نص المحاضرة الثانية للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي بذكرى عاشوراء 1441هـ
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّداً عبدُه ورَسُوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأخيارِ المنتجبين، وعن سائرِ عِبَادِك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
نستكمل في هذه المحاضرة حديثنا بالأمس عن الدور الأموي في محاربة الإسلام: سواءً في مرحلة ما قبل فتح مكة، حيث تزعَّم أبو سفيان قريشاً في حربها ضد رسول الله – صلوات الله عليه وعلى آله- وضد الإسلام والمسلمين، أو ما بعد وفاة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- في الدور التخريبي السلبي لبني أمية من موقع النفاق.
تحدثنا بالأمس عن نماذج من هذا الدور التخريبي والسلبي في واقع الأمة، والدور الأموي التخريبي والسلبي والمضل في واقع الأمة الإسلامية هو دورٌ استشرفه الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وحذَّر منه، وأخبر به فيما أخبره الله به -سبحانه وتعالى- وتحدَّث به عن مستقبل أمته.
عندما نأتي إلى التاريخ، عندما نعود إلى ما روته الأمة بمختلف مذاهبها في تراثها، في أصح ما لديها بحسب كل مذهبٍ وتيار من مذاهب وتيارات الأمة المختلفة، نجد ما أُثِر عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- مما هو معروفٌ بين الأمة بشكلٍ عام فيما يحذِّر به من فتنة أولئك على هذه الأمة، من خطورتهم الكبيرة التي لا يجوز التقليل منها، ولا التبرير لها، ولا التجاهل لها؛ لأن ضررها بالفعل حدث في واقع هذه الأمة.
هناك عددٌ من النصوص أشرنا إليها بالأمس، مثل حديث الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- عنهم أنهم إن تمكَّنوا ووصلوا إلى موقع السلطة والقرار، فإنهم سيجنون على هذه الأمة جنايةً كبيرة، لماذا؟ لأنهم كما قال عنهم إذا تمكَّنوا (اتخذوا دين الله دغلاً)، هذه أول جناية على الأمة في دينها، وأكبر جناية على الأمة: عملية تحريف للدين ولمفاهيمه، وتقديم شكل مختلف من هذا الإسلام، مع الحفاظ على بعضٍ من طقوسه وشعائره الدينية، مع الاستغلال لها، والتوظيف لها فيما يخدمهم، لكن كم يدخل تحت هذه العبارة من تفاصيل كبيرة في نشاطهم ومساعيهم التضليلية لهذه الأمة، كم يدخل تحت قوله: (اتخذوا دين الله دغلاً) من أنشطة واسعة نفذوها، واستغلوا لتنفيذها علماء السوء، الذين كان البعض منهم يفتري الحديث، يختلق حديثاً، يصيغه هو، يقوم بصياغته هو بما يناسب التوجه الأموي، وفق الرؤية الأموية، ثم يقدِّمه كحديث عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-؛ ليقدِّم من خلاله مفاهيم خاطئة، باطلة، مضلة، مفسدة، تحسب على الإسلام، وهنا تدخل عملية الافتراء على الله، وعلى رسوله -صلوات الله عليه وعلى آله- والإساءة إلى هذا الإسلام، لتتحول كثيرٌ من الضلالات، وكثيرٌ من المفاهيم الخاطئة والباطلة إلى عقائد دينية، إلى مفاهيم باسم الدين، ليلتزم بها السذج من الناس ويتقبلوها على أنها من الدين؛ فيتدينوا بها، ويتشبثوا بها، وتعمم في المدارس، وتعمم في المنابر في الخطابات الدينية، وتعمم لدى الوعَّاظ والقصَّاص، وتنشر في الساحة الإسلامية، كم نشروا تحت هذا من المفاهيم الباطلة على المستوى العقائدي، وعلى مستوى مختلف المجالات؛ حتى يصنعوا رؤيةً مختلفةً باسم الدين الإسلامي نفسه، وهذه عملية خطيرة جدًّا، خطيرة جدًّا؛ لأن البعض من الناس- وعبر الأجيال- قد يتشبث بها تديناً، يعني: بقدر ما يكون متديناً، بقدر ما يكون متشبثاً بها، ومصراً عليها، ومتمسكاً بها، ويتقرب بها إلى الله -سبحانه وتعالى- وهو لا يدرك أنها افتراء، أنها باطل، أنها ضلالة، أنها ليست من الدين في شيء، وليست إلَّا مجرد افتراء. يغيب هذا عن البعض من الناس مع تعاقب الزمن وتعاقب الأجيال، هذه العملية كانت خطيرةً جدًّا، وحرباً مباشرةً ضد الإسلام، ضد الإسلام؛ لأنهم حذو فيها حذو أهل الكتاب (حذو اليهود، وحذو النصارى) في التحريف المتعمَّد لدين الله -سبحانه وتعالى- في افتراء الكذب على الله -جلَّ شأنه-.
ثم ما أخبر به عنهم ضمن هذا النص: (اتخذوا دين الله دغلاً، وعباده خولاً)، عملية استعباد للأمة بكل ما تعنيه الكلمة، وهذه قضية خطيرة؛ لأن من أهم وأعظم ما جاء به الإسلام، ومن أعظم ثمرات الاهتداء بهذا الإسلام، والتمسك بهذا الإسلام: هو انقاذ البشرية من العبودية للطاغوت، من العبودية للعباد، إلى العبودية لله -سبحانه وتعالى- لرب العباد، فإذا بهم يجنون على هذه الثمرة الرئيسية التي هي في غاية الأهمية، ليست مسألةً هامشية من مندوبات الإسلام ومستحباته. |لا| مسألة أساسية وجوهرية، وغاية رئيسية لهذا الدين: التحرير للبشر، للرسالة الإلهية في كل العصور في كل عهد الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: من الآية36].
