نص المحاضرة الرمضانية الثالثة والعشرون للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 25 رمضان 1444 هجرية
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
تحدثنا عن:
-
نعمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على الإنسان، بنعمة البيان والنطق، والتحدث والتعبير باللسان، وما يتبع ذلك أيضًا من الكتابة.
-
وأهمية هذه النعمة في حياة الإنسان، ودورها الواسع في مختلف شؤون حياته، وكيف أنها تقوم عليها معاملات الناس، وتجري عليها شؤون حياتهم، في مختلف أمورهم.
-
ثم الرقابة الإلهية على الإنسان في استخدام هذه النعمة.
-
وأيضًا كيف أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أتاح للإنسان استخدام هذه النعمة في مجالاتٍ مهمةٍ جدًّا، لها أهميتها الكبيرة على المستوى الإيماني، وفي التعامل مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أتاح لك، وأذن لك- كإنسان- أن تستخدم هذه النعمة في التعامل معه هو، في العلاقة معه “جَلَّ شَأنُهُ”، أن تتوجه إليه، من خلال الحديث معه من موقع العبودية، أنت كعبد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، تذكره، تدعوه، تناجيه، تتضرع إليه، تسأله ما تريد، ما تحتاج إليه، وهكذا، على نطاقٍ واسع، وهذه نعمةٌ كبيرةٌ جدًّا.
من مجالات الاستخدام الإيماني ذات الأهمية الكبيرة، والتي قد يكون لها صلة أساسية بما ورد في الحديث النبوي: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أنها تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه))، مما له علاقةٌ مهمةٌ بهذا الجانب: هو استخدام هذه النعمة في الجوانب الإيمانية.
الجانب الإيماني جزءٌ أساسيٌ منه يتعلق بكلامنا (بما نقوله)، فالإيمان في نفسه:
-
جزءٌ منه يتعلق بعقيدة الإنسان، وإيمانه بقلبه.
-
وجزءٌ منه يعود إلى الممارسة العملية، والتزامه العملي.
-
وجزءٌ أساسيٌ متصلٌ بإيمانه بقلبه، وإيمانه في التزامه العملي، هو يتعلق باللسان، إقراره بلسانه، تعبيره بلسانه.
جزءٌ أساسيٌ من إيماننا، ومساحة كبيرة في الجانب الإيماني، تعود إلى مسؤوليات الإنسان، فيما يقول، فيما يُعَبَّر عنه، فيما يتحدث به، وسنتحدث عن بعضٍ من التفاصيل في ذلك.
عندما نتأمل في هذا الجانب، نجد الأهمية الكبيرة للكلام، ولما يقوله الإنسان، مع الربط بينه وبين جانب العقيدة، وما هو في مكنون نفسه، في ذات صدره، في عقيدته، في قلبه، وأيضًا فيما يتصل بالجانب العملي؛ لأن هناك تلازمٌ في الواقع الإيماني بين هذه الثلاثة المجالات:
-
إيمانك بقلبك.
-
إيمانك بلسانك.
-
إيمانك في التزامك العملي.
-
في بداية العناوين، هو النطق بالشهادتين:
أنت بانتمائك للإسلام، تشهد بالشهادتين: (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُوْلُه)، ويتكرر هذا الأمر، في صلاتنا، في أذكارنا، في أذاننا، في تلاوتنا للقرآن الكريم، في مقامات ومواقف، في أشياء كثيرة، وله أهميته الكبيرة جدًّا، ويفترض أن يكون منطلِقًا من:
-
قناعة إيمانية راسخة في نفس الإنسان، من اعتقادٍ جازمٍ وصحيح.
-
وأيضًا أن يرتبط به التوجه العملي، والالتزام العملي، والممارسة العملية.
نجد لهذا أهميةً كبيرةً؛ باعتباره ضروري وأساسي في التزامنا وانتمائنا الإيماني، وأيضًا يُعَبَّر عن أهمية كبيرة لهذا الجانب، فميزان الشهادتين ميزانٌ عظيم، عندما تنطلق من إيمان صادق، من اعتقاد إيماني في نفس الإنسان، وارتبط بذلك أيضًا التوجه العملي.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت: الآية33]، فنحن نُعَبِّر عن انتمائنا للإسلام، ونؤكد على هذا الانتماء، ونتحرك على أساس هذا الانتماء: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}[البقرة: من الآية136].
