موقع دولي: اليمن 2023.. عام حسم الخيارات
حال من المراوحة بين التسوية والحسم توّجت عام 2022 بلقب “عام اللاسلم واللاحرب”، إلاّ أنّ استمرار المماطلة والتلاعب بالوقت من قبل دول التحالف يضع صنعاء أمام فرض معادلات جديدة تتعلق خصوصاً بحماية ثروتها.
من أصعب المقالات وأكثرها مجازفة تلك التي تحاول قراءة المعطيات الحالية لمحاولة استشراف المستقبل، ولكنها في نهاية المطاف تبقى فرضيات وتخمينات مبدئية قد تتحقّق وقد لا تتحقق، ليس من قبيل التنجيم بقدر ما هي محاولة على طريقة أهل البحوث العلمية الذين يحاولون الوصول إلى اليقين من الظنيات.
في نهاية عام 2021، وضعنا سؤالاً استشرافياً عن عام 2022: هل يكون عام تسوية أم حسم؟ لم نخِب ولم نصب، إذ كان خليطاً بين الأمرين، ذلك أن “وقائع ملعونة”، على حدّ توصيف أحد الفلاسفة، جاءت من خارج التوقعات والمقاربات النسقية، وولدت من رحم التحولات الإقليمية والدولية، فأفرزت حالاً من المراوحة بين التسوية والحسم، وتوّجت عام 2022 في الحالة اليمنية بلقب “عام اللاسلم واللاحرب”.
ومن المفيد هنا التذكير بأبرز الأحداث العسكرية والسياسية خلال عام 2022، ووضعها ضمن سياقاتها الإقليمية والدولية، لمحاولة قراءة مآلاتها واستنتاج عواقبها، والله وحده يعلم بما سيكون، وهو وحده من يرسم العواقب.
عام المراوحة
بدأ هذا العام عسكرياً بامتياز، انطلاقاً من المعارك البرية الشرسة جداً في مأرب وشبوة وما اقتضته من رد يمني حاسم باتجاه العمقين الإستراتيجيين للسعودية والإمارات، فكانت عمليات “إعصار اليمن” الثلاث باتجاه العمق الإماراتي في كانون الثاني/يناير، و”عمليات كسر الحصار” في الشهر الثالث باتجاه العمق السعودي، جزءاً من الرد على التصعيد العسكري والاقتصادي، وخصوصاً ما يتعلق بالحصار النفطي.
ومع أنّ العمليات شكّلت صدمة إستراتيجية لدول العدوان، وخصوصاً أنّها تزامنت قبيل وبعد اندلاع العملية الروسية في أوكرانيا وما ترتب عليها من تبعات على أسعار النفط، فقد قدمت صنعاء من موقع القوة والاقتدار مبادرة سلام في نهاية آذار/مارس 2022، في لحظة تاريخية وذهبية كانت ستسلب دول العدوان فرصها في استغلال ارتفاع النفط لسد عجزها المالي وتمويل استثماراتها الداخلية.
كابرت الرياض، ولم تردّ على مبادرة صنعاء، لكنَّها أعلنت من جانبها، وبشكل مفاجئ، وقف عملياتها العسكرية في اليمن نهاية آذار/مارس 2022، أي قبل يومين من إعلان ممثل الأمم المتحدة إلى اليمن هانس غراندبرغ سريان الهدنة في 2 نيسان/أبريل، التي نصت على بنود كثيرة، أبرزها تجميد العمليات العسكرية والسماح بدخول 32 رحلة تجارية من وإلى مطار صنعاء لوجهتين فقط (مصر والأردن) وعدد محدد من السفن النفطية. انتهت الهدنة، ومُددت مرتان من دون أن تلتزم دول العدوان بما تعهّدت به.
وحين تبيَّن لصنعاء أن لا جدية لدى دول العدوان في معالجة الملفات الإنسانية، فضلاً عن وقف العدوان ورفع الحصار، رأت أنه لا بد من موقف حازم لفرض استحقاقات إنسانية غير قابلة للتسويف والتأجيل، فأحال الوفد المفاوض الملفّ إلى العسكريين الذين ثبتوا بدورهم عمليات حماية الثروة ومنع سرقة النفط وتهريبه عبر الموانئ المحتلة في المحافظات الجنوبية والشرقية.