(اتخذوا دين الله دغلاً، وعباده خولاً، وماله دولاً): استئثار بالمال العام، نهب ثروة الأمة، مقدرات الأمة، واستغلال هذه الثروة الهائلة من الأمة، وهم فرضوا جبايات كبيرة على الأمة، يعني: مثلاً أخذوا الزكاة، أخذوا الخراج، أخذوا الفيء، سنوا ضرائب كثيرة تحت عناوين متعددة، دخلوا أيضاً في مسارات أخرى من جمع المال، مثل: المصادرة لممتلكات الناس بغير حق… أشكال كثيرة للجباية للمال، والاستئثار به، والاستغلال له في الترف والبذخ والمعاصي والفجور، ثم في شراء الذمم وشراء الولاءات، ينهبون مال الأمة، وفي نفس الوقت يقدِّمون هذا المال لمن يخدمهم، لعالم السوء الذي سيصدر الفتاوى الباطلة التي تبرر جرائمهم، تخدم سياساتهم وتوجهاتهم، يقدمون من هذا المال لمن سيتجنَّد معهم فيقاتل في صفهم، ويرتكب أبشع الجرائم في اعتداءاته على الناس (على المجتمع المسلم)… وهكذا استغلوا هذه الثروة، واستأثروا بها، وأفقروا الأمة، تركوا الفقراء، تركوا المساكين، تركوا أبناء الأمة، تركوا المجتمع الإسلامي يعيش حالة المعاناة والبؤس والحرمان، واستأثروا هم بثروة هائلة جدًّا، وكُتُب التاريخ لمختلف المذاهب تحكي العجب العجاب فيما كانوا يجمعونه من الأموال الهائلة جدًّا، وكيف كانوا يستأثرون بها، ويقتسمونها فيما بينهم كأمراء، ويصرفون العدد الكبير منها والكميات الكثيرة منها فيما ذكرناه من: شراء الذمم، وفي الترف، والبذخ، والمعاصي، والفجور.
وهذا من أهم النصوص على الإطلاق؛ لأنه نصٌ جامع، نصٌ جامع، يقدِّم توصيفاً متكاملاً شاملاً، تندرج تحته كل التفاصيل عن طبيعة خطورتهم وبأدقِّ تعبير، بأدقِّ تعبير، هذا نص مهم جدًّا، يفترض أن يعرفه الجميع، أن يستوعبه الجميع؛ ليدركوا مدى جناية أولئك على الأمة، حجم هذه الجناية الهائلة، هل بعد أن تحرَّف مفاهيم الإسلام الذي هو الدين العظيم، مفاهيمه الصحيحة التي إن تمسك بها مجتمعنا المسلم؛ يرى ثمرة هذا الدين في حياته، يرى العدل، يعيش العدل، يعيش نعمة الحق فيما يقدِّمه من حلول لمشاكل هذه الحياة.
ولذلك هم نجحوا في كثيرٍ من المراحل وفي مساحة واسعة من أبناء الأمة أن يفقدوا الأمة الإسلامية نعمة الإسلام في مبادئه وقيمه وأخلاقه، يعني: حتى لا تعيش هذه النعمة في واقعها، يغيب العدل من الواقع، وهو من أهم ما أتى به الإسلام، ما الذي يحل بدلاً عن العدل؟ أليس هو الظلم؟ تنتشر المظالم في الساحة الإسلامية، تتحول الساحة الإسلامية، ويتحول الواقع الذي يعيشه المجتمع المسلم إلى واقعٍ مظلمٍ ومأساويٍ ومليءٍ بالمظالم، كم حملت كتب التاريخ من القصص والحكايات الموثَّقة المعترف بها لدى الجميع من الجرائم الرهيبة والشنيعة والفظيعة جدًّا، التي نرى اليوم مثيلاتها فيما يرتكبه الإسرائيلي، فيما يفعله الأمريكي، فيما تفعله الأقوام الأخرى التي لا تنتمي للإسلام في قيمه، في مبادئه، في شريعته، في أحكامه، في أخلاقه، في منهجه. كارثة، كارثة.
من النصوص المهمة التي تحدَّث النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- بها حديثه عن الفئة الباغية الداعية إلى النار، في كلامه وفي حديثه عن عمَّار بن ياسر -رضوان الله عليه- وهو من كبار الصحابة الأخيار، عمَّار -رضوان الله عليه- عمَّار النبي أخبر- وعلى مرأى ومسمع من الصحابة في المدينة- أنها ستقتله الفئة الباغية، التي كما ذكر عنها: (يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)، الداعية إلى النار، نحن أشرنا بالأمس إلى أهمية هذه الفقرة: الداعية إلى النار؛ وبالتالي لها دعوة، ودعوتها هي ضلالة، دعوة ذات نشاط إعلامي، نشاط فكري، نشاط تثقيفي، كله يدخل تحت عملية تضليل، كله تضليل، نشاط تضليلي في واقع الأمة؛ وبالتالي يشكِّلون خطراً كبيراً، يعني: من يستجيب لهم، من يتأثر بأفكارهم بدعوتهم تلك؛ فإنه إلى النار لا محالة، إلى النار لا محالة، وإلَّا فماذا معنى أن يكونوا دعاةً إلى النار، إلَّا أن دعوتهم دعوة من استجاب لها وتأثر بها دخل النار، يكون من أهل النار؛ لأنها دعوة قائمة على التحريف لمفاهيم هذا الإسلام، دعوة من استجاب لها انحرف عن طريق الحق.