-
تحدث أيضًا عن قصة إيمان من آمنوا (النجاشي وأصحابه)، عندما قالوا: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة: 84-85]، فتعبيرنا عن انتماءنا للإسلام وللإيمان، وشهادتنا لله بوحدانيته، وألوهيته، وربوبيته، وما يتبع ذلك، في إيماننا بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: تعبيرنا عن الإيمان بالرسالة الإلهية، هو جانبٌ أساسيٌ مما نقوله، ومن أهم ما نقوله ونُعَبِّر عنه.
-
-
تعبيرنا عن سمعنا وطاعتنا في انتماءنا الإيماني: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة: من الآية 285].
-
الإيمان بما أنزل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كما في قصة الحواريين: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران: الآية53]، هذه الشهادة الإيمانية لها أهميتها الكبيرة، وهي من أهم ما علينا من مسؤوليات فيما نقوله، وفيما نُعَبِّر عنه، وفي كلامنا الذي يُعَبِّر عن انتمائنا الإيماني.
-
-
ثم في إعلان الإيمان نفسه، كموقف يتحرر فيه الإنسان من العبودية للطاغوت، ويؤكد من خلاله اتجاهه في الحياة على أساسٍ من عبوديته لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في المفهوم العميق والأساس للإيمان: هذا أيضًا جانبٌ مهمٌ للغاية، ولهذا نجد في القرآن الكريم في قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}[البقرة: من الآية 256]، ما يؤكد هذه المسألة: أن توجهنا الإيماني في مسيرة حياتنا، عندما يكون على أساسٍ صحيح، هو تحررٌ من العبودية للطاغوت، هذا من لازمه، هذا من مضامينه، وهذا حتى يدخل في كل تفاصيله العملية الأساسية.
ولهذا، في التاريخ، وعلى مدى التاريخ، وفي مراحل كثيرة من التاريخ، كان التعبير عن الانتماء الإيماني هو- بحد ذاته- موقف من الطاغوت، وموقف من العبودية للطاغوت، وموقف مما يسعى الطاغوت إلى فرضه على الناس؛ لاستعبادهم، وإذلالهم، والسيطرة عليهم، وإخراجهم عن حالة الإيمان بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وإخراجهم من النور إلى الظلمات.
-
فسجَّل لنا القرآن الكريم الكثير من المواقف، التي عَبَّر فيها المؤمنون (بما قالوه) عن انتمائهم الإيماني، الذي نبذوا به خنوعهم للطاغوت، وخضوعهم للطاغوت:
فكان مقامهم ذلك، وتعبيرهم- بنفسه- في مقام مثل ذلك المقام، كلامًا عظيمًا، كلامًا مهمًا، كلامًا له شأنه الكبير:
-
في رضا الله عنهم.
-
في أن يقدموا القدوة والنموذج الراقي عن المؤمنين.
-
في أن يُخلَّد ذكرهم عبر الأجيال، وأن يكون نموذجًا ملهمًا، وهاديًا، للأجيال من بعدهم، وأن يُعَبِّر عن حقيقة الانتماء، وأثر الإيمان العظيم، في نفس الإنسان، وفي موقفه؛ لأنه موقف يُعَبِّر بحق عن مصداقية الانتماء الإيماني.
-
من ضمن ذلك موقف أصحاب الكهف:
الذين قال الله عنهم في القرآن الكريم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}[الكهف: 13-14]، كان مقامهم، وما قالوه في ذلك المقام، وكلامهم، وتعبيرهم في ذلك المقام، عظيمًا ومهمًا جدًّا، له أهميته:
-
على مستوى القيمة الإيمانية والأخلاقية.
-
أهميته في رضا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عنهم.
-
وأهميته أيضًا كموقف، أتى في سياق موقف، هو تعبيرٌ عن إيمانهم، لكنه- في نفس الوقت- موقفٌ من الطاغوت.
