياتنا في الدنيا، وكذلك هي لراحتنا وسعادتنا وفوزنا الأبدي في الآخرة، والمسألة في متناول كُـلّ إنسان، لا تتعلق بصنف من الناس دون صنف، يستطيع الفقير جِـدًّا، المعدم، أن يسعى ليكون من أصحاب هذا النعيم العظيم، الذي هو أكبر من كُـلّ ثروةٍ في الدنيا.
واقع أصغر إنسان في الجنة، من حَيثُ الموقع، من حَيثُ النعيم، من حَيثُ الجزاء، يفوق حال أهل الدنيا بكلهم، بكل ما لديهم من إمْكَانات، لا يمتلكون ما يمتلكه من النعيم، من الحياة السعيدة الأبدية، لا يمتلكون أي شيء، موضع سوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، فما الذي يجعلنا نغفل ونتجاهل هذا العرض الإلهي، نتجاهله، نغفل عنه، لا نلتفت إليه، لا نهتم به؟! ما أجمل كلمة الإمام علي “عَلَيهِ السَّلَامُ” عندما قال: ((إِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلَا كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا))، غفلة وتجاهل لأمرٍ عظيم، أمرٍ عظيم! أمر الجنة وما أعد الله فيه عظيمٌ جِـدًّا، مع رضوان الله، مع التكريم المعنوي، الذي هو فوق حتى نعيم الجنة، والإنسان يحس أن ما هو فيه هو برحمة الله وفضله، ورضوانه، قد رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وهم قد رَضُوا عَنْهُ “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، يعبِّر عن رضوان الله، عن محبة الله.
حتى أنواع التكريم في الجنة، ومنها: زيارة الملائكة، وفي الجنة يعاينهم البشر، يشاهدون الملائكة، ويتحدثون إليهم، ويتخاطبون معهم؛ لأَنَّهم هم من يتولون إدارة شؤون عالم الجنة، وكذلك عالم النار، الخزنة، خزنة للجنة، يعني: المعنيون بإدارة شؤونها، وتدبير أمور أهلها، هم مديروها، والمشرفون عليها، والمسؤولون عليها، كذلك حال النار هناك خزنه للنار.
فما الذي يجعل الإنسان يغفل، يُعرِض، يتجاهل، مع أنه إذَا لم تتجه إلى الجنة، فمصيرك الحتمي -والعياذ بالله -هو النار؟! ليست المسألة أنك -مثلًا -يمكن أن يُقال لك: [أنت عُد إلى المنزل]، لا، المسألة أنك إنْ لم تكن إلى الجنة، فأنت إلى النار والعياذ بالله، ليس هناك مكانٌ ثالث، إمَّا أن تعمل عمل الجنة، وإلَّا فأنت تعمل -تلقائيًّا -عمل أهل النار، وأنت إلى النار والعياذ بالله، هذا دافعٌ مهمٌ جِـدًّا للإنسان لأن يسعى لتقوى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن يسعى إلى الأعمال التي هي فوزٌ وفلاحٌ ونجاة.