وصف النبي لهم -صلوات الله عليه وعلى آله- بالقاسطين في حديثه عن الإمام علي -عليه السلام- ودره المستقبلي في هذه الأمة، ومن ضمن هذا الدور: أنَّه سيقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين، وكانوا هم القاسطين، وهذا شيءٌ معروف في التراث الإسلامي والتاريخ الإسلامي، ما معنى القاسطين؟ القاسطين: الجائرين، المائلين عن الحق، والجائرين عن العدل، يعني: انحراف على مستوى الحق، انحراف عن الحق، الحق كعقيدة، كثقافة، كرؤية، كشرع، كنهج، انحراف عن هذا الحق، لديهم ضلالات كثيرة، أباطيل كثيرة تقدم كبدائل عن الحق، وباسم الإسلام طبعاً، باسم الإسلام، فهو ميلٌ عن الحق نفسه، وجورٌ عن العدل، طريق جائرة مائلة عن الحق وعن العدل، فهم أهل الظلم، طغاة، جائرون، ظلمة، متسلِّطون، وكل هذا أين يتجه؟ هل هو ظلم في الهواء، أو يتجه نحو الفضاء؟ هل مظالمهم تلك، جرائمهم تلك، أباطيلهم تلك، ضلالاتهم تلك، دورهم السلبي والتخريبي ذلك هل اتجه مثلاً إلى منطقة أخرى خارج الأرض، إلى المريخ مثلاً، أو كوكب الزهرة، أم أنه انصب بكله في ساحة المجتمع الإسلامي، هم ظلموا هذه الأمة، أفسدوا في هذه الأمة، أضلوا في هذه الأمة، في المجتمع المسلم، في الأمة الإسلامية، ولذلك يعظُم جرم من يبرر لهم، من يدافع عنهم، من يقدِّم صورةً مختلفةً عن الحقيقة بشأنهم، فهم القاسطون، وهذا شيءٌ معروفٌ في التاريخ الإسلامي، والنبي أخبر عنهم بذلك -صلوات الله عليه وعلى آله- وهذا متفقٌ عليه أيضاً.
مما أخبر به النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- ما رآه في منامه- من رؤى الوحي طبعاً- أنهم ينزون على منبره نزو القردة، يذبُّون الناس عنه. وكان لهذه الرؤيا مدلولها المؤلم جدًّا، يعبِّر عن طبيعة الدور الذي يصرف الناس عن نهج رسول الله، عن هدي رسول الله، منبره رمزيته في هذه الرؤيا تعبِّر عن دور الهداية الذي قام به الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في هذه الأمة، فهم سيصرفون الناس عن نهجه من موقع السلطة والحكم باسم الخلافة، وهو ملكٌ عضوض كما هو أيضاً متفقٌ عليه، فإذاً هذا الدور السلبي جدًّا والتخريبي، وكانوا في هذا الدور يشبهون القردة، في كلما تعبِّر عنه هذه الصورة البشعة من حقيقة ما هم عليه من انحراف كبير، ومن دورٍ سلبيٍ وتخريبيٍ وتضليليٍ كبير.
من ضمن ما ورد عن النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- حديث: (وأنَّ هَلَكَة هذه الأمة على أيديهم) هلكة كبيرة، هلكة؛ لأن الأمة عندما فقدت المفاهيم الصحيحة الأساسية للإسلام لتكون هي السائدة في واقعها بكله، لتكون هي المفاهيم التي تبني عليها مسيرة حياتها؛ فقدت دورها العظيم والمهم والكبير، وخسرت إلى حدٍ كبير، تكبَّدت خسائر كبيرة جدًّا، امتلأت ساحتها الداخلية بالمظالم، أعاقتها عن دورها المهم في الواقع البشري، ثم أثَّر ذلك أيضاً على كل من تأثَّر بهم، بدعوتهم التي هي دعوة إلى النار، ليكون هالكاً باستجابته لتلك الدعوة، حتى ولو حسبت على الإسلام، لا يكفي أن تحسب وهي عملية تحريف وتزوير وتزييف للحقائق.
مما أيضاً ورد عن النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- وتحدثنا عنه بالأمس الوصم لهم بالطلقاء، فيما يعنيه هذا المدلول من فرض دائرة قانونية عليهم؛ حتى لا يحسبوا في عداد المهاجرين والأنصار، حتى لا يمكن أن يجعلوا من ذلك ذريعة لتسلّق الدولة الإسلامية تحت عنوان أنهم من المهاجرين أو من الأنصار، وكان من المعروف في الساحة الإسلامية ماذا يعنيه هذا المدلول من أنهم فئة معينة بالكاد تكون من المواطنين في هذه الدولة الإسلامية، دائرة دخلت في هذا الإسلام بالاستسلام بعد مرحلة طويلة من الصراع.
أيضاً ما أشرنا إليه بالأمس عن وصية النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- للأنصار: (إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه)، في بعض الروايات: (إلَّا تفعلوا {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}[الأنفال: من الآية73])، وقد تذكَّر هذه الوصية البعض من الأنصار عندما وصل معاوية إلى المدينة وصعد إلى منبر رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-.
هناك أيضاً أشياء كثيرة، نصوص كثيرة، اجراءات كثيرة عملها النبي في حياته -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- مثل: نفيه للحكم بن أبي العاص من المدينة والطرد له نهائياً منها، هو والد مروان بن الحكم، نفاه مع أسرته من المدينة، وطرده كلياً عن المدينة؛ لدوره السلبي، وتجسسه على رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وما كان يقوم به من تصرفات سلبية نقلها التاريخ، فهناك الكثير من النصوص والآثار التي رويت عن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- هذه التي ذكرناها كافية ووافية في أن نستفيد منها لتتكون لدينا صورة حقيقية عن طبيعة ذلك الدور السلبي والتخريبي، وعن مستواه الفظيع والخطير والشنيع جدًّا.