ترى كم للكلمة في مقامها المهم، في طبيعة ما تُعَبِّر عنه، من موضوعٍ مهم، وقضية مهمة جدًّا، كم لها من أهمية، الكلمة الواحدة، قد ترفع الإنسان منزلةً عاليةً جدًّا عند “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يُحسَب له بها، ويُكتَب له بها رضوان الله، التوفيق من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يحظى بالمنزلة الرفيعة عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأنه قال تلك الكلمة، في ذلك المقام المهم، فندرك أهمية الكلام، وأهمية الكلمة، وأهمية القول، في مقاماته المهمة.
وقصتهم قصة مهمة وواسعة، والحديث عنها يطول، وذكرها الله في القرآن الكريم، جعل في القرآن الكريم سورةً تُعَبِّر عن هذه القصة، وباسم هذه القصة، وتتصدرها هذه القصة: (قصة أصحاب الكهف).
-
في قصة مؤمن آل فرعون:
كذلك في مقام مهم، ومقام حساس، مؤمن آل فرعون، الذي كان يكتم إيمانه فيما سبق، لكنه في تلك اللحظة، في ذلك المقام، والذي عرف فيه، وسمع فيه، بتوجههم، توجُّهِ فرعون وملأه ومن معهم، بهدف القتل لموسى “عَلَيهِ السَّلَامُ”، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}[غافر:26]، في تلك اللحظة التي بلغ فيها الصراع بين الحق والباطل، بين فرعون وموسى في الذروة، إلى مستوى خطير جدًّا، وإلى مرحلة كبيرة جدًّا، ماذا كان موقفه؟ وماذا كان كلامه، الذي سطَّره الله في القرآن الكريم؟ ذكره في القرآن الكريم، وقدّمه في القرآن الكريم، كما قدَّم مواقف أنبيائه ورسله؛ لأهمية ذلك الكلام في ذلك المقام.
{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}[غافر: من الآية28]، ثم يستمر، وهو يورد كلام هذا الرجل المؤمن، في ذلك المقام الصعب، في تلك اللحظات الحساسة جدًّا، التي يخاف الكثير من الناس من أن يقول فيها كلمة حق، يخاف من أن يقول كلمةً فيها نُصح، فيها تعبير عن الموقف الإيماني، على مساحة- تقريبًا- أكثر من صفحتين في القرآن الكريم (في سورة غافر) يورد كلام مؤمن آل فرعون، وردوده على فرعون، وما تحدث به، في ختام كلامه يقول لهم: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}[غافر: 41]، وفي ختامه لكلامه معهم يقول لهم: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}[غافر: 44-45].
فكان كلامه- في ذلك المقام- كلامه المُعَبِّر عن الإيمان، كلامه الذي دعاهم فيه إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، دعاهم فيه إلى الموقف الحق، أنذرهم ما حلّ بالأمم من قبلهم، نتيجةً لتكذيبها برسالة الله، وصدها عن سبيل الله، وحربها ضد أنبياء الله ورسله، وإنذاره لهم من مستقبلهم في الآخرة، من الحساب والجزاء على أعمالهم، على مواقفهم، ودعوته لهم إلى ما فيه نجاتهم وفلاحهم، وتحذيره لهم من عاقبة إصرارهم على محاربة الحق والرسالة الإلهية، وإصرارهم على ما هم عليه من الظلم، ودعوته لهم إلى النجاة، كان هذا المقام مقامًا عظيمًا، الكلام في مثل هذا المقام له أهميته الكبيرة جدًّا:
-
في علو الدرجات عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
-
في اكتساب رضوان الله “جَلَّ شَأنُهُ”.
-
وأيضًا أهميتُه في الواقع، أهميته الكبيرة جدًّا، على مستوى ما يترتب عليه من نتائج.
-
يُقَدِّم القرآن الكريم- فيما قدمه من المواقف أيضًا- موقف مؤمن أهل القرية (في سورة يس):
ويجعل له مساحة في تلك القصة، وينقل كلامه؛ لأهميته الكبيرة، في ذلك المقام المهم.
