نص المحاضرة الرمضانية الثانية للسيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ – 2022 م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
نواصل الحديث عن العنوان الأساسي: التقوى، الذي هو الهدف العملي والثمرة العملية من وراء صيام شهر رمضان كفرضٍ عظيم، وركنٍ عظيمٍ ومهمٍ من أركان الإسلام، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: من الآية183].
تحدثنا بالأمس عن أهمية التقوى، وعن بعضٍ من مجالات التقوى، ولأهمية التقوى في القرآن الكريم، فهي العنوان الرئيسي الذي يلي الإيمان، يلي عنوان الإيمان، بعده عنوان التقوى، فنجدها في القرآن الكريم تتكرر، وتتضمن في كثيرٍ أيضاً من المواقع في القرآن الكريم الحديث عن مواصفات المتقين، وعن ثمار ونتائج التقوى في عاجل الدنيا وفي آجل الآخرة، فالحديث عن التقوى في القرآن الكريم حديثٌ واسع، وحديثٌ مفيدٌ ومهمٌ؛ ولذلك نجد أنَّ التقوى ركيزة أساسية تتفرع عنها المواصفات الإيمانية، فالتقوى هي ثمرة الإيمان الواعي ونتاجه، وتتفرع عنها المواصفات الإيمانية التي تجسد التزام الإنسان عملياً في مسيرة حياته في كل مجالات الحياة، فالحديث عنها حديثٌ مهمٌ، واستيعاب ذلك أيضاً هو شيءٌ مهمٌ.
يأتي في القرآن الكريم الحديث عن التقوى، الحديث عن التعريف بها، عن علاماتها، عن مواصفات المتقين، عمَّا يترتب على التقوى من نتائج عظيمة مهمة للإنسان، والعنوان في أساسه بما يعنيه من وقاية الإنسان من الشرور، وقاية الإنسان من الأخطار، وقاية الإنسان من الهلاك، وقاية الإنسان من عذاب الله “سبحانه وتعالى”، هو يدل- بحد ذاته- على أهميته.
من أهم ما يتعلق بالتقوى: أنها أساسٌ لقبول الأعمال الصالحة، لقبول الأعمال الصالحة، الله “سبحانه وتعالى” قال في القرآن الكريم: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: من الآية27]، كلنا نعي وندرك أهمية الأعمال الصالحة؛ لأننا ننال من خلالها رضوان الله “سبحانه وتعالى”، لأننا نحقق لأنفسنا من خلالها الخير في الدنيا والآخرة، ويقترن بذلك ما وعد الله به من الأجر والثواب، وما للأعمال الصالحة من فضلٍ وأثرٍ إيجابيٍ مهمٍ في نفس الإنسان، في واقع حياته، ثم ما يتحقق له من وراء ذلك، وعادةً ما يكون العنوان الرئيسي لذلك هو: عنوان الأجر والثواب، وما نحصل عليه من جانب الله “سبحانه وتعالى” فيما وعد به.
ونجد في القرآن الكريم الحديث عن الوعد الإلهي، الذي يرغِّب الإنسان إلى حدٍ كبير في فعل العمل، وفي القيام بالعمل؛ لأنه يدرك ما سيحصل عليه من خلال ذلك العمل، فالإنسان هو المستفيد من وراء ما يعمل من الأعمال الصالحة؛ أمَّا الله “سبحانه وتعالى” فهو غنيٌ عنا، وغنيٌ عن أعمالنا، وكما يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ}[فصلت: من الآية46]، فالإنسان هو المستفيد، {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}[العنكبوت: من الآية6]، هو المستفيد هو، وهو المحتاج إلى أن يعمل هذه الأعمال التي فيها نجاته، فيها فلاحه، فيها فوزه، فيها ما يتحقق له ما يرغب به ويحتاج إليه من الخير لنفسه في الدنيا والآخرة، وفيها ما يسمو بنفسه، فيها ما يحقق لنفسه الكمال الإنساني، فيها ما يحقق لنفسه على المستوى المعنوي، ما يرغب به، ما يأمله، ما يحتاج إليه، وكذلك الرعاية الإلهية الواسعة، التي تشمل الجوانب المادية والمعنوية، هذا على المستوى الشخصي.
