نص المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 13/رمضان/1444هــ
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
في سياق الحديث عن خطر الشيطان، وسعيه للتأثير على الإنسان، وعدائه الشديد للإنسان، وما تحدث عنه القرآن الكريم فيما يتعلق بذلك، تحدثنا عن بعض النقاط فيما يتعلق بهذا الموضوع، وكان من آخرها في محاضرة الأمس: الحديث عن اتساع نشاطه عبر ذريته، وعبر قبيله، وعبر جنوده وأعوانه، وأنه لم يعد يتحرك بمفرده في الاستهداف للإنسان، بهدف إغوائه وإضلاله، وتوريطه في المعاصي والجرائم والموبقات، بل يتحرك من خلال شبكاتٍ واسعة، بما في ذلك متخصصون من الجن، من شياطين الجن، متخصصون بحسب المجالات:
-
من يتخصص لإثارة الشر والفتن بين بني آدم.
-
من يتخصص فيما يتعلق بالفساد الأخلاقي.
-
من يتخصص فيما يتعلق بالإضلال الثقافي والفكري.
وهكذا، من يتخصص في المجالات الأخرى، بحسب مجالات الحياة.
دائرة الاتساع للنشاط الشيطاني، اتجهت في وسط الإنس، بحيث تَشَيْطَنَ البعضُ من الإنس، تحولوا إلى شياطين، وهذه حالةٌ مستمرةٌ في واقع البشر عبر الأجيال، أنَّ منهم من يتحول إلى شيطان تمامًا، ولو أنه من الإنس، هو شيطانٌ في صورة إنسان، وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة، وموارد متعددة، منها قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}[الأنعام: 112-113].
في هذه الآية المباركة، يبين الله لنا أن أعداء الأنبياء، الذين حاربوا الأنبياء، حاربوا الرسالة الإلهية، في كل ما تدعو إليه: من الاستقامة، من الصلاح، من الزكاء، من الخير، من المعروف، من الطاعة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وما تُحذر منه: من الفحشاء، والمنكرات، والفساد، والبغي، والظلم، والعدوان، وبقيت المنكرات، مَن تصدوا لمحاربتها هم من؟ شياطين، شياطين من الجن ومن الإنس، يتعاونون في أداء مهمتهم في المحاربة للرسالة الإلهية، والسعي لإعاقة انتشارها في أوساط الناس، والسعي لإبعاد الناس، عن الاستجابة لها، الاستجابة للرسالة الإلهية، والاستجابة للرسل والأنبياء، بشكلٍ عام، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ}، فما من نبيٍّ إلَّا وواجهه أعداء، وواجه مساعيه لهداية الناس، لإصلاحهم، للإنقاذ لهم، للسعي بهم نحو الفلاح، نحو الخير، نحو ما يرضي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفيه عاقبتهم الحسنة: الفوز بالجنة، والنجاة من النار، فالأعداء لهم- من شياطين الإنس والجن- يُغيظهم ذلك، فالشيطان يُغيظه أي نشاط لإنقاذ الناس منه، لحماية الناس من تأثيره، للحفاظ على الناس، والدفع بهم نحو ما فيه نجاتهم، ما فيه فوزهم وفلاحهم، ما فيه خلاصهم، من الشقاء والضلال، والعذاب الأبدي، هو يريد أن يعمل في وضعٍ بدون تعقيدات، بدون إعاقة، ألَّا يكون هناك ما يؤثر على نشاطه الشيطاني، في الإغواء، في الإضلال، في الإفساد، في الاتجاه بالناس نحو هلاكهم وشقائهم وعذابهم.
عمل الأنبياء، والعمل الذي هو امتدادٌ له، للسعي لهداية الناس، والإنقاذ لهم، والسعي للدفع بهم نحو فلاحهم، ونجاتهم، وفوزهم، وما يحقق لهم الفوز العظيم في الآخرة، هو عملٌ يُغيظ الشيطان، يُقلقه، يزعجه، يرى أنه يُفشل عليه مهمته، أنه يَحُدّ من تأثيره؛ لأنه حريصٌ على أن يهلك أكبر قدر ممكن من الناس، وفي قَسَمِه، أقسم: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[ص: 82-83]، استثناء القِلَّة القليلة جدًّا، ممن يدرك أنه لا يستطيع أن يؤثر عليهم أبدًا، وأن يجرّهم إلى الهلاك والضلال، والعصيان لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أبدًا، قال: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ}[الإسراء: 62]، يعني ذرية آدم، {إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء: من الآية62]، فهو يسعى لهلاك الأغلبية الساحقة من البشر، ولا يستثني إلا من يعجز فيه، من يعجز عنه، من يعجز عن التأثير عليه؛ ولذلك هو يقلق من مساعي الأنبياء، وأي عمل هو في إطار وفي سياق عملهم لهداية الناس، هو امتداد لعملهم، امتداد لهداية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وكتابه، وكتبه إلى عباده، في السعي لإنقاذهم، والعمل على نجاتهم، ولذلك يعادون الأنبياء، يعادون أولياء الله، ويغتاظون منهم، ويقلقون منهم، في الآثار، في الأخبار وفي الروايات ما يُفيد الكثير من التفاصيل المتعلقة بذلك.