أهل القرية، الذين أرسل الله إليهم ثلاثةً من رسله، فكذبوهم، وعاندوهم، وهددوهم في الأخير، إذا استمروا في تبليغهم الرسالة، أن يقتلوهم، في تلك اللحظة الحساسة والصعبة، في ذلك الظرف الحرج والخطير، يأتي ذلك المؤمن، بموقفه المتميز، بكلامه العظيم، بكلامه المُعَبِّر عن وعيه، عن إيمانه، عن إخلاصه لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، عن استجابته للحق: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}[يس: 20-25].
يُعَبِّر– فيما عَبَّر عنه، وفيما تحدث به إليهم، وفيما دعاهم إليه- يُعَبِّر هذا عن إيمانه، يدل على وعيه الكبير، على فهمه، على نصحه، على إرادته الخير والنجاة لهم، على ثباته على الحق، وقوة تمسكه بالحق، وهو يدرك خطورة أن يقول لهم هذا الكلام، فيما هم عليه من كفر، فيما هم عليه من جبروت، فيما هم عليه من شقاق وعداء للحق، في الوقت الذي هددوا فيه حتى أولئك الرسل، من إنذارهم، أو الحديث إليهم، أو تبليغهم الرسالة، هددوهم بالقتل، وكانت النتيجة أن استُشهِد على الفور.
قومه لا يملكون الحجة، ولا المنطق الصحيح، في أن يردوا على كلامه، كيف تعاملوا معه؟ تعاملوا معه من واقع كفرهم، من واقع شرهم، عنادهم، جبروتهم، استكبارهم، وطغيانهم، وقتلوه، فَيُعَبِّر القرآن عن استشهاده بقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}[يس: 26-27].
لِمَا فاز به، ولما تحقق له، ولعظيم موقفه، ولعظيم منزلة الشهادة، جاء التعبير عن شهادته بهذه العبارة: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ}، وكأن الفاصل الذي هو استشهاده، إنما كان انتقالًا سريعًا إلى الجنة، {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ}، حيث يرى نفسه في فوزٍ عظيم، ليس نادمًا على موقفه، على كلامه المهم، كلامه العظيم، الذي عَبَّر عن الإيمان، والدعوة إلى الحق، والمناصرة للحق، والوقوف في موقف الحق، لم يكن نادمًا على ذلك، شعر بالفوز، وأدرك أنه نال منزلةً عظيمةً، منزلةً كبيرةً عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}.
وفي كلا المواقف الثلاثة، كيف كانت النتيجة؟
-
في قصة أصحاب الكهف، حظوا برعايةٍ إلهيةٍ عجيبةٍ جدًّا، وهي من الآيات العجيبة عن رعاية الله لأوليائه المؤمنين، وكيف رعاهم الله، وجعلهم من آياته العجيبة، في قصة رقدتهم لثلاثمائة وتسع سنين، وما تلا ذلك من متغيرات عجيبة.
-
في قصة مؤمن آل فرعون، وما نتج لقومه نتيجة عنادهم، ما حصل لهم نتيجة عنادهم.
-
في مؤمن أهل القرية، الذي أهلك الله قومه، بصيحةٍ واحدة؛ بينما فاز هو بالشهادة.
فيصبح التعبير عن الإيمان، الوقوف موقف الإيمان، شهادتنا بالحق، الجانب الأساسي والجزء الأساسي من إيماننا، الذي نُعَبِّر فيه، بما نقول، بما نؤمن به، يصبح جانبًا مهمًا، من أهم ما يتعلق بالحديث بهذه النعمة (نعمة اللسان، نعمة البيان).
-
وجزءًا أساسيًا أيضًا من جهادنا، مرتبطٌ أيضًا بالجهاد بالنفس والمال، بالموقف، بالتضحية، الجانب الآخر هو باللسان، وجزءًا أساسيًا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، جزءٌ كبيرٌ منه يعود إلى هذه المهمة، إلى هذه الطريقة، إلى هذه الوسيلة: الأمر بالحديث، بالكلام، بالنصح، بالتذكير، بالتوجيه، إلى غير ذلك، مساحة واسعة، ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[التوبة: من الآية71]، فيصبح من أهم المسؤوليات الإيمانية: أن نتحرك في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في الجهاد في سبيله، وفي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، باللسان أيضًا، بالأمر، بالتوجيه، بالتذكير، بكل الوسائل التي تعود إلى نعمة (البيان والكتابة).