ثم على المستوى المجتمعي، كمجتمعٍ يتحرك على أساسٍ من الإيمان، والتقوى، والعمل الصالح، والسعي لمرضاة الله “سبحانه وتعالى”، وأن تكون له صلته بالله، الصلة الإيمانية التي يحظى من خلالها بمعونة الله، برحمة الله، بتوفيق الله، بالنصر من الله، بالعون من الله، بالرعاية الواسعة الشاملة من الله “سبحانه وتعالى”، فالأعمال الصالحة التي نعملها، والتي عادةً ما نتجه إلى عملها ونحن نؤمِّل ما وراءها من الخير، ما وعد الله به عليها من الثواب، ما يترتب عليها من النتائج، قبولها مرهونٌ بالتقوى، بهذا التأكيد في القرآن الكريم: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
فالإنسان قد يعمل في مسيرة حياته، وبالذات في ظل الانتماء الإسلامي، في ظل انتمائنا للإسلام كمجتمعٍ مسلم، نتجه لفعل الخير هنا وهناك، والكثير من الناس قد يتجه لفعل الخير في مجال معين مثلاً، وقد لا يكون ملتزماً بتقوى الله “سبحانه وتعالى”، قد يكون ممن يصرُّ على الاستمرار في معاصي، في ذنوب، البعض حتى في جرائم معينة، وهو يظن أنه قد فعل هناك البعض من أعمال الخير، من أعمال الإحسان، من الأعمال الصالحة، وأنه سيحظى بالأجر، سيحظى بالثواب، سيحظى بالعفو الإلهي، مع إصراره، ومع استمراره على انتهاك حرمات الله، وتجاوز حدود الله، وإصراره على ذنوب ومعاصي معينة، وهذا كثيراً ما يحصل، وبالذات أنه أحياناً يُسند بثقافةٍ خاطئة، وبمفاهيم خاطئة، تسهل للبعض أن ينحو في مسيرة حياته هذا المنحى، يكتفي بأن يعمل أحياناً الأعمال الصالحة، أن يتحرك في إطار القيام ببعضٍ من الشعائر الدينية والشكليات العملية، ويستمر في اتجاهٍ آخر في أعمال سيئة، أو في مواقف سيئة، في مواقف يخدم بها الباطل، يتجند من خلالها في صف الباطل، يسعى من خلالها لسيطرة الباطل، أو يحمل ولاءات باطلة، ولاءات لأعداء الله، ولاءات لأعداء الإسلام والمسلمين، ارتباطات تخدمهم ضد أمته، ضد دينه، جوانب كثيرة يمكن أن يكون الإنسان من خلالها بعيداً عن التقوى، لا يلتزم بالتقوى، لا يتقي الله “سبحانه وتعالى”، تحدثنا بالأمس عن أن التقوى تشمل الالتزام تجاه ما أمرنا الله به، من مسؤوليات، وأعمال، وما يتصل بذلك، وأيضاً تتعلق بالحذر مما نهى الله “سبحانه وتعالى” عنه، من المناهي والمحرمات، يشمل ذلك الجوانب السلوكية، الجوانب التي تتصل أيضاً بالمواقف، والولاءات… وغير ذلك، لا تتجه فقط تجاه جانبٍ واحد.
الإنسان قد يتحسر كثيراً عندما يكون ممنياً لنفسه بأنه يعمل البعض من الأعمال الصالحة، وأن هذا كافٍ في أن يفوز بما وعد الله به “سبحانه وتعالى” من الخير، والثواب، والجنة، والرضوان، وأنه بذلك قد أمَّن مستقبله الآتي الأبدي عند الله “سبحانه وتعالى”، وقد ضمن لنفسه النجاة، البعض حتى يحمل في نفسه حالة وكأنه من المتأكدين والقاطعين قطعاً بأن تلك الأعمال التي يقوم بها كافية، في أن يحظى بمرضات الله “سبحانه وتعالى”، وبعفوه، وبجنته، فيتعامل على نحوٍ من الاستهتار، والتهاون، واللامبالاة، تجاه ما يصرُّ عليه ويستمر فيه من الأعمال السيئة، وهذه مسألةٌ خطيرة، قد يأتي الإنسان يوم القيامة مفلساً، ليس له رصيدٌ من العمل الصالح، ليس له أي أجر، أي ثواب على ما قدم من أعمال صالحة، لماذا؟ إما لأنها لم تقبل من الأساس، لم تقبل من الأساس، من البداية، أو أنه أحبطها؛ لأنه لم يلتزم بالتقوى، كانت قد قبلت، ثم أتى منه من الأعمال السيئة التي أصرَّ عليها واستمر عليها ما أحبط به عمله ذلك، عمله ذلك من صلاة، من صيام، وأعمال أخرى، البعض حتى قد يكون من ضمن أعماله أعمال تصنف في إطار الجهاد في سبيل الله، أو الإنفاق، أو الإحسان، أو فعل الخير، جوانب كثيرة قد يكون الإنسان أمَّل أن يكون قد حصل- على الأقل- من خلالها هي على الأجر والثواب.