وأيضاً إلى جانب هذا الاستشراف، وهذا التحذير، وهذا التنبيه الذي كان من جانب النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- الذي يكفي ويفي في أن يكشف حقيقة دورهم الخطير جدًّا على هذه الأمة، والبالغ السوء في واقع هذه الأمة، أتى الواقع ليثبت ذلك، ما نقله التاريخ- وكما نكرر- التاريخ الذي يحسب لمختلف المذاهب، وليس فقط من جهة واحدة، أو من مذهبٍ واحد، التاريخ الذي هو معروف بين هذه الأمة، مصادر تاريخ المذاهب المختلفة والتيارات المختلفة، ما نقله هو الشيء الغريب العجيب، والله أعلم ما هو الذي خفي ولم ينقل، ما نقله فيه العجب العجاب؛ لأنها أحداث كبيرة، أشياء شهيرة، عندما أشرنا بالأمس إلى إساءتهم إلى المقدسات، إساءتهم إلى الرسول، انتهاكهم لحرمة المقدسات الإسلامية، أنبه أيضاً إلى أنهم أيضاً استهانوا حتى بحرمة القرآن الكريم، أساؤوا إلى الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- بتعبيرات ومواقف كانوا يطلقونها ويقولونها فيه، أيضاً في مجالسهم الرسمية، مجلس الملك الأموي يُسبُّ رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حضرتهم، من جانب من يقرِّبونهم ويدنونهم في مجالسهم من اليهود والكافرين، فيغضون الطرف عن ذلك، ويضحكون لذلك، وينسجمون مع ذلك، وإذا أتى أحدٌ ليزجر ذلك اليهود الساب لرسول الله، يغضبون، ويعتبرون ذلك أذيةً لجلسائهم، كما حصل مع هشام، الملك هشام الأموي الذي غضب من الإمام زيد -عليه السلام- عندما انتهر اليهود الذي يَسبُّ رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- فقال: (لا تؤذِ جليسنا يا زيد)، كم نقل التاريخ من مثل هذه المواقف التي كانت توجه فيها الإساءات إلى رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- بشكلٍ مباشر تحت حمايتهم، مع ذلك عملوا خطةً أخرى للاستهداف لمقام رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ومكانته المهمة في نفوس المسلمين، وهي من أخطر ما فعلوه وما صنعوه، وهي تدخل تحت عنوان: (اتخذوا دين الله دغلاً)، لقد اختلقوا وصنعوا الكثير من الروايات والأخبار، وما يطلق عليه بالأحاديث، مما فيه الحطّ من مكانة رسول الله، والإساءة الكبيرة جدًّا إلى رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وأتى البعض ليقول عنها بأنها: [أحاديث صحيحة]، ثم تكتب، ينقلها الرواة، ويأتي من ينقلها في مجاميع حديثية، يحشرها مع بقية الأحاديث، وتقدَّم إلى الأمة على أنها من الحديث، وأنها من السنة، وفيها إساءات شنيعة جدًّا إلى رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- في مقابل التعظيم لهذا أو ذاك، لهذا الشخص أو ذاك، لهذا الرمز أو ذاك، يحطون من مكانة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- كم ورد من ذلك؟ الشيء الكثير الكثير.
عندما يتهمونه على مستوى عملية التبليغ للوحي، وأن الشيطان تدخَّل ونطق على لسانه، وأنه افترى على الله وهو يقرأ سورة النجم! هكذا يقدِّمون عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- أنه بينما يقرأ سورة النجم، وقرأ قول الله -سبحانه وتعالى-: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}[النجم: 19-20]، اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاة: أصنام من أصنام قريش التي كانت تعبدها، وتعكف عليها، وتشرك بها، تجعل منها آلةً مع الله -سبحانه وتعالى- يأتون ليقولوا في روايةٍ اختلقوها وصنعوها وقاموا بصياغتها؛ للحط من مكانة رسول الله، وللتشكيك في أمانته في تبليغ الرسالة، وفي تبليغ القرآن الكريم، يقولون في روايتهم تلك: أنَّ الشيطان تدخَّل وسيطر في تلك اللحظة على الرسول، وعلى لسانه، وعلى منطقه، وجعله ينطق ليقول: [تلك الغرانيق العلا، وإنَّ شفاعتهن لترتجى]! يعني: تعبير فيه شرك، فيه افتراء، فيه تعظيم للأصنام، فيه كذب على الله -سبحانه وتعالى- فيه اثبات الشفاعة لتلك الأصنام، على هذه الرواية التي اختلقوها وصنعوها، اعتمد سلمان رشدي في كتابه المسيء للإسلام، كتابه الذي حكم عليه الإمام الخميني -رضوان الله عليه- حكم عليه بالقتل؛ عقوبةً لما في ذلك الكتاب من إساءات إلى رسول الله، وإلى الإسلام، وإلى القرآن، اعتمد على مثل هذه الرواية، فإذاً كم ورد فيما قدَّموه كروايات وتكتب، وتصبح من الأحاديث، وتصبح ضمن المنهج الرسمي الذي يعتمد عليه في الساحة الإسلامية لدى كثيرٍ من أبناء الأمة، روايات تسيء إلى النبي بأشنع ما يمكن أن نتخيله أو نتصوره، حتى أنَّ البعض ممن يسيئون إلى الرسول في الغرب في هذه المرحلة وفي مراحل سابقة، كانوا يعتمدون في إساءتهم إلى رسول الله على تلك الروايات، يقولون: [هذه رواياتكم، يا أيها المسلمون هذه الروايات في مجاميعكم الحديثية، هي التي تقدِّمه أنه… وأنه… وأنه احتفل مع الشيطان في جلسة يوم العيد، وجلسة لهو وغناء وطرب، وأتى فلان الصحابي فهرب منه الشيطان، وقطع تلك الجلسة]… وهكذا قصصاً كثيرة، وحكايات مسيئة إلى رسول الله، [وأنه دخل إليه فلان وهو عارٍ ولم يتستر، ودخل آخر وهو عارٍ ولم يتستر، ودخل الثالث فتستر، لماذا؟ قال: لأن الملائكة تستحي منه، كيف لا أستحي ممن تستحي منه الملائكة]، كم ذكروا وكم أوردوا من عبارات، من عملية تصوير صورة شنيعة تقزم مكانة رسول الله في نفوس من يتأثر بتلك الروايات، بذلك القصص، بتلك الأحاديث، الكثير لدرجة أنَّ البعض يستحي الإنسان من رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- أن يتحدث به حتى عنهم، أن ينقل ما قالوه في رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-.