مساحة كبيرة جدًّا، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}[النساء: من الآية114]، مجالات ينشط الإنسان فيها، ويتحرك فيها، من خلال الكلمة، من خلال ما يقول، من خلال ما يُعَبِّر، من خلال تحركه وهو يذكر، وهو يبلِّغ، وهو يرشد، وهو يأمر، وهو ينهى، وهو يوجِّه، هكذا، مساحة واسعة جدًّا:
-
ومساحة المعروف، الذي نسعى للأمر به في واقع الحياة، يشمل: كل ما أمرنا الله به “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كل ما هو في دائرة التوجيه الإلهي، ومرضاة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في مختلف مجالات الحياة، دائرة واسع جدًّا.
-
كذلك في النهي عن المنكر: مساحة واسعة جدًّا، ويعود جزءٌ أساسيٌ منه، إلى النهي باللسان، بالكلمة، بالموقف، الذي نُعَبِّر عنه، ونسعى من خلاله إلى النهي عن المنكر.
-
كذلك في مسألة التناجي: الحديث مع الناس بطريقة غير الطريقة العلنية (في السر، وفي العلن)، الأمر بالصدقة، السعي في فعل الخير لدى الناس، لهذا أهمية كبيرة جدًّا، والترغيب للناس في ذلك، والحث لهم على ذلك، والدفع بهم إلى ذلك.
-
الإصلاح بين الناس كذلك.
وسنأتي إلى تفصيل أكثر فيما يتعلق بهذين الجانبين.
-
في مسألة التواصي بالحق، والتواصي بالصبر على الحق:
من أهم عوامل النجاة، التي ذكرها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم، في النجاة من الخسارة: هو التواصي بالحق، أن نكون مجتمعًا يوصي بعضنا بعضًا بالحق، وبالثبات عليه، وبموقف الحق، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر: الآية3]، هنا للكلمة أهميتها، وقيمتها، والأجر عليها عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفضلها؛ لأنه إذا غاب التواصي عن الحق، أتى بديلًا عن التواصي بالباطل، والتواصي بالتخاذل عن الحق، وكانت لذلك نتائج وتبعات سيئة جدًّا.
-
في ظروف الجهاد، والمراحل الصعبة والحساسة، التي يواجهها المؤمنون وهم في جهادهم في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”:
في بعض الظروف الحساسة يكون للكلمة أهميتها الكبيرة جدًّا، تلك الكلمة التي تُرَسِّخ الثقة بالله “عَزَّ وَجَلَّ”، والتوكل على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والثبات على موقف الحق، والسعي لطمأنة الناس للثبات على موقفهم.
ولهذا يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيما ذكره عن (غزوة الأحزاب)، وهو درسٌ مهمٌ للمؤمنين في كل الظروف المشابهة: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}[الأحزاب: الآية22]، كان كلامهم هذا في ذلك المقام الصعب، الذي يُعَبِّر عن إيمانهم، عن ثقتهم بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، تلك الثقة التي لم يزعزعها ما شاهدوه، من حشود الأعداء، من إمكانات الأعداء، ذلك التوكل على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الذي لم يُضِعفْه ما عاينوه، من إمكانات الأعداء، وحشودهم الضخمة، كان كلامهم هذا كلامًا مهمًا، كلامًا ذكره الله في القرآن الكريم، وكلامًا كان له أيضًا أثره في الواقع آنذاك، في تثبيت الآخرين، في طمأنة الآخرين.
-
في الظروف التي تتطلب الصبر:
في ظروف التضحية في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في المقامات الصعبة، في مقامات المعاناة في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يُقَدِّم القرآن درسًا مهمًا في التعبير عن الصبر، في التعبير عن الثبات على الموقف، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: الآية164]؛ لأن الكثير من الناس عندما يكون هناك تضحيات كبيرة، أحداث صعبة، مواقف كبيرة، معاناة شديدة:
-
البعض من الناس يصابون بالوَهَن.
-
البعض يصابون بما هو أكثر: بالضعف.
-
البعض يصابون بما هو أسوأ: بالاستكانة والتراجع.