والله “سبحانه وتعالى” يقول في القرآن الكريم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}[الفرقان: الآية23]، هذا أمر رهيب جدًّا، الأعمال التي يعولون عليها أنه ربما يكون لهم من خلالها أجر وثواب وحسنات، أو تكون سبباً لنجاتهم يوم القيامة، لعتق رقابهم من النار، للفوز بما وعد الله به “سبحانه وتعالى” عباده المؤمنين المتقين، ولكنهم يجدون كل تلك الأعمال التي يؤملون أنها ستصنف في عداد الأعمال الصالحة، الأعمال المرضية المقبولة، فيجدونها لا قيمة لها، لا أجر عليها، لا فضل لهم عليها؛ لأنها أحبطت أو لم تقبل من الأساس، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، هباءً كالغبار، كضوء الشمس الذي يدخل من النافذة وفيه ذرات من الغبار، يعني: لا قيمة له، لا أثر له، لا إيجابية له، وفعلاً حتى في واقع الحياة لا إيجابية للعمل الذي لا يقترن مع التقوى، فعلاً لا يترك أثره في نفس الإنسان، في مشاعر الإنسان، وبالتالي في أعمال الإنسان واستقامة أعماله، فالمسألة مهمةٌ جدًّا، هذا من أهم ما يتعلق بالتقوى.
الله “سبحانه وتعالى” أيضاً يضرب لنا مثلاً مهماً في القرآن الكريم عن إحباط العمل، عندما قال “جلَّ شأنه”: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}[البقرة: الآية266]، هذا أيضاً في الإحباط؛ لأن الإنسان إما أنه مصرٌّ على المعاصي، على الذنوب، على الأعمال السيئة، وهو يعلم أنها أعمال سيئة ويصر عليها، فما أتى منه خلال ذلك من الأعمال الصالحة لا يقبل منه.
أو أنه أتبع فيما بعد العمل الصالح، قد كان في مرحلة من المراحل يعمل الأعمال الصالحة، وهو ذلك الإنسان الذي يرجع إلى الله، لا يصر على ذنوبه، على خطيئاته، يتوب منها، يتدارك نفسه من أي زلة، ويرجع إلى الله “سبحانه وتعالى”، لكنه فيما بعد عمل أعمالاً سيئة أصرَّ عليها، وأحبط بها كل أعماله تلك، وقد تكون المسألة خطيرة عندما تكون مثلاً إحباطاً لأعمال عظيمة، أجرها كبير، فضلها عظيم، مثلاً: الجهاد في سبيل الله، فعل الخير بكله مجالات الإحسان الواسعة، التي تقدم فيها الخدمة للناس من حولك بنيةٍ صادقةٍ وطيبةٍ ومخلصةٍ لله “سبحانه وتعالى”، ووفق التعليمات الإلهية، فالمسألة تكون خطيرة على الإنسان.
أو مثلاً بعد عمرٍ طويل، عمرٍ طويل من الأعمال الصالحة، والتوبة، والرجوع إلى الله، فإذا بالإنسان في مرحلة من المراحل يتجه اتجاهاً آخر من أجل هوى النفس، والبعض أيضاً من أجل هوى النفس إما في رغباتها وشهواتها، وإما فيما يتعلق بحالة الغضب لدى الإنسان والانفعال، أو بحالة المخاوف التي تؤثر على البعض من الناس، فتدفعهم نحو الانحراف.
