نص الدرس الثاني عشر من محاضرات السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي من دروس عهد مالك الأشتر 1443 هـ – 2022م
الدرس الثاني عشر من محاضرات السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي من دروس عهد مالك الأشتر 17-12-1443 هـ 16-07-2022
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
بعد استكمال الحديث عن فئات المجتمع، مكونات المجتمع، الذين يعبَّر عنهم بالرعية في ظل نظام الإسلام، أتت التعليمات في عهد الإمام عليٍّ “عليه السلام” إلى مالكٍ الأشتر، وهي تعليمات ختامية، لكنها ذات أهمية كبيرة جدًّا، وشملت بقية الأمور الهامة.
قال “عليه السلام”:
((وَأَمَّا بَعْدَ هَذَا، فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ، وَالِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ، وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ، وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ)).
((لَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ))
لا تنقطع عن لقاءاتك بهم، والحديث إليهم، يمكن للإنسان المسؤول والوالي أن ينظِّم أوقاته، وأن ينظم أعماله، وبذلك سيتمكن من أن يخصص وقتاً من الأوقات للقاءات بالناس، وللحديث إلى الناس، فالانقطاع عن اللقاءات، والانقطاع عن الحديث إلى الناس، له تأثيراتٌ سيئة على الإنسان نفسه في موقع المسؤولية، كوالٍ، أو مسؤول، في طريقة أدائه، وفي خلفية الأمور لديه، التي يستند إليها، فيما يتخذه من قرارات، أو يعتمده مما يصل إليه، أو كذلك يتعاطى من خلاله مع الأمور، وكذلك له تأثيرات سيئة على واقع الناس أيضاً؛ لأن البعض مثلاً من المسؤولين، أو من الولاة، قد يتوجه كل اهتمامه نحو الانشغال بالعمل، فيقول: [لا داعي للقاءات، ليست ضرورية، الأهم هو الأعمال التي أنشغل بها وأؤديها بناءً على مسؤوليتي]، وقد- كذلك- يتأخر كثيراً عن الحديث إلى الناس بما يقتضيه الحال، بما تقتضيه الظروف، بما يتعلق بالمستجدات، فيكون لذلك تأثيرات سيئة جدًّا في الواقع العملي، وفي واقعه هو، وفي واقع المجتمع أيضاً، فالإمام يقول:
((فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ))
له تأثيراته السيئة عليك أنت كمسؤول، أو كوالٍ، فله أثره السيئ حتى في مدى علمك واطِّلاعك على الحقائق، على الواقع؛ لأن انقطاعك عن اللقاء بالناس، والسماع منهم، يحصر مصادر المعلومات لديك، وما تطَّلع عليه من خلال قنوات محدودة جدًّا، من بعض المقربين منك، أو بعض من تعتمد عليهم، فلا يصل إليك إلَّا ما يوصلونه هم إليك، وقد يكون شيئاً محدوداً، قد تغيب الكثير من الحقائق عنك، فتتغير نظرتك إلى الواقع، تكون نظرةً ضعيفةً محدودةً، لا تمتلك كل المعطيات، كل الحقائق؛ وبالتالي تبني على هذه النظرة الجزئية المحدودة، التي غاب عنها الكثير من الحقائق والمعطيات، تبني عليها سياسات خاطئة، قرارات خاطئة، توجهات خاطئة، تهمل أشياء، وإهمالك لها له تأثيرات سيئة في واقع الناس؛ وبالتالي حتى في موقفهم منك، فمسألة الاحتجاب الطويل، التأخر الطويل عن الناس في اللقاءات، التأخر الطويل عن الناس في الحديث إليهم له تأثيراته السيئة، هذا من جانبك، يؤثِّر عليك حتى نفسياً، تتعود على حالة الانعزال والعمل في نطاقٍ مغلقٍ محدود، يؤثِّر على نفسيتك، ويؤثِّر عليك في قراراتك وتوجهاتك، التي لا تستند إلى الحقائق كاملة، إلى الواقع من خلال تشخيصٍ دقيق واطلاعٍ تام على الواقع.
((وَالِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ))
كذلك الولاة من جانبهم، والمجتمع من جانبه، الكل يتأثر، فالولاة باحتجابهم عن الواقع تصل إليهم الأمور مشوشة وناقصة؛ وبالتالي قد تكبَّر عنده من خلال ما يصل من مصادر محدودة، أو قنوات محدودة يعتمدون عليها في الاطِّلاع على الواقع، في أن ينقل إليهم ما ينقل من الواقع، تكبَّر عندهم الأمور الصغيرة، وأحياناً تضخَّم، مثلاً: تضخَّم مشكلة معينة، أو قضية معينة، حتى تظهر وكأنها كبيرة جدًّا، أو تصغَّر الأمور الكبيرة، ويكون لها تأثيراتها السيئة؛ لأنك ستتعامل معها بناءً على ذلك، فأنت- بالتالي- ستتعامل مع مسألة صغيرة وكأنها مسألة كبيرة جدًّا، وتتعامل مع مسألة مهمة، كبيرة، خطيرة، بتعاملٍ ضعيف، وبارد، ومحدود، ولا تعطيها ما تستحق من الاهتمام، ولا تتعامل معها بما ينبغي، بحجمها، بتأثيراتها، فسيكون لذلك تأثير كبير على طريقتك في العمل، وطريقتك في التعامل، وطريقتك في اتخاذ القرار، فهي مسألة حسَّاسة، ومسألة خطيرة.
((وَالِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ، فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ، وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ))
لأن النقل أحياناً قد يكون بهذه الطريقة التي تشوه الحقائق، وتقدِّم الصورة المختلفة عن الأمور، إلى درجة أن تُقَبِّح الحسن، يعني: تقدِّم صورة سيئة، مشوهة، مختلفة تماماً عن الواقع في قضية معينة، أو موقفٍ معين، أو شخصٍ معين، وتنقل صورةً حسنةً، مجملةً، مزينةً، تجاه قضية هي بالعكس تماماً، قضية فيها ظلم، أو إساءة، أو تصرفٌ خاطئ، عن شخصٍ كذلك هو شخص سيئ، هذا بالنسبة للولاة.
بالنسبة أيضاً للناس مع الاحتجاب، مع الانقطاع عن اللقاءات بهم، والحديث لهم، والتوضيح لهم، والتبيين لهم، مع النشاط المعادي والمناوئ، الذي يتحرك بطريقة سلبية في الساحة، فيسعى للتشويش حول كثيرٍ مثلاً من القرارات، من المواقف، من الإجراءات العملية التي قد تكون ضرورية، قد تكون مهمة، قد تكون مفيدة، قد تكون في مصلحة المجتمع، وتقتضيها الظروف، ولكن لا علم للناس بحيثياتها، بدوافعها، بخلفياتها، بأسبابها، فيأتي من يثير التشويش حول ذلك، ومن يتحرَّك بالدعايات المسيئة، وأحياناً الدعايات الكاذبة، التي لا أساس لها من الصحة، ويخلط الأمور، فيرسِّخ في الساحة نظرةً سلبيةً جدًّا، وقناعةً خاطئة لدى الناس، وبالتالي ردود فعلٍ سلبية من جانب الناس، والسبب هو ذلك الانقطاع عن الناس، في اللقاءات بهم، في النقاش معهم للأمور، في توضيح الحقائق لهم، وفي السماع منهم، فلذلك تأثيرات سيئة.
((وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ))
يمزج أحياناً الحق بالباطل؛ من أجل التشويه، أو من أجل نقص الحقائق والمعطيات، أو ما شاكل ذلك.
((وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ))
بشرٌ، لا يعلم الغيب والشهادة، لا يطَّلع على الخفايا، فإذا انقطع عن الناس في لقاءاته بهم، غابته عنه الكثير من الحقائق، ولم يعرف بها، لم يعرف بها، انقطاعه عن اللقاءات بالناس يغيِّب عنه- حتماً- الكثير من الحقائق في الساحة؛ لأنه لا يعلم الغيب.
((وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ))
فقد تصل الأمور إلى الإنسان، تصل معلومات معينة، أو ينقل إليه عن بعض الأمور والقضايا نقل خاطئ، ليس هناك لون، أو شكل، لما يصل إليك من المواضيع تتبين صدقه من كذبه، إن لم يكن لديك اهتمامٌ بالتحري، وبالاطلاع على الواقع، فالانقطاع عن الواقع يغيِّب عنك الحقائق، ويمكن من خلال ذلك التلبيس عليك، لكن إذا كنت تلتقي بالناس، تتحرى عن الواقع، تطلع على الواقع، لديك اطلاع واسع، ومصادر وقنوات كثيرة، وتسمع الكثير، فيمكنك أن تكتشف أن ما نقل إليك كان نقلاً غير صحيح، أو نقلاً ناقصاً، أو قاصراً، أو زائداً، أو ما شاكل، فتستطيع أن تصل إلى صورة مكتملة حقيقية، واقعية، وأن تكون واقعياً بالتالي في طريقتك في العمل والموقف، وفي قراراتك وتوجهاتك.
((وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ))
أنت كوالٍ، كمسؤول، أحد رجلين:
((إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ))
إمَّا أن تكون قد وطّنت نفسك على أن تبذل الحق، وأن تبذل جهدك وما تستطيع في أداء مسؤوليتك، فإذاً لا تتحرج من اللقاءات، ليس هناك ما يبرر لك أن تتحرج من اللقاءات؛ لأنك موطنٌ نفسك على أن تبذل الحق، وأن تعمل المستطاع، وأن تقدم المستطاع والممكن، وهذا الذي عليك.
((فَفِيمَ احْتِجَابُكَ؟ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ، أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ))
هل تحتجب من ألَّا تقدم حقاً، أو تعطي حقاً، أو تبذل كذلك فعلاً كريماً، ما الذي يمنعك، أو يعيقك عن اللقاءات بالناس، أو يحرجك؟
((أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ))
أو أنك إنسانٌ مبتلى بالمنع، شحيح، لا تريد أن تبذل، لا تريد أن تعطي، لا تريد أن تخدم المجتمع، وأن تقدم شيئاً للمجتمع.
((فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ، إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ))
إذا أيس الناس من بذلك، وعرفوك بالشح والمنع، وأنك لست جهة خير، ولا يؤمَّل فيك الخير، ولا ينتظر منك الخير، يأسهم منك سيجعلهم يتركونك ولا يؤملونك، ويتجهون إلى غيرك.
((مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مِمَّا لَا مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ))
لأن البعض مثلاً من المسؤولين، أو الولاة، من أكبر ما يحرجه عن اللقاءات بالناس، ويجعل البعض إمَّا يقلل من لقاءاته بالناس، أو يترك اللقاءات بالناس، الحرج من الطلبات، البعض من الناس مثلاً قد يلتقيك ومعه طلبات شخصية، ولا تمتلك الميزانية الكافية لتلبية الطلبات وفق رغبات الناس وأهوائهم، وبالذات أن الكثير، وبالذات من الوجاهات، من الوجاهات الكثير منهم طلباته طلبات غير ضرورية، يطلب بحسب رغباته الشخصية، وأهوائه، وطموحاته، مطالب كبيرة، مرهقة، مكلفة، لا تفي بها ميزانية الدولة، أو ميزانية المحافظة، أو ميزانية الدائرة، أو ميزانية الوزارة، أو أي ميزانية، لا