أمَّا الأكثر والأكمل إيمانًا، فيصبرون، ويثبتون، ولا يتراجعون، ويكون موقفهم وكلامهم مُعَبِّرًا عن صبرهم، مُعَبِّرًا عن ثباتهم، مُعَبِّرًا عن التجائهم إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مُعَبِّرًا عن وعيهم بأسباب الأحداث، بأسباب ما يحصل، {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: الآية147].
في مثل تلك الحالات والمواقف، قد يكون للآخرين كلام آخر، وتعبير آخر، يُعَبِّر عن ضعفهم، يُعَبِّر عن يأسهم، يُعَبِّر عن ندمهم، أو يُعَبِّر عن تذمرهم، وعن قلة صبرهم، لكنَّ أولئك كان كلامهم مُعَبِّرًا عن وعي، عن إيمان، عن ثقة، عن ثبات، عن التجاء إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، من واقع شعورهم بالتقصير، وأن لهذا التقصير نتائج في الواقع، آثار في الواقع، فيطلبون من الله المغفرة، والتثبيت، والنصر، {فَآَتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ}[آل عمران: من الآية148]، لاحظوا، كيف كانت النتيجة نتيجةً عظيمةً ومهمة.
ولذلك في الظروف الحساسة، في المقامات الصعبة، في المراحل المهمة، يكون للكلمة المُعَبِّرة عن إيمان، المُعَبِّرة عن وعي، المُعَبِّرة عن ثبات، المُعَبِّرة عن التوكل على الله، الكلمة التي تلهم الناس الثبات على الحق، التي تعزز في نفوس الناس الأمل والثقة، التي لها أهميتها الكبيرة، عندما يسمع بها العدو، ويعرف عنها العدو، يُهزَم نفسيًا، يُصاب بالإحباط، يكون لها أهمية كبيرة جدًّا، ويكون لها قيمة إيمانية، وتُرضي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولها نتيجة مهمة.
-
كذلك يُسَطِّر القرآن موقفًا مهمًا، يبيِّن فيه قيمة الكلمة الحق، التي تُعَبِّر عن الثبات، وتدفع بالناس إلى الاتجاه الصحيح، حتى في الظروف التي يتخاذلون فيها:
كما في قصة نبي الله موسى “عَلَيهِ السَّلَامُ”، مع قومه، وهو يحاول أن يدفعهم إلى الجهاد، وأن يشجعهم على ذلك، في تلك المهمة لاقتحام قرية: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}[المائدة: الآية22]، هذا كلام مُعَبِّر عن ماذا؟ عن تخاذل، عن قلة صبر، عن جُبن، عن ذلة، عن هوان، كلام مُعَبِّر عن رفض للاستجابة لتوجيهات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يُعَبِّر عن استكانة، {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}.
في المقابل، كيف يتميز الموقف الصحيح، والكلام الصحيح، الذي يُعَبِّر عن الموقف الصحيح: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة: الآية23]، كيف تميز كلام ومقال هذين الرجلين، وقال: {أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا}، كان موقفًا يُعَبِّر عن وعي، عن إيمان، عن استجابة عملية لتوجيهات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، عن رؤية صحيحة، ومشجع على التوكل على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فكيف ذكره الله في القرآن الكريم ليكون درسًا مهمًا، ودرسًا مفيدًا.
-
في موقف البراءة من أعداء الله:
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ}[الممتحنة: من الآية 4]، يصبح إعلان الموقف من أعداء الله، الصادِّين عن سبيل الله، المحاربين للحق، والبراءةُ منهم، والمباينةُ لهم، من أهم المسؤوليات، التي تتعلق بتعبيرنا، بحديثنا، بكلامنا الذي يُعلن عن حقيقة موقفنا، ويصبح مسألةً مهمة، فيقدم الله لنا الأسوة الحسنة، في إبراهيم والذين معه؛ لأنهم قالوا وأعلنوا موقفهم، وَعَبَّروا عنه بكل وضوح، وبكل قوة، وبكل ثبات.
فنجد في كل هذه المقامات، الأهمية الكبيرة للكلمة، الأهمية الكبيرة جدًّا لكلمة الحق، كجزءٍ من جهادنا، من مسؤولياتنا المهمة، في الأمر بالمعروف، في النهي عن المنكر، كذلك في المراحل الحساسة والصعبة جدًّا، التي نُعَبِّر فيها عن ثباتنا على الحق، وعن تمسكنا به.