أيضاً عندما لا يأتي العمل الصالح بنفسه طبقاً لتعليمات الله “سبحانه وتعالى”، العمل الصالح يرتبط بالتوجيهات الإلهية، في أصله، وفي كيفيته، أن تعمله وفق توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، وتعليماته “سبحانه وتعالى”، مطابقاً لأمر الله وتوجيهاته، وقد لا يقبل منك أصلاً؛ لأنه شابه من الخلل، شابه من المخالفات ما أحبطه، فتكون يوم القيامة من المتحسرين، من النادمين، عندما تجد أن تلك الأعمال التي أمّلت أن تكون مقبولةً منك أنك ستؤجر عليها، لم تؤجر عليها، ولم تحسب لك، لم تحسب لك في عداد أعمالك الصالحة، فهذه مسألةٌ مهمةٌ جدًّا تبين لنا أهمية التقوى، كما قال الله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
أيضاً يتجلى من خلال التقوى قيمة التوجيهات الإلهية، وأهميتها، وفائدتها، توجيهات الله “سبحانه وتعالى” وأوامره لنا ونواهيه، هي كلها لمصلحتنا نحن، فوائدها لنا، ما أمرنا الله به؛ ففيه الخير لنا، ويتحقق لنا من خلاله نتائج مهمة، ومصالح حقيقية، وما نهانا عنه؛ ففيه ضرٌ علينا، شرٌ علينا، مخاطر علينا، وأضراره ونتائجه السيئة هي تؤثِّر علينا نحن؛ أمَّا الله “سبحانه وتعالى” فلن نضره بشيءٍ من أعمالنا السيئة.
فعندما نلتزم بالتقوى، فنعمل ما أمرنا الله به، ننهض بمسؤولياتنا التي حمَّلنا الله إياها، فنحن سنرى قيمة ذلك، أثره، نتائجه في مسيرة حياتنا، في واقع حياتنا، في كل المجالات، يعني: توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، توجيهات الله التي تتعلق بالجوانب الاقتصادية في حياتنا، ستظهر آثارها ونتائجها في الواقع الاقتصادي في حياتنا، وفي معيشتنا، وتأتينا مع ذلك البركات والخيرات؛ لأن لها ثمرة مباشرة، إيجابية مباشرة لكل توجيه من توجيهات الله، لكل أمرٍ من أوامر الله، له أثر جيد مباشر، وله نتيجة أيضاً إضافية فيما يأتي من الله “سبحانه وتعالى” من البركات والخيرات، وما يتحقق به للإنسان على المستوى الشخصي وللمجتمع الذي يتحرك وفق توجيهات الله كمجتمع، وهذا ما نلحظ أهميته تجاه كثيرٍ من الأمور التي فرَّط فيها مجتمعنا المسلم، فكان لتفريطه فيها الآثار السيئة، والخسائر الكبيرة في واقع مجتمعنا المسلم.
عندما نأتي مثلاً إلى ما أمر الله به من توحد المسلمين، من اجتماع كلمتهم، من الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، من السعي لإقامة القسط، وإقامة العدل، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا المسؤوليات الجماعية: من التعاون على البر والتقوى، أن يكونوا مجتمعاً يسوده الحق، ويسوده العدل، يسوده الخير، أن يكونوا أمةً تدعوا إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، عندما فرَّطوا في هذه المسؤوليات الجماعية المهمة والكبيرة، فرَّطوا في الجهاد في سبيل الله، وفرَّطوا في أن يعدوا ما يستطيعون من القوة، أن يبنوا أنفسهم كأمةٍ قوية، كما قال الله لهم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، كم كانت الخسائر الكبيرة لمجتمعنا المسلم، خسائر رهيبة جدًّا، حوَّلت واقع هذه الأمة إلى واقعٍ ضعيف، يسوده الضعف، تسوده الفرقة، يسوده الشتات؛ وبالتالي يتمكن أعداؤها من الإضعاف لها أكثر، من السيطرة عليها، من المؤامرة عليها، من الظلم لها، من الاضطهاد لها، من الاختراق لها.
عندما نجد جوانب كثيرة تتعلق بالسعي لأن تكون هذه الأمة أمةً مهتدية، مستنيرة، مستبصرة، واعية، على هدىً من الله، مهتديةً بآيات الله، تمتلك من خلال نور الله الوعي الكبير والكافي، تتحصن بالهدى تجاه كل أشكال الضلال والباطل، عندما فرَّطت في ذلك؛ كيف كانت الآثار السيئة والرهيبة في انعدام حالة الوعي لدى الكثير من أبناء مجتمعنا المسلم، وكان لذلك آثار خطيرة ونتائج خطيرة جدًّا على واقع أمتنا بشكلٍ عام.