تفي بها، متطلبات كبيرة، والبعض من الناس أيضاً بطبيعته إنسانٌ كريم، يشق عليه ويصعب عليه أن يرد من يطلبه، فيواجه الحرج؛ فيؤثر الانقطاع، بيقولوا: [غفلة ولا بديه]، بيؤثر الانقطاع، ويكون لهذا الانقطاع تداعيات، ونتائج، وآثار سلبية، على العمل وفي الواقع، في واقع المجتمع، وتجاه من أنت مسؤولٌ عنهم، فيمكن للإنسان في هذا أن يكون واضحاً، بمعنى: أن يبين أن ما بيده من إمكانات هي إمكانات في نطاق مسؤولية، ولا يمكنه أن يبعثرها، وأنه أصلاً يعني لا يمتلك ما يمكن أن يفي به ما يطلبه البعض وفق رغباتهم وطموحاتهم في ظروفٍ عسيرةٍ وصعبة، ويعتذر كما قال الإمام عليٍّ “عليه السلام” فيما سبق: بإجمال، يبين بطريقة رائعة وجميلة عذره في ذلك، ولكن لا يكون هذا عائقاً عن اللقاءات بالناس؛ لأن ليس الناس بكلهم لديهم مطالب مالية، أو مادية، هناك الكثير من الناس حاجاتهم إليك لا مؤنة فيها عليك، مثلما ذكر هنا:
((مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ، أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ))
هناك من هو بحاجة إلى اللقاء إليك؛ من أجل أن يشكو إليك مظلمةً معينة، من جهة من أنت مسؤولٌ عنهم، في نطاق مسؤوليتك أنت، وخدمتك له هي في إنقاذه، في انصافه مما لحق به من الظلم، ((أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ))، كذلك قد يكون هناك عراقيل في معاملة، أو عدم إنجاز، أو استغلال… أو غير ذلك.
فترك اللقاءات تحرجاً من ذوي الطلبات، يؤثر على مساحة واسعة هي الأكثر، وهي: الشكاوى، المعاملات المتعثرة، المظالم… غير ذلك، فاللقاءات مهمةٌ جدًّا، والمسؤولون المنقطعون عن الناس يسببون الخلل الكبير في مسؤولياتهم، في نطاق مسؤولياتهم على المجتمع، والمجتمع عادةً يضج ويتألم من ذلك.
فالتواصل مع المجتمع يجب أن يكون نشطاً، سواءً اللقاءات المباشرة، الاتصالات… مختلف أنشطة العمل، التي تساعد على التواصل مع المجتمع، على وصول شكاوى الناس، على النظر فيها، على الاهتمام بأمورهم، الانقطاع عنهم، عن واقعهم، عن مظالمهم، عن شكاواهم، يسبب احتقاناً كبيراً جدًّا، وتكاثراً للمشاكل، ويصنع بيئةً سلبيةً محتقنة، يمكن أن يستغلها الأعداء، ويمكن أن تتكاثر فيها الفتن، وأن تتفاقم فيها المشاكل حتى تصعب، ويصعب حلها.
((ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَبِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ وَقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ))
عادةً ما يكون للوالي من لهم به علاقة خاصة، وارتباط خاص، وقد يستغلون هذه العلاقة الخاصة بالوالي، للاستناد إليها في ظلم الناس الآخرين، أو في تحقيق مكاسب شخصية، بممارساتٍ ظالمة، أو بمصادرة حقوق، وهم يتكئون ويستندون إلى تلك العلاقة الخاصة بالوالي، الذي يوفر لهم الحماية، وهم يتسلطون على الناس.
((فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ، بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ))
لا تفتح مجالاً لذلك، لا تفتح مجالاً لأحد ممن له بك علاقة خاصة، أو ارتباط خاص، أو صلة قرابة، أن يستند إليك، إلى مسؤوليتك، إلى حمايتك، إلى موقعك في السلطة، ثم ينطلق من خلال ذلك ليصادر حقاً، أو يظلم أحداً، أو يأخذ على أحدٍ شيئاً بغير وجه حق، أو يتحرك في ممارسات استغلالية ظالمة، لا تفتح مجالاً لذلك.