في الرواية: أنه لما بُعِثَ رسول الله محمد “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ” قلق الشيطان، عندما عرف بالمسألة، وحَزِن، حَزِن كثيرًا، وغاضه ذلك، وقلق من ذلك قلقًا كبيرًا، وَرَنَّ، يعني حُزن عبَّر عنه تعبيرًا معينًا، فلماذا؟ لأنه يرى أن رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، في عمله لهداية البشر، في سعيه للإنقاذ لهم، وهو الذي قال له الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: من الآية107] ، سيحد من تأثيره، في الوقت الذي كان الجو فيه، والوضع فيه بشكلٍ عام، قد تهيأ له كثيرًا- في زمن الجاهلية- للإغواء للمجتمع البشري، والإضلال له، والإفساد له، والإمعان في الاتجاه به نحو الهلاك، والإبعاد له بشكلٍ كبير- إلى درجة عجيبة- عن الهدى، وعن الحق، الإبعاد للناس، قد ضلوا ضلالًا بعيدا، فهم يتحركون سويًّا للتعاون، ما بين شياطين الإنس وشياطين الجن.
شيطان الجن- وفي المقدمة كبيرهم إبليس لعنه الله- لا يستطيع أن يمنع الرسل والأنبياء من الحركة، وسعيه في إعاقة نشاطهم وتأثيرهم في الناس هو من خلال الوسوسة للناس، ولذلك يشعر بالحاجة إلى أن يكون بينه تعاون وبين مَن يغويهم من البشر، إلى درجة أن يتحولوا إلى شياطين.
متى يتحول الإنسان إلى شيطان؟ الإنسان يتحول إلى شيطان عندما يفقد عناصر الخير في نفسه، يخسر زكاء نفسه، يبتعد بعدًا كبيرًا عن الخير والزكاء والصلاح، ويخبث، تخبث نفسه، يتراكم الخبث فيها، ويزداد، وتفسد نفسيته، حتى يتحول- هو- إلى عنصرٍ مُضِلٍّ، أو مُضِلٍّ ومفسد، يتحرك هو ليُفسد الآخرين، لم يعد شيطان الجن بحاجة إلى أن يؤثر عليه، ليدفع به نحو الفساد، أو ليدفع به نحو الضلال، هو- بنفسه- قد فسدت نفسه، وخبثت نفسه إلى حدٍ بعيد، وتحول هو بنفسه إلى السعي للإيقاع بالآخرين، لإفسادهم، لإضلالهم؛ أمَّا هو فقد أصبح فاسدًا بشكلٍ تام، خبيث النفس بشكلٍ تام، لم يعد الشيطان- الجني- بحاجة إلى أن يُتعب نفسه عليه، وأن يوسوس له، أصبح جاهزًا، يتجه تلقائيًا، بخبث نفسه، بفساد نفسه الرهيب، بموت ضميره، بالتأثيرات السيئة، التي قد طغت على تفكيره واتجاهاته، فهذه الحالة يتحول فيها الإنسان إلى شيطان، ويختلف الحال في أوساط الناس، بمستوى خبثهم، وبمستوى فسادهم، وبمستوى طاقاتهم وقدراتهم، التي يوظفونها في عملهم السيء لخدمة الشيطان، للإغواء، للإفساد، للإضلال؛ لأن الناس يتفاوتون، حتى في مستوى قدراتهم، وخبراتهم، ومستوى قدرتهم على التأثير في الآخرين، وطاقاتهم، وما يمتلكونه من مواهب وقدرات.
الإنسان الذي خبثت نفسه، وفسدت، ووصل إلى درجة أن يتحول إلى شيطان، يسعى هو دائمًا لإغواء الآخرين، أو لإفسادهم وإضلالهم، هو يوظف كل قدراته وطاقاته، وتأثيره، إذا كان صاحب نفوذ وتأثير في المجتمع، إذا كان في موقع وجاهة اجتماعية، أو في موقع مسؤولية معينة، أو في مستوى، أو في مجال معين، له فيه تأثير معين؛ فهو يوظف تأثيره ونفوذه في أداء تلك المهمة الشيطانية، في تلك الحالة يصبح بينهم تعاونٌ مشترك، ما بين شياطين الإنس وشياطين الجن، ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}[الأنعام: من الآية112].