ولكن لأن الله “سبحانه وتعالى” هو أرحم الراحمين، فالمسألة لا ترتبط دائماً بالجانب الجماعي للأمة بكلها، يعني: الوعد الإلهي فيما يتعلق بالتقوى، ونتائجها، وثمارها الطيِّبة، لا يتوقف على أن تستجيب الأمة كل الأمة، من كل أبنائها، من كل مناطقها وبلدانها، إذا تحرَّكت من داخل الأمة ولو أمة، بل حتى على المستوى الشخصي، هناك ثمار ونتائج طيِّبة، لكن هناك بالتأكيد مسؤوليات جماعية، تأتي النتيجة فيها على المستوى الجماعي، فإذا تحرَّكت أمة، أو مجتمع معين من داخل الأمة، فهو بالتأكيد سيحصل على ما وعد الله به “سبحانه وتعالى”.
مما في القرآن الكريم مما يتحدث عن عظمة التقوى، عن ايجابياتها فيما يتحقق بها للإنسان من رعايةٍ إلهية عجيبة، ويتحقق بها للمجتمع كمجتمع، المجتمع الذي يستجيب، يتقي الله “سبحانه وتعالى” في التزاماته العملية، في مواقفه، في ولاءاته، في نهوضه بمسؤولياته، في استجابته الكاملة لله “سبحانه وتعالى”، ماذا يترتب على ذلك؟ يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق: 2-3]، هذه الآية المباركة من أهم الآيات التي تبين لنا عظمة التقوى، بل أنها تقدِّم ما هو مغرٍ جدًّا، وجذَّاب إلى حدٍ كبير، يجذبنا نحو تقوى الله “سبحانه وتعالى”، فقد تضمنت وعداً من الله “سبحانه وتعالى”، وهو الذي لا يخلف وعده، وعداً عظيماً، وعداً مهماً: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ}، هذا على المستوى الشخصي وعلى المستوى الجماعي، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} أي شخص، وكذلك أي مجتمع، أي أمة تتجه على هذا الأساس: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ}، يتق الله في التزاماته العملية، يتق الله فيما يعمل، يتق الله فيما يقول، يتق الله في النهوض بمسؤولياته، يتق الله فيلتزم بأوامر الله “سبحانه وتعالى”، يتق الله فيجتنب المحرمات، لا يعتمد على ما نهى الله “سبحانه وتعالى” عنه، ويرى أنه من خلاله سيتوصل إلى ما يبتغيه لنفسه، إلى ما يريده لنفسه، فيرى فيه وسيلة العمل التي تحقق أهدافه، أو تحقق رغباته، يحذر من ذلك، فيتقي الله، ويتجه وفق أوامر الله “سبحانه وتعالى”، من منطلق الثقة بالله، أنَّ الله لن يخذله، لن يتركه، أنَّ الله سيحقق له النتائج التي وعد بها، سيفي بوعده له.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، مخرجاً من كل ضيق؛ لأنه في مسيرة الحياة قد تضيق بك الأمور، قد تتصعب عليك الأمور من جوانب كثيرة، تتعقد الأمور على المستوى المعيشي مثلاً، تعيش ظروفاً صعبة، ولكن لتطمئن أنها مرحلية، أو على مستوى أوسع، مثلما هو حال تقوى الله “سبحانه وتعالى” في النهوض بمسؤولية الجهاد في سبيل الله، والسعي للتحرر من سيطرة أعداء الله، والسعي للاستقلال كأمةٍ مؤمنةٍ، تتحرك وفق توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، فيتكالب عليها الأعداء بالعدوان، والحصار، والمؤامرات الكثيرة، فينتج عن ذلك كثير من المتاعب، والظروف الصعبة، والتحديات الكبيرة، وتضيق الأمور على المستوى المعيشي، على المستوى الاقتصادي، وتتعقد على المستوى الميداني، فتجد الأمة نفسها في وضعيةٍ صعبة، تقدِّم الشهداء، تعاني، لها جرحى، تعاني من الحصار، تعاني من الضائقة في المعيشة، فالبعض قد يتأثر نتيجةً لذلك، ويصل إلى حالة اليأس، وانعدام الأمل، وكأن المسألة تستمر على ذلك النحو بلا نهاية، وكأنه ليس هناك أي إنفراجه تأتي، فهذا على المستوى الجماعي.