قبل كل ذلك على المستوى العقائدي فيما يتعلَّق بالعقيدة الإيمانية، فيما يتعلق بمعرفة الله -سبحانه وتعالى- فيما يتعلَّق بالعدل الإلهي، فيما يتعلَّق بالوعد والوعيد، فيما يتعلَّق بعالم الآخرة والجنة والنار والحساب والجزاء، كم صنعوا، كم زيفوا، كم غيَّروا، كم بدلوا، فهم عملوا على أن تكون نظرة هذه الأمة إلى الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- نظرة مجرَّدة من القدسية، من العظمة، من التأثر، بل نظرة يترتب عليها في الواقع العملي اتجاهات خاطئة، سلوكيات خاطئة، من يتأثر بمجموع تلك الروايات والأخبار لا يتحاشى- إن كانت رمزية الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- عنده على ذلك النحو، بتلك الكيفية، بذلك التصور الذي قدَّموه- لا يتحاشى أن يكون في الواقع الذي يعتبر نفسه فيه متديِّناً، أن يكون على ذلك النحو من الانحرافات السلوكية، والتصرفات الغريبة جدًّا، من يتأثر بما قدَّموه لن تكون علاقته بالرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- إلَّا علاقة قاصرة وناقصة، ويشوبها الكثير من النظرة الخاطئة، من النظرة الخاطئة، ستكون علاقة قاصرة وناقصة عن العلاقة المفترضة بين هذه الأمة وبين نبيها في التعظيم له، في التوقير له، في معرفة قدسيته، في معرفة ما هو عليه، في التأثر به، في الاقتداء به بشكلٍ صحيح، يفقد من يتأثر بهم، وبما صنعوه، وما اختلقوه من روايات وقصص وأخبار وسير اختلقوها يتأثر سلباً في ذلك.
أيضاً فيما يتعلَّق بعلاقتهم بالقرآن الكريم، ها هو أحد ملوكهم وقد استفتح في المصحف، فطلع في الصفحة التي رآها ووجدها عندما فتح المصحف، طلع أمامه قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ}[إبراهيم: 15-17]، أحد ملوكهم (الوليد) غضب غضباً شديداً، لماذا عندما استفتح في المصحف طلعت هذه الآية، فماذا عمل؟ قام باستهداف المصحف بالسهام ومزقه، وقال شعره المعروف الذي نقله المؤرِّخون:
أتــوعـدني بجبــارٍ عنيــــد
فهــا أنـا ذاك جبارٌ عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشرٍ
فقل يا رب مزقني الوليد
منتهى الاستهتار بالقرآن، هل بعد هذا استهتار بالقرآن الكريم، بأقدس المقدسات التي بين أيدينا كأمةٍ مسلمة، استهتار رهيب جدًّا:
إذا ما جئت ربك يوم حشرٍ
فقل يا رب مزقني الوليد
هكذا كانوا، وتصور إنساناً كهذا في موقع السلطة، يتأمَّر على الأمة الإسلامية، كيف سيكون مع هذه الأمة؟ كيف هي نظرته مع بقية تفاصيل هذا الدين وهو لا يحترم حتى القرآن؟ هل يمكن أن يحترم بعد ذلك شيئاً من هذا الدين؟ هل يمكن؟ لا، هم في هذا المستوى من السوء، من الخطورة على هذا الدين وعلى هذه الأمة في دينها، في أقدس مقدَّساتها، في منهجها العظيم، كيف يمكن أن يكون دورهم في داخل هذه الأمة إلَّا دوراً تخريبياً مسيئاً، يقوِّض المبادئ والقيم الإسلامية العظيمة، ويحل محلها ويقدِّم بديلاً عنها ما هو ضلال، ما هو سيء، ما هو فساد، ما هو انحراف، ما هو تزييف، وهذا يضيع الأمة.
انتهاك حرمة المقدَّسات في مكة والمدينة، حتى الكعبة المشرَّفة يستهدفونها بالمنجنيق، يحرقونها بالنار، يستهدفونها حتى الهدم، المدينة يستبيحونها، حَرَمَ رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- يستبيحون سكَّانها من المهاجرين والأنصار، ومن لحق بهم، ثلاثة أيام استباحها جيش يزيد: استباح فيها الدم والعرض والمال، ثلاثة أيام أباحها لجيشه: [أنِ اقتلوا من شئتم، واغتصبوا من أردتم من النساء، وخذوا ما وجدتم من المال والممتلكات]، وارتكبوا أبشع الجرائم، فعلوا الأفاعيل، اغتصبوا بنات المهاجرين والأنصار، المئات منهن ولدن بعد ذلك ممن لم يكن قد تزوجن، انتهاك للأعراض، استباحة لشرف الناس وكرامتهم، لا قيمة عندهم للمسلمين، حتى للمهاجرين والانصار، صدر أمر: [أنِ اقتلوا من وجدتموه من أهل بدر من بقي منهم]، وكانوا يلاحقون حتى من كان طاعناً في السن على فراشه، فيقومون بقتله؛ لأنه ممن حضر مع رسول الله في معركة بدر، أوليس هذا انتقام من رسول الله ومن الإسلام والمسلمين؟ انتقام لما يعود إلى جاهلية بني أمية، إلى مرحلة حربهم الصريحة ضد الإسلام من موقع الكفر والشرك والطاغوت، كان هذا هو الذي يحدث.
الوحشية والإجرام التي هي لا تمت إلى الإسلام بصلةٍ أبداً، مثل: قتل الأطفال، هم من كانوا جريئين في ذلك، وكانت جيوشهم وكان جنودهم وقادتهم يرتكبون مثل هذه الجرائم بكل بساطة في منتهى الوحشية والإجرام، أحد قادتهم (بسر بن أرطأة) عندما وصل إلى اليمن كان يذبح الأطفال في عهد الطفولة في سن الطفولة، يجيئون بهم إليه، ويأمر بذبحهم بشكلٍ مباشرٍ ومتعمد، أطفال.