في هذا الزمن أيضًا، للكلمة، والموقف الذي نُعَبِّر عنه بالكلمة، أهمية كبيرة جدًّا، في مواجهة طاغوت العصر، وأئمة الكفر، المتمثل بأمريكا وإسرائيل، وحلفائهم، وأعوانهم، وجنودهم، وأنصارهم، وبالذات أن هذا الزمن أصبحت الحرب الإعلامية فيه، والدعائية، والثقافية، والفكرية، تحتل مساحةً كبيرة وجزءًا أساسيًا من المعركة والصراع، فيصبح للموقف، للحديث، لكلمة الحق، في هذا السياق، المُعَبِّر عن الإيمان، المُعَبِّر عن الموقف الإيماني، يصبح له أهمية كبيرة جدًّا.
ولربما في هذا الزمن أصبح هذا الجانب: الحرب الإعلامية، وما يتبعها، والحرب الثقافية، حرب الكلمة، بأكثر من أي زمنٍ مضى، مع أن أعداء الله- في كل زمن- هم يسعون عبر التضليل، عبر هذه الوسيلة، أن يصدوا عن سبيل الله، أن يحاربوا الحق، أن يضلوا الناس، أن ينحرفوا بهم عن نهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كما قال الله عنهم: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف: الآية8] ، فهم كانوا على الدوام- في كل عصر، في كل زمن- يستخدمون أفواههم، بما يقدمونه من ضلال، من دعايات، من حربٍ نفسية، من تقديمٍ للباطل، من تقديمٍ للشُّبَه، من وعيد، وتهديد، وإغراء، وغير ذلك، مما يُعبَّر عنه في سعيهم للانحراف بالناس عن نهج الله، وإطفاء نور الله، كانوا يحاولون في كل زمن، ولكن في هذا الزمن الإمكانيات أكثر، والوسائل المتنوعة لخدمة هذا الهدف أكثر بكثير مما قد مضى.
وهذا يبين أهمية هذه المسألة في هذا الزمن، وقيمة أن تقول كلمة الحق، بل هي من النعمة عليك، إذا كان جزءًا من جهادك، وجزءًا من أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، أن تقول كلمة الحق، فهي أيضًا جانب أساسي من جهة، وعمل سهل، لكنه مهم، وقيمته كبيرة من جهةٍ أخرى، وكما في المراحل الصعبة، التي فيها غربة، وقلة أنصار، وقلة استجابة، لتبنِّي الموقف الحق، والتعبير عن الموقف الحق، والانطلاقة في الموقف الحق، لهذا أهمية كبيرة جدًّا، هناك أيضًا أهمية في الزمن الذي يصبح للتعاون على كلمة الحق، وفي كلمة الحق، وفي الاتجاه في كلمة الحق، أهمية كبيرة جدًّا؛ لأنه عندما يكون هناك تحرك واسع، في إطار كلمة الحق، والموقف الحق، والتعبير عن الموقف الحق، يكون لهذا أهمية، وهذا ملحوظٌ في هذا الزمن بشكل كبير، التوجه الجماهيري الواسع، الذي يُعَبِّر الناس فيه عن كلمة الحق، وعن تأييدهم للحق، وعن تمسكهم بالحق، هذا يخلق هزيمة كبيرة، ويترك هزيمة كبيرة، ويأس كبير، لدى أهل الباطل، لدى الطاغوت؛ فلذلك يُعتبر هذا من التعاون على البر والتقوى، وعمل ميسَّر، عمل سهل، أحيانًا يخرج الناس بشكل واسع جدًّا، في مسيرات جماهيرية واسعة جدًّا، لكنها تُعَبِّر عن هذا الموقف الحق، فيصبح لهذا أهمية كبيرة، في أن يصنع يأسًا في قلوب الآخرين من الأعداء، وأن يكون له تأثير كبير جدًّا في دعم المستضعفين، فهذه مسألة تمثل أهمية كبيرة جدًّا.
-
ثم عندما نتأمل في الواقع، فهناك اتجاهان، في مسيرة الحياة وحركتنا في الحياة:
-
اتجاه الكلمة الطيبة.