وأحياناً حتى على المستوى الشخصي، البعض من الناس تجربته العملية فيما يعانيه، وهو يتجه اتجاه الحق، يتجه على أساس تقوى الله “سبحانه وتعالى” في مواقفه، في التزاماته، في أعماله، في تصرفاته، حتى في شؤون معيشته، وفي بيعه وشرائه، وقد يتصور أنَّ البعض الآخر يتوصلون من خلال انفلاتهم، وعدم التزامهم، وتلعباتهم، وأساليبهم السيئة، وأساليبهم التي هي معصية لله “سبحانه وتعالى”، وخروجٌ عن التقوى، أنهم يتوصلون إلى تحقيق نجاحات لشؤونهم المعيشية، ولظروف حياتهم، فقد يضيق، وتضيق حاله، وتضيق نفسه، ويستاء، ويفقد الأمل، ثم قد يدفعه ذلك إلى ألَّا يصبر، ألَّا يواصل التزامه ومشواره على أساسٍ من تقوى الله “سبحانه وتعالى”، وهذا قد يدفع به إلى أن يتجه لفعل ما يفعله الآخرون؛ فيخسر في نهاية المطاف.
في طريق الحق تحصل المعاناة، لا نتوقع أنها لا تحصل، ولكنها معاناة يترافق معها يسر، كما قال الله “سبحانه وتعالى”: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح: 5-6]، ويكون لها في نفس الوقت آثار إيجابية حتى على المستوى التربوي.
طريق الحق هي طريقٌ يسلك فيها الإنسان مشوار حياته ومسيرة حياته وفق تعليمات الله “سبحانه وتعالى”، ونحن في هذه الدنيا في دار الاختبار، في ميدان مسؤولية، لسنا في عالم الجنة، الذي هو عالمٌ كله راحة، ليس فيه أي منغصات، ليست فيه أي متاعب، ليست فيه أي معاناة، ليست فيه أي مشاق، ولا نتوقع عن الحالة الإيمانية وحالة التقوى أنها حالةٌ يسير فيها الإنسان مدللاً، تكون طريقة الرعاية الإلهية له ألَّا يحصل له أي معاناة، ولا أي مشاق، ولا أي متاعب، ولا يواجه أية مخاطر، ولا… لو كانت الأمور على هذا النحو؛ لكان كل الناس متقين، ومؤمنين، وصالحين، لو كانت المسألة مسألة دلال، رعاية فيها دلال، لا يحصل للإنسان أي معاناة على الإطلاق، ولا يواجه أي مخاطر، ولا يواجه أي شدائد، بل تتحقق الآمال والرغبات على أعلى مستوى من دون أي تعب، ولا أي تضحية، ولا أي مشاق، ولا أية مخاطر؛ لكان كل الناس متقين، لكان كل الناس متقين، يتجهون للتقوى، والإيمان، والعمل الصالح.
نحن في هذه الحياة في ميدان مسؤولية، في ميدان اختبار، وتحصل المشاق، وتحصل المتاعب بشكل اعتيادي في حياة الناس، حتى في كل مجالات حياتهم، وعادةً ما يكون المهم لدى الإنسان هو ما وراء ذلك من نتائج، فمثلاً: عندما نأتي إلى الفلاحين (المزارعين)، هو يدرك أنَّ الزراعة، وأنَّ الفلاحة، وأنَّ العمل في الزراعة فيه متاعب، فيه مشاق، لكنه ينظر إلى النتيجة، إلى ما يتحقق له من وراء هذا المجهود، إلى ما تثمره هذه المتاعب، ما يحصل عليه من وراء ذلك، فيستطيب متاعبه؛ لأنها متاعب مثمرة، ويستطيب جهوده، بل يفتخر بجهوده، أنها جهود أنجزت، حققت نتائج، كان لها ثمرة مهمة، ويرتاح بذلك، حتى وهو يعمل، حتى وهو يتعب، حتى وهو يعاني، حتى وهو يتصدى للمشاق، هو يتذكر، يتذكر- من خلال أحياناً تجارب ماضية- ما قد تحقق له، ما قد نتج نتيجةً لذلك؛ فيزداد عزماً، وعندما يصل إلى النتيجة المرجوة؛ يرتاح، يشعر بالراحة، التاجر… الناس في مختلف مجالات حياتهم وأعمالهم، عادةً ما يتجهون على هذا الأساس.