في المدينة المنوَّرة عندما اقتحموها ماذا فعلوا؟ كانوا يأخذون الطفل الرضيع من أمه وهي تحتضنه وترضعه، وتحاول أن تتشبث به، وتسعى لحمايته منهم، يأخذونه عليها رغماً عنها برجليه، ويضربون به عرض الحائط فينثرون دماغه إلى الأرض، وكل هذا يحسب على أنه إسلام، وأنهم جنود الدولة الإسلامية، الذين يرتكبون هذه الجرائم الوحشية جدًّا.
حرملة عندما وجَّه سهمه ذو الشعب الثلاث لقتل طفل الإمام الحسين -عليه السلام- الرضيع وهو ظامئ جدًّا، أمه لم يبق فيها الحليب لترضعه، وقد أخرجه الإمام الحسين -عليه السلام- بأمرٍ من القائد العسكري الموالي لبني أمية يقوم حرملة بتوجيه ذلك السهم إلى نحر ذلك الرضيع، فيذبحه من الوريد إلى الوريد، وهذا سيعتبر من الإنجازات للدولة وللجنود الذين يقدمون أنفسهم باسم الدولة الإسلامية… وهكذا صنعوا واقعاً مأساوياً مظلماً، واقعاً فيه التوحش، فيه الإجرام في منتهاه، في أقسى ما يمكن أن نتصوره، في أسوأ الممارسات الإجرامية التي يمكن أن تحصل في الواقع البشري في واقع أي أمةٍ من الأمم فيها طغاة، وفيها مجرمون، وفيها متسلطون، وفيها فاسدون، ثم يأتي البعض ليبسِّط كل هذا، بل لينفعل، بل ليغضب، بل أكثر من ذلك ليحاول أن يغطي على كل تلك الجرائم.
تأتي في عصرنا هذا مناهج دراسية في عددٍ من البلدان العربية لتقدِّم صورةً مختلفة تمجِّد بني أمية وتعظمهم، وتتجاهل ما ورد في تاريخ الأمة- كل الأمة- من مختلف المذاهب عن ذلك التاريخ الإجرامي، عن تلك الممارسات الشنيعة جدًّا التي هي بعيدة حتى عن الإنسانية كإنسانية، من يمتلك الضمير الإنساني، من يمتلك المشاعر الإنسانية فحسب، ما بالك بالإسلام في عظيم ما يقدِّمه من مكارم الأخلاق، وما يربي عليه من المبادئ والقيم الإلهية العظيمة، أين هذا كله من قول الله -سبحانه وتعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[الجمعة: من الآية2]، هل يكون بعد قليلٍ من العقود من الزمن على هذا المستوى: يستهدفون الكعبة التي قدَّسها العرب حتى في العهد الجاهلي، واحترموها في العصر الجاهلي، فيأتي هؤلاء باسم الإسلام ويرمونها بالمنجنيق، ويحرقونها بالنار، يستبيحون حرم المدينة، يستبيحون العرض، يقتلون الأطفال على ذلك المستوى المتوحش، أتى الواقع فأثبت سوء ما فعلوا وما هم عليه، حاربوا الإمام علياً -عليه السلام- الإمام عليٌ -عليه السلام- الذي هو بمنزلة هارون من موسى، الذي هو يمثِّل الامتداد الأصيل لمنهج الإسلام العظيم، حاربوه بعظيم منزلته ومقامه في الأمة، وعلى ماذا حاربوه؟ هل كانت المشكلة مشكلة هامشية؟ هل كانت حربهم عليه إلَّا حرباً على الإسلام، الإسلام في أصالته، حاربوه؛ فكانوا هم الفئة الباغية، وكانوا هم القاسطين، وكانوا هم في موقع الباطل في سعيهم لمنع الإمام عليٍّ -عليه السلام- من نشر الإسلام، وتثبيت قواعده، وترسيخ منهجه وشرعه وفق ما قدَّمه الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- من إقامة العدل في واقع الأمة، حاربوه أشد الحرب، وتآمروا عليه حتى الاستشهاد، وهم من يتحملون المسؤولية في وزر قتله بالغيلة، وهو وزرٌ كبير، ووزرٌ شنيع؛ لأن مقام الإمام علي -عليه السلام- هو بعد منزلة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- بمنزلة هارون من موسى، إلَّا أنه لا نبي بعد رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- كان وزراً عظيماً وشنيعاً.
حاربوا الإمام الحسن -عليه السلام- وقتلوه بالسم، حاربوا الإمام الحسين -عليه السلام- وقتلوه في جريمة من أبشع الجرائم، لا مثيل لها حتى في العهد الجاهلي، ما فعلوه بالأمة من قتل أخيار الصحابة، المئات من الأخيار من صحابة رسول الله الذين جاهدوا مع رسول الله وجاهدوا مع الإمام علي -عليه السلام- وحاربوهم، وقتَّلوهم، واستهدفوهم، والبعض منهم في عملية إعدام فيما بعد ذلك، عمليات إعدام استهدفوا بها البعض من أخيار صحابة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- أخذوهم وسجنوهم وأعدموهم، كم سجَّل التاريخ من هذه الجرائم البشعة والفظيعة جدًّا.
استئثارهم بالمال العام تحدثنا عنه.
وصلت حالة الاستغلال والطغيان والعبودية فيما فعلوه في المدينة، أن أجبروا من بقي من أهل المدينة- بعد وقعة الحرَّة- أن يبايعوا يزيداً على ماذا؟ على أنه ملك؟ لا. على الإمرة والسلطة؟ لا. أن يبايع الواحد منهم على أنه عبدٌ قِنٌّ خالصٌ ليزيد بن معاوية، أيُّ بيعة هذه! وهكذا أجبروهم واحداً تلو الآخر، كل الذين بقوا من أهل المدينة أجبروهم على هذه البيعة، وختموا عليهم بختم الرِّق والعبودية، ختم معين، من خلال الكي بالنار بختمٍ معين كعلامة على أنَّ هذا الإنسان عبد، هذه الممارسات هل هي بسيطة؟! الإسلام الذي يربي على الكرامة والحرية والعزة، التربية الإسلامية في منهج الإسلام وفي منهج نبيه وهداته هي تربية على الكرامة، وليست إذلالاً لهذا المستوى من الإذلال والامتهان والقهر، على أنهم عبيدٌ قِنٌّ ليزيد بن معاوية، هكذا كانت ممارساتهم الإجرامية.