((وَلَا تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَحَامَّتِكَ قَطِيعَةً))
الحامة: القرابة، لا من المحيطين بك، ممن هم حولك من أصحابك ومن أعوانك، ولا من قرابتك، ولا من أصدقائك.
((وَلَا تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَحَامَّتِكَ قَطِيعَةً))، تعطيه مثلاً قطعة أرض، تعطيه في منطقة معينة مثلاً مساحة معينة؛ لأنه من أقربائك، أو من أصدقائك، أو له علاقة خاصة بك.
((وَلَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ، تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شِرْبٍ، أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ، يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ، وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ))
أيضاً عندما تعطيهم ما هو حقٌ، إمَّا حقٌ مشتركٌ للناس، فتدخلهم فيه، وبشكلٍ يفرضون لهم فيه أكثر من الآخرين، أو يصادرون فيه حق الآخرين، أو يكون على حساب حقوق الآخرين، مما هو عادةً مشترك، مثل: شرب، مثلاً: منطقة فيها أراضٍ زراعية، وهناك مثلاً شرب إليها، سواءً هذا الشرب نهر، أو بئر… أو أي شيء مشترك بين الناس، أو كذلك يعني ما يأتي من خلال أمطار في مساحة معينة، في مصاب للماء من أودية، أو من جبال… أو نحوها، فتصادر حقوق الآخرين لمصلحتهم هم، أو تحوِّل شيئاً من حقوق الآخرين لمصلحتهم هم، أو تمكِّنهم من الاستئثار على الآخرين في شيءٍ من حقوقهم لمصلحتهم هم، فتمكَّنوا هم من إلحاق الظلم بالآخرين، نتيجةً للاستناد إلى حمايتك، وتمكينك أنت لهم من موقعك في السلطة، أو فرضت لهم في شيءٍ مشترك، سواءً الأرض، أو في تجارة… أو في غيرها، فرضت لهم بشكلٍ إجباري ما استأثروا به على الآخرين، أو فرضوا أنفسهم فيه على الآخرين بما ليس لهم فيه حق، ولم يكن برضا من أولئك الآخرين، ((فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ)): أنت لك من ذلك الوزر فقط، ((وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).
((وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ))
((أَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ))، سواءً كان قريباً لك، أو بعيداً عنك، لا تتعامل مع الناس بتمييز، فإن كان الحق لقريبٍ لك، أو لصديقٍ لك، أو لأحدٍ له بك ارتباط معين، ارتباط شخصي بأي شكلٍ من الأشكال، ثم إذا كان الحق عليه فأنت تتجاهل ذلك، ولا تنصف منه.
((أَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً))
حتى لو عوتبت، لو غضب القريب عليك، لو فقدت صداقة الأصدقاء، وخسرت ود الأقرباء، لو نتج عن ذلك ما نتج.
((وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ))
بل احرص على أن ترسِّخ هذه المفاهيم لدى اقربائك وأصدقائك، أن يعرفوا موقفك في ذلك، وأن يحرصوا هم أن يكونوا هم من يبذلون الحق، من يُنصِفون.
((وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ))
قد يثقل على الإنسان، قد يسبب للإنسان هذا الحرج مع كثيرٍ من أصدقائه وأقربائه، ومن لهم علاقةٌ خاصةٌ به، وقد يبادرونه بالجفاء، والإساءة إليه، والقطيعة له، فليصبر، ولينظر في عاقبة ذلك، فعاقبته محمودة عند الله “سبحانه وتعالى” في الدنيا والآخرة، ولـــذلك قال:
((فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ))
العواقب لهذا الإنصاف، لهذا الالتزام بإعطاء الحق، لهذا الأداء للمسؤولية على الوجه الصحيح، بما الإنسان مؤتمنٌ عليه، ومسؤولٌ عنه أمام الله، لهذا العواقب والأثر الطيِّب، والنتائج الطيِّبة.
((وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً، فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ، وَاعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ، وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ فيهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ))
قد تظن الرعية بك ((حَيْفاً))، يعني: جوراً تجاه مثلاً إجراءات معينة، أو سياسات معينة، أو قرارات معينة، أو تصرفات معينة، وخاصةً مع التشويش، عندما يكون هناك من يشوش، تتخذ أنت مثلاً قراراً ضرورياً، هو حق، وهو لمصلحة الأمة، هو ضرورة، فيه مصلحة للناس، ولكن ليس للناس خلفية عن أسباب هذا القرار، أو عن أسباب هذا الإجراء، أو عن حقيقة هذا العمل، ويأتي من يشوش على ذلك، من يفتري عليك، من يقدِّم الدعايات الكاذبة، من يحوِّل حسناتك إلى سيئات، وإيجابياتك إلى سلبيات، ومواقفك الصحيحة، وأعمالك المهمة المفيدة، إلى أعمال خاطئة بنظر الناس، وهذا يحدث كثيراً، فعليك أن تبيِّن للناس، أن توضِّح لهم، أن توضِّح لهم السبب في ذلك القرار، أو في ذلك الإجراء، وأن توضِّح لهم التوضيح الكافي عن خلفيات ذلك، وما يتعلق به؛ حتى تتضح القضية لهم، لا تترك الأمر ملتبساً عليهم، لا تترك المجال للمشوشين، والمغرضين، والحاقدين، والأعداء، الذين يقدِّمون صورةً مغلوطةً عن خلفية ذلك القرار، أو العمل، أو الأجراء، أو الموقف، وهو حق، وهو في مصلحة الناس، أو هو ضرورة حتمية لمواجهة خطر معين، أو إشكالية معينة… أو أياً كان، وهذا يشمل مختلف الإجراءات؛ لأن الناس عادةً قد تختفي عنهم الحقيقة إذا لم يحصل هذا التبيين، فلا يسمعون إلَّا صوتاً واحداً، هو الصوت الذي يتجه نحو التشويش على المسألة، على الإجراء، أو على القرار، أو على العمل، أو على الموقف، قد يكون الموقف عادلاً، قد يكون حقاً، قد يكون لمصلحة الأمة، قد يكون ضرورياً، ولكن لا يعرف الناس بذلك؛ نتيجةً لعدم التبيين لهم، فلا تتركهم يظنون بك الظنون السيئة لسكوتك وصمتك، وعدم تبيينك وتوضيحك، وتقصيرك في تقديم الحقيقة لهم، هذا مهمٌ لك حتى أنت، تروِّض نفسك على الحق؛ لأنك تدرك أنَّ لقراراتك، لإجراءاتك ردة فعل لابدَّ أن تكون في الموقف الصحيح، الذي عندما تبيِّنه للناس يقتنعون، ويطمئنون، ويكون لك في ذلك الحجة، والبرهان الواضح، والتبرير المقنع، وفيه رفق بالرعية، فيه إعذار أيضاً وإقامة للحجة، و((تَبْلُغُ فيِه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ))؛ لكي يبقى موقفهم في نفس الاتجاه الصحيح.
((وَلَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لِلَّهِ فِيهِ رِضًا))
في الصراع مع الأعداء، عادةً ما يطول الصراع، ويحتاج الناس إمَّا إلى هدنة، أو إلى كذلك إنهاء للمشكلة مع عدوٍ معين بحسب مستوى الصراعات، وأسبابها، وطبيعة الخصوم والأعداء، فعندما يكون هناك دعوة من العدو إلى صلح، وصلح منصف، صلح كما قال الإمام عليٌ “عليه السلام”: ((لِلَّهِ فِيهِ رِضًا))، يعني: لم يتضمن شروطاً، أو فرضيات مجحفة، تمثل إشكالية على الأمة فيما بينها وبين الله، لا يتمكن مثلاً مصادرةً لحقوق الأمة، أو لحق شعب، أو فرضاً لباطل، أو فرضاً لظلم، أو فرضاً لنتائج سيئة، أو مصلحةً للأعداء على حساب كرامة الأمة، ودينها، ومبادئها، وقيمها.
((وَلَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لِلَّهِ فِيهِ رِضًا))، فهذا هو المعيار: ((لِلَّهِ فِيهِ رِضًا))، يعني: لا يتضمن ما ينتقص من الحق، أو يمكِّن أعداء الله، أو يكون فيه ما ينتقص من مبادئ الناس، ما يمكِّن للأعداء منهم، من الانتقاص لسيادتهم، لكرامتهم، لحقوقهم، ليؤثِّروا على مبادئهم، وقيمهم، وأخلاقهم.
((فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ))
يعني: راحةً لهم، يعطيهم هذه الفرصة ليستريحوا البعض من الوقت، وليعدوا الإعداد اللازم.
((وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ))؛ لأن الإنسان في أثناء الحرب عادةً ما يكون مشغولاً بهمِّ الحرب، وهو همٌّ كبير.
((وَأَمْناً لِبِلَادِكَ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ))
-
فأول ما تأخذه بعين الاعتبار في الصلح: ألَّا تقبل بصلحٍ مسخط لله “سبحانه وتعالى”، فيه قبولٌ بالباطل، فيه مصادرةٌ للحق، فيه تنازلات عن مبادئ الأمة، عن كرامتها، تمكِّن أعداءها منها، تسبب لها الظلم، تفتح أبواب الفساد.
-
ثم أن تأخذ بعين الاعتبار في فترة الصلح أن تكون في منتهى الحذر، أن تكون في حالة حذرٍ تام، جهوزية مستمرة، يقظة دائمة، استعداد لكل ما هو متوقع، واستعداد لأي مرحلة يغدر فيها العدو، أو يتجه العدو فيها إلى الاعتداء من جديد.
((وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ)): لا تغفل أبداً، كن في منتهى الحذر، منتهى الاهتمام، منتهى الجهوزية والاستعداد.
((وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ))
ربما حرص العدو على أن يدخل في صلحٍ معك؛ من أجل أن تطمئن، وأن تغفل، وأن تهمل، فيستغل حالة الغفلة عندك، وحالة الإهمال، وفقدانك للجهوزية والاستعداد؛ فيضربك الضربة القاضية.
((فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ))
((خُذْ بِالْحَزْمِ)): فلتسع إلى أن تكن في حالة اهتمام مستمر، انتباه مستمر، جهوزية مستمرة، سعي لرفع مستوى الاستعداد والتجهيز والبناء، بحيث إذا غدر العدو في أي لحظة، تُوَجِّه إليه أنت الضربات القوية، وتخيِّب آماله فيما كان يؤمِّله من غفلتك، من عدم استعدادك، وهذه مسألة مهمة حتى للأمة نفسها، ألَّا تغفل، ألَّا تتوانى في كل ما يلزم من الاستعداد والجهوزية.
((وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ)): لا تحسن ظنك بعدوك، أو تركن مثلاً إلى متغيرات سياسية، قد تقول: [هذه الظروف لا تسمح للعدو بأن يهجم عليّ]، توقَّع هجومه في كل حال، وفي كل ظرف؛ وبالتالي اعتمد على الله “سبحانه وتعالى”، وعلى الاستعداد، والتجهيز، واليقظة المستمرة، واغتنام الفرصة من جانبك في الجهوزية اللازمة، في السعي لأن تكون أقوى مما مضى، في أن تبني واقعك على مستوى أفضل، حتى على المستوى العسكري، والجهوزية، والقوة، والقدرة العسكرية.
((وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوٍ لك عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ))
قد تكون التفاهمات مثلاً في صلح معين مع الأعداء:
-
إمَّا تفاهمات شفوية واضحة، محددة، معلنة.
-
أو قد تكون بشكل عقد، اتفاق، ميثاق معين، أو معاهدة معينة، أو وثيقة معينة.