-
واتجاه الكلمة الخبيثة.
وهذا ما ذكَّرنا الله به في القرآن الكريم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}[إبراهيم: 24-27].
-
الكلمة الطيبة: الكلمة المُعَبِّرة عن الإيمان بالله، والكفر بالطاغوت، الكلمة الطيبة التي تحيي الأمة، وتدفع بالناس إلى مرضاة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وما فيه الخير، والفلاح لهم، والعزة، وتصنع الوعي والبصيرة، وتنير لهم في واقع حياتهم، بما يحصنهم من الضلال؛ وفي المقابل الكلمة الخبيثة: التي تخضع الناس للطاغوت، والشيطان، ولأعداء الله، وتبعدهم أو تقعدهم عن التمسك بالحق.
-
الكلمة الطيبة: تستنهض الناس، تذكّرهم بمسؤولياتهم، تعزز الثقة بالله تعالى والتوكل عليه؛ أمَّا الكلمة الخبيثة: فهي تثبطهم، وقد تدفعهم إلى خدمة الباطل، وتزرع في نفوسهم اليأس والقنوط.
-
الكلمة الطيبة: التي تعزز حالة الصبر، والصمود، والثبات، والتمسك بالحق؛ أمَّا الكلمة الخبيثة: فهي تدفع بالناس إلى الانهيار، والضعف، والاستسلام للباطل، والتراجع عن موقف الحق.
-
الكلمة الطيبة: تدفع الناس إلى فعل الخير، تسعى لصلاح ذات بين المؤمنين، تسعى إلى تعزيز حالة التراحم بين المجتمع، تدفع بالناس إلى الإحسان؛ أمَّا الكلمة الخبيثة: فهي تثبط عن فعل الخير، تثير البغضاء بين المؤمنين، تمزق المجتمع، تبعد الناس عن روحية الإحسان.
الكلمة الطيبة، يجب أن تكون حاضرةً في أوساطنا، في واقعنا، وأن ندرك أهميتها وقيمتها فيما نقول، وبحساب ما نقول، والأهمية فيما نقول، ولو غابت الكلمة الطيبة، يحل محلها الكلمة الخبيثة، التي يرددها الخبثاء، في كل اتجاهات الباطل، في كل الاتجاهات التي تتناقض مع الإيمان، هذا على مستوى المسؤولية في هذه الأمور.
أيضًا في التعامل فيما بين الناس:
من المهم أن يركزوا على أن يقولوا: {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: من الآية53]، أحسن تعبير، أحسن كلام، في تخاطبهم، في معاملاتهم، الله يقول: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}[الإسراء: من الآية53]؛ لأن الكلمة السيئة، الكلمة الجارحة، الكلمة المستفزة، إذا حَلَّت محل الكلمة التي هي أحسن، تركت أثرها السيء في نفوس الناس، وفي واقع الناس، وفتحت ثغرةً للشيطان لينزغ بين الناس.
-
فيما مضى ندرك الأهمية للكلمة:
-
الكلمة في الذكر لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في العلاقة مع الله “جَلَّ شَأنُهُ”.
-
الكلام فيما يحتله من مساحة أساسية، في الانتماء الإيماني، والموقف الإيماني، والجانب الإيماني.
-
الكلام في إطار المسؤولية الجهادية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
-
الكلام في إطار التعامل، وكيف نحرص على سلامة القول والاستخدام الصحيح، في حركتنا في الحياة، في تعاملنا في شؤون حياتنا، حتى في أمور عملنا وشؤون حياتنا الدنيوية، التي هي أيضًا تعود إلى الالتزام المسؤول فيما يتعلق بإيماننا، في التعامل فيما بيننا.
ندرك من خلال ذلك الأهمية الكبيرة للكلمة والموقف.
-
ويبقى لنا- إن شاء الله- أن نتحدث في المحاضرة القادمة عن:
-
المحاذير.
-
وعن الاستخدام السيء لنعمة اللسان، والبيان، والنطق، والكتابة.
-
وما يترتب على ذلك من مخاطر كبيرة في حياة الناس، وآثار سيئة.
-
وما ينتج عن ذلك، ويتحمله الإنسان من التبعات والجزاء.