أمَّا على مستوى الاستباحة للأخلاق، انتهاك الحرام والحلال، وإلغاء قاعدة الحلال والحرام في كثيرٍ من الأشياء المهمة، فحدِّث ولا حرج، أعادوا الترويج للخمور في الساحة العربية والإسلامية، بعدما كان الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- بجهود كبيرة، وبنصوص تشريعية في القرآن الكريم وعبر رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وجهود كبيرة قد طهر الساحة الإسلامية- إلى حدٍ كبير- من هذا المشروب الخطير جدًّا الكارثي.
القرآن الكريم أتى بكثيرٍ من النصوص، من بينها ما ورد في القرآن الكريم عن الخمر أنه: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[المائدة: من الآية90]، ثلاثة أشياء: (رِجْسٌ) وكونه رجس هذا تحريم له، مع التنبيه على سوئه وخطورته، (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وهذا تحريم إضافي، تأكيد على التحريم وعلى خطورته، (فَاجْتَنِبُوهُ) نهي حاسم وتحريم قاطع وواضح، فإذا بهم يروِّجون للخمر وينشرونه، وكان الواحد منهم يمسي سكراناً ويصبح مخموراً، بكل ما للخمر من آثار سيئة وتدميرية جدًّا، من إفساد للإنسان، (جُعِلت الشرور كلها في بيت، وجُعِلَ مفتاحه الخمر)، تشبيه للخمر بأنه مفتاح لكل المفاسد والشرور، المدمن على الخمر يمكن أن يرتكب أي جريمة، تفسد نفسيته بالكامل، يصبح إنساناً فاسد النفس، منحطاً، يقتل في نفسه الضمير والكرامة، ويصبح قابلاً لأن يرتكب أي جريمة أو فساد أو منكر، فروَّجوا للخمر، ونشروه في الساحة من جديد، وأساءوا بذلك، وكانوا هم من تَرِد إليهم القوافل المحملة بالخمور إلى قصورهم وإلى مواقع سلطانهم وإمارتهم.
انتشار المفاسد الأخلاقية: الفواحش أعادوا نشرها في الساحة بشكل كبير، روَّجوا لها، هيَّأوا لها، مثل ما هناك الآن هيئة ترفيه في المملكة العربية السعودية، كان لهم أنشطة- هم- أوسع من ذلك.
فهذا الدور الخطير جدًّا، الذي عملوا من خلاله إلى إفساد المجتمع الإسلامي، وإلى إبعاده عن الإسلام؛ حتى يصبح هناك نموذج مختلف، شكل مختلف من الإسلام، يبقي على بعضٍ من الطقوس والشعائر، مع إبعاد الكثير من الأسس والمبادئ والأخلاق المهمة التي تصلح واقع الحياة، غيَّبوا الإسلام الذي يصلح واقع الحياة، الإسلام الذي يحق الحق ويزهق الباطل، الإسلام الذي يقيم العدل في واقع الحياة، الإسلام الذي يسمو بالإنسان، يزكيه، يربيه على مكارم الأخلاق، يسمو به في فكره، في وعيه، في فهمه، في ثقافته، وأعادوا الكثير من الخرافات لتكون هي المنهج الذي ينشر في الساحة بشكل روايات، بشكل مواعظ، بشكل قصص، في عملية التعليم؛ حتى ملؤوا الكثير من عقول الناس وتصوراتهم ومفاهيمهم بالمفاهيم الخاطئة جدًّا، والخرافات الكثيرة جدًّا، هذا الدور السلبي هدف إلى إفساد المجتمع الإسلامي وتربيته ليصبح بيئةً متقبِّلةً للطغاة، للظالمين، للمجرمين، تربية الباطل، عندما يتحركون في ساحةٍ قد أفسدوها لا يجدون أي عوائق أمامهم، هم أرادوا ذلك وسعوا إلى ذلك مع عدائهم للإسلام نفسه، مع موقفهم السلبي تجاه الإسلام نفسه.
في مقابل ذلك ندرك ويتضح لنا أهمية وقيمة وعظمة الدور المناهض لهذا الدور السلبي، إذا كان هذا الدور السلبي والتخريبي والخطير جدًّا يتحرك في واقع الأمة مستنداً إلى إمكانات، وإلى جمهور، وإلى أتباع، وإلى جيوش، وإلى قدرات ضخمة يتحرك بها في الساحة الإسلامية، وفي الأخير وصل إلى السلطة؛ كانت القضية خطيرة جدًّا على المجتمع الإسلامي بكله، إذا تمكَّن هذا الدور من أن تستحكم قبضته بشكلٍ تام، ولم يبق هناك من دورٍ صحيحٍ يناوئ هذا الدور، لضاع الإسلام نهائياً من واقع هذه الأمة، الإسلام في أصالته، الإسلام في حقيقته، الإسلام في مبادئه العظيمة، ولتحولت كل الساحة الإسلامية إلى واقعٍ مختلف وفق الصناعة الأموية، الشكل الذي قدَّمه أولئك، لكانت المسألة في غاية الخطورة جدًّا جدًّا، لكن في المقابل كان هناك الدور العظيم والمهم الذي حفظ للإسلام امتداده، بالرغم من ذلك الدور التخريبي والسلبي لبني أمية، كان هناك الدور العظيم والمهم الذي حفظ للإسلام امتداده بأصالته، ليبقى حاضراً في الساحة يتصدى لذلك الدور التخريبي، وموجوداً عبر الأجيال ليمتد وليصل إلينا- بنعمة الله -سبحانه وتعالى– في هذا العصر.