التعاون المشترك بين شياطين الإنس وشياطين الجن: هو تبادل الآراء، تبادل الخبرات، فيما يتعلق بالخطط، فيما يتعلق بالأفكار، فيما يتعلق بالمؤامرات، التي تُعتمد في الإغواء للآخرين، والتأثير على الآخرين.
والإنسان إذا وصل إلى درجة أن يتحول إلى شيطان- والعياذ بالله- يصبح مهيًّأ لتقبل الوساوس من شياطين الجن، والانسجام معها، والتحرك بها، فهو إلى جانب خبراته، ومهاراته، وقدراته، التي هو مستفيدٌ منها، أو هي متوفرةٌ، هي متوفرةٌ له كإنسان، يتلقى المزيد أيضًا من وساوس الجن، والذي عبَّر عنه القرآن الكريم بهذا التعبير: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ}، في ما يستطيع من خلاله أن يغوي به الآخرين، {زُخْرُفَ الْقَوْلِ}، القول المزخرف، المزين، الذي يخادع به الآخرين، الذي يؤثر به على الآخرين، الذي يصور لهم من خلاله أنه يدفع بهم إلى مصلحتهم، أو يغريهم من خلاله، بما تتفاعل معه شهواتهم ورغباتهم، فيتحركون على أساس ذلك.
من غير المستبعَد أيضًا أن بعض الشياطين من الإنس، يستفيد منه أيضًا بعض شياطين الجن؛ لأن بعض شياطين الإنس قد يكون أكثر مهارةً في الإغواء والإضلال، والتأثير السلبي، من بعض شياطين الجن، وخاصةً أن البعض من شياطين الإنس يكون له نفوذ في أوساط الناس، إمَّا بمنصب معين، أو بصفة معينة، أو بموقع معين، أو بأي شكلٍ من الأشكال؛ مما يساعده على التأثير أكثر، والبعض في مستوى ذكائه، في مستوى تجربته في الحياة، معايشته للناس، معرفته القوية بالمجتمع، معرفته ببيئته ومحيطه القريب منه، تساعده على أن يكون أكثر تأثيرًا في الإغواء والإضلال من الكثير من شياطين الجن، فيصبح هو أيضًا ممن يستفيد منه شياطين الجن، ومن تجربته، التي اتضح أثرها في الواقع، في أماكن أخرى، وفي مناطق أخرى، وتجاه أشخاص آخرين، وهم يسعون للإيقاع بذلك الإنسان، أو ذلك الإنسان، أو التأثير على ذلك الإنسان، وهكذا.
فنشاطهم أصبح نشاطًا مشتركًا، وأصبح بينهم هذا التعاون، الذي هو تبادل الآراء، تبادل الخبرات فيما يتعلق بالخطط، بالمؤامرات، من خلال الوساوس واكتساب المهارات من بعضهم البعض.
{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}[الأنعام: الآية113]، تميل إليه أفئدة الذين لم يتحصنوا بالإيمان الصادق.
الإيمان بالآخرة، الإيمان الصادق الذي يجعلك تذعن لله، تتخلص- تمامًا- من كل المؤثرات النفسية، مؤثرات الهوى، التي تنحرف بك؛ لأن الشيطان يقوى تأثيره عليك عندما تميل أنت، عندما تتأثر أنت سلبًا، عندما تنحرف أنت يزيدك انحرافًا، عندما تتأثر تأثيرًا سيئًا يزيدُك، لكن عندما يكون إيمانك بالآخرة على النحو الذي يخضعك لله تمامًا، فوق كل أهواء نفسك، في الطموحات المعنوية، أو الطموحات المادية، أو أيٍّ من المؤثرات، تختلف أحوال الناس، البعض قد لا تؤثر فيهم الميول المادية والأطماع المادية، ولا حتى الشهوات المتعلقة- مثلًا- بالجوانب الأخلاقية، أو بالفساد الأخلاقي، أو بمتع الحياة من ذلك القبيل، ولكن هناك جوانب معنوية تؤثر فيهم، طموحات معنوية تؤثر فيهم، وتنحرف بهم، وفيهم عقدة الكبر، أو عقدة العُجب، أو عقدة الغرور، أو أي عوامل أخرى، تؤثر فيهم حتى مع احتفاظهم بالجانب الديني، في الشعائر الدينية، في طبيعة التوجهات الدينية، ولكن عنده مشكلة خطيرة جدًّا، والشيطان يهمّه أن تنحرف بأي شكلٍ كان:
-
أردت أن تكون إنسانًا ماجنًا، تافهًا، فاسقًا، فاجرًا؛ هذا يعجبه.
-
أردت أن تكون إنسانًا طماعًا، لاهثًا وراء المال بأي ثمن، بأي شكل، بأي طريقةٍ، بحرام، بمعاصي، بفساد، بظلم؛ هذا يعجبه.
-
أردت أن تكون بشكل متدين، عندك عقدة العُجب والغرور والكِبر؛ هذا يعجبه.