فكذلك في مسيرة العمل الصالح والإيمان والتقوى، ما يحصل من مشاق، أو متاعب، أو مخاطر معينة، يكسب الإنسان من ورائها ما يهوِّنها، ما يبسِّطها، ويأتي حتى معها اليسر من الله “سبحانه وتعالى” كما وعد، الآثار الإيجابية، لكن مع توطين النفس على الصبر، مع العزم على الاستمرارية، ثم يأتي من الله “سبحانه وتعالى” التدخل الكبير والرعاية الواسعة في نهاية المطاف، فتنفرج الأمور، وانفراجات كبيرة.
فالصعوبات مرحلية، مع الأعمال هي صعوبات مرحلية، يعقبها انفراجات، يعقبها من الله “سبحانه وتعالى” ما يحقق به النتائج العظيمة، والآثار الطيبة، وإذا قارنا في طريق الحق، في طريق الإيمان والتقوى ما فيها من مشاق وصعوبات، مع البديل الآخر، الذي هو اتجاه بعيداً عن التقوى، الاتجاه البعيد عن التقوى فيه صعوبات، فيه مخاطر، فيه عسر، فيه خسائر كبيرة، فيه أسوأ وأقسى وأشد عناءً مما في طريق الإيمان والتقوى، وعواقبه الخسران المبين، عاقبته في الآخرة جهنم، عواقبه في الدنيا الخسران.
الله “سبحانه وتعالى” سمَّى طريقه باليسرى، {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل: الآية7]، هي اليسرى مقارنةً بالطريق الآخر، الطريق المنحرف عن الإيمان والتقوى والعمل الصالح، والاستقامة وفق منهج الله “سبحانه وتعالى”، الطريق الآخر سمَّاه بالعسرى، فمسألة المشاق والصعوبات والمتاعب تحصل، وهي مرحلة، وأحياناً يكون فيها أيضاً أسباب لتقصير معين، الإنسان مثلاً يتجه على أساسٍ من الإيمان والتقوى، ولكنه يقصر في بعض الأمور، يقصر في مستوى الأداء، في مستوى الاهتمام، في مستوى الالتزام، فيكون لتقصيره ذلك أيضاً آثار سلبية تؤثر عليه نوعاً ما، أو أحياناً حتى في الموقف الواحد، يقصر الناس، يحصل بعض من الشدائد، من المعاناة، لكن مع التزام التقوى والإيمان تنفرج، هذا وعدٌ إلهيٌ عظيم: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق: من الآية2]، مهما ضاقت بك الأمور، مهما تعقدت، مهما اشدت الصعوبات، فهي ستنفرج حتماً، فلينطلق الإنسان بثقة، فلينطلق بثقة واطمئنان، وليسعى إلى أن يحقق في واقعه التقوى على المستوى الكامل؛ لأن القصور أحياناً يسهم في المزيد من الضيق.
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[الطلاق: من الآية3]، هاجس الرزق يأتي أحياناً كهاجس كبير، الهاجس المعيشي والمعاناة المعيشية تؤثر على الناس، وتضغط على الناس، وهمها يقلق الكثير من الناس فيبعده عن التقوى:
-
التقوى في موقف: أن يقف موقف الحق الذي يرضي الله “سبحانه وتعالى”.
-
أو على مستوى المعاملات: التقوى في المعاملات، حتى في معاملات البيع والشراء، والأعمال المعيشية والاقتصادية.
-
أو على المستوى السلوكي بشكلٍ عام: فيؤثر على الإنسان إما مخاوفه، وإما أطماعه، قلقه على مسألة الرزق، ضغط الحالة المعيشية على نفسه، على واقعه، وأيضاً الأطماع لدى البعض، التي تدفع بهم إلى أن يتجاوزوا، إلى أن يقفوا موقف الباطل، إلى أن يخونوا الحق، إلى أن يتجهوا الاتجاهات الباطلة، إلى أن يعملوا الأعمال السيئة، إلى أن يغشوا في معاملاتهم، إلى أن ينهبوا الحرام، أن يأخذوا الحرام… إلى غير ذلك.