الإمام عليٌ -عليه السلام- كان له الدور الأول من بعد وفاة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- والنبي -صلوات الله عليه وعلى آله- عندما تحدَّث عن الإمام علي -عليه السلام- بتلك النصوص، وسعى إلى أن ترتبط الأمة به من موقعه بعد وفاة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- في الهداية والقيادة لهذه الأمة؛ باعتباره يمثِّل الامتداد الأصيل والنقي والصحيح لهذا الإسلام العظيم، النبي أسس لأن يمتد هذا الإسلام بهدايةٍ من الله، بأمرٍ من الله، بتوجيهٍ من الله -سبحانه وتعالى- ولهذا الإمام عليٌّ -عليه السلام- في حديث النبي عنه -صلوات الله عليه وعلى آله- الحديث الواسع عن منزلته، عن مقامه، عن دوره، عن أن تفهم الأمة أنه مع القرآن والقرآن معه، حينما كان يقول للأمة: (عليٌ مع القرآن، والقرآن مع علي)، (عليٌ مع الحق، والحق مع علي)، عندما أعلن ولايته في يوم الغدير، عندما أتى بالكثير من النصوص بشأنه، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى، إلَّا النبوة، عندما تحدث عن دوره المستقبلي أنه: يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل النبي على تنزيله، وهذا من أهم النصوص، فيما يفيده من حفاظ على المفاهيم الإسلامية؛ لأن الخطر فيما بعد وفاة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- الخطر بالنسبة على هذه الأمة هو يأتي من التحريف للمفاهيم، الله حفظ القرآن الكريم في نصه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: الآية9]، والنبي جاهد في مرحلة التنزيل، يوم كان العرب يكذِّبون بهذا القرآن حتى بنصه، الإمام عليٌّ -عليه السلام- كان له هذا الدور: أنه يقاتل على التأويل كما قاتل النبي على التنزيل؛ لأن الإمام علياً حفظ لنا المفاهيم الصحيحة والمصاديق للنصوص القرآنية، يوم أتى علماء السوء الموالون لبني أمية ليقدِّموا مفاهيم وتفاسير للنصوص القرآنية وللدين الإسلامي تخالف الحقيقة في عملية تزييفهم وتضليلهم.
الإمام عليٌّ -عليه السلام- كما تحدَّث عنه النبي أيضاً أثبت الواقع أنه نهض بهذا الدور، فكان هو الذي تصدى للدور الأموي وحاربه بنو أمية، عندما كان في الوقت الذي التفت حوله الأمة كخليفةٍ لها قام بنو أمية بمحاربته، ولم يطيقوه أبداً، فحاربوه حرباً شعواء، لكنه -سلام الله عليه- قام بدوره على أكمل وجه في أوساط الأمة، تحرَّك -عليه السلام- في أوساط الأمة بكل ما يستطيع، مع ما عاناه من تخاذ المتخاذلين، مع ما عاناه مما في واقع الأمة من تأثيرات سلبية أثَّرت على الكثير منها في مدى الاستجابة، لكن حركته، وجهاده، ونشاطه العام، وتقديمه النموذج في فعله وفي قوله وفي سلوكه المعبِّر عن أصالة الإسلام، قد حفظ لنا الإسلام، قد ثبَّت لنا الموقف الحق، واكتشف الكثير من الأغبياء فيما بعد استشهاده -عليه السلام- أهمية هذا الدور عندما استحكمت قبضة بني أمية بعد استشهاده -عليه السلام-؛ لأنهم لم يتمكنوا من أن تستحكم قبضتهم على الأمة بشكلٍ كامل إلَّا بعد استشهاده -عليه السلام-. أدرك البعض- آنذاك- خطورة دور بني أمية، وندم البعض على تخاذلهم في مناصرة الإمام عليٍّ -عليه السلام- ممن لم يكن يستوعب مستوى تلك الخطورة.
الإمام الحسن والإمام الحسين -عليهما السلام- والرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- فيما قال بشأنهما لفت أنظار الأمة إليهما؛ لترتبط الأمة بهما من موقعهما في هذا الامتداد الأصيل لحركة الإسلام في أصالته، (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، ماذا يعني هذا النص؟ إلا لفت أنظار الأمة إليهما، أنهما من يمثلا هذا الامتداد الأصيل للإسلام، الإسلام الحقيقي الذي يوصل إلى الجنة في مقابل الفئة الباغية الداعية إلى النار، في مقابل هذا: مقابل الفئة الباغية الداعية إلى النار هنا الدعوة التي توصل إلى الجنة، (سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خيرٌ منهما)، كم هي النصوص الكثيرة بشأن الحسن والحسين سبطا رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- التي تؤكِّد منزلتهما، دورهما المهم في هداية الأمة، حينما قال النبي -صلوات الله عليه وعلى آله-: (حسينٌ مني، وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسينٌ سبطٌ من الأسباط)، ندرك هنا أهمية هذا الدور المهم جدًّا؛ لأنه حفظ لهذا الإسلام امتداده، لو خلت الساحة الإسلامية من هذا الدور الذي يمثِّل امتداداً أصيلاً للإسلام الحق، لتمكَّن بنو أمية من طمس معالم الإسلام الحقيقية، لأطبقت الساحة بكلها في حالةٍ من الإقبال على ذلك الزيف، وتتربى عليه الأجيال جيلاً بعد جيل، ولكانت المسألة في غايةٍ من الخطورة.
فالنبي فيما قاله، والواقع فيما أثبته من جهد وجهاد وتضحية وبيان، وحركة واسعة في أوساط الأمة، وصولاً إلى التضحية بالنفس، الإمام عليٌّ استشهد، الإمام الحسن استشهد بالسم، الإمام الحسين -عليه السلام- استشهد في واقعة كربلاء، وهذا ما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