وعلى الرغم ممّا رافق تلك العمليات من إرهاب سياسي إقليمي ودولي، فإن صنعاء لم تكترث إلى ذلك، بل لوحت بأنَّ القوات المسلحة جاهزة لخيارات تنهي حالة اللاسلم واللاحرب، لكن المبعوث الأممي والمبعوث الأميركي وبعض الوسطاء الإقليميين حركوا جهودهم الدبلوماسية من أجل احتواء غضب صنعاء.
وفيما انتظرت صنعاء ما ستؤول إليه الجهود على مدى 3 أشهر أعقبت هدنة الأشهر الستة، أدركت أن دول العدوان تماطل في الوقت وتقدم الوعود، فيما الأمور تراوح مكانها من دون حسم، مع تحركات دبلوماسية وعسكرية مشبوهة في المحافظات الجنوبية وفي البحر الأحمر والجزر الإستراتيجية، فجرجرت صنعاء إلى إعلان عدم القبول باستمرار حالة اللاسلم واللاحرب والتلويح بخيارات تأديبية، ثم لم تمضِ سوى أيام حتى أُرسل الوفد السلطاني العماني إلى صنعاء لاحتواء الموقف ومحاولة سد الهوة بين الطرفين، وها هو العام ينتهي من دون حسم في ملف المرتبات، وملف الحصار، وملف الأسرى، وملفات كثيرة.
وعلى الرغم من أنّ عام 2022 اتّسم بالمراوحة والمماطلة وشدّ الحبال، فإنه شكّل نقطة تحول نسبية في مسار الحرب الممتدة على مدى 8 سنوات، فبدأ عسكرياً بامتياز. ومع اندلاع الحرب الغربية الروسية في أوكرانيا، وجد المشغلون الكبار أنَّ من مصلحتهم تجميد الملف اليمني أو تبريده أو تهدئته، لا لأجل مصلحة اليمنيين والتخفيف من معاناتهم الإنسانية والاقتصادية الأسوأ في العالم نتيجة ما تركته الحرب من أعباء على اليمن واليمنيين، إنما حفاظاً على مصالحهم، وخصوصاً فيما يتعلّق بالنفط وطرقه البحرية.
ومن ناحية أخرى، اتضح لأقطاب العدوان على اليمن أن الخيار العسكري لم ولن يحسم لهم معركة، ولم يحقق لهم هدفاً. على العكس تماماً من أهدافهم المعلنة وغير المعلنة، كانت النتائج لمصلحة صنعاء التي تحولت إلى رقم صعب في المعادلة الإقليمية والدولية، وباتت تملك القدرة على التأثير عسكرياً في عصب الاقتصاد الدولي من بوابة سوق النفط العالمية ورد العاصفة إلى العمق الإستراتيجي للدول النفطية.
كما أنّ سنوات الحرب والحصار أكسبت صنعاء خبرة إلى خبرتها وقوة إلى قوتها، فذهبت تراكم قدراتها النوعية، وخصوصاً العسكرية منها، لتتحول من قوة محلية إلى قوة إقليمية، ووجدنا خلال العام 2022 ما وصلت إليه صنعاء في هذا المضمار من خلال العروض العسكرية وما كشفت فيها من قدرات نوعية بحرية وجوية وبرية وعدة وعتاد بتنظيم ودقة عاليين أبهرا الصديق قبل العدو، واتضح للجميع أن اليمن دخل مرحلة تحول مرعبة، وبات يلوح بخيارات ذات أبعاد إستراتيجيّة قد لا تتوقف عند حدوده، بعدما ثبت معادلة حماية الثروة.
كيف سيكون العام 2023؟
حتى الساعات الأخيرة من عام 2022، كان الموقف الرسمي السعودي من المقترحات التي حملها الوفد العماني نهاية كانون الأول/ديسمبر غير واضح، وانتهى العام من دون حسم الملفات التي تعد في العلوم السياسي من بوادر حسن النية وبناء الثقة، أولها الملف الإنساني (المرتبات والحصار والأسرى).
وبالتالي، يبقى الأمل معقوداً على أن يتحقّق تقدّم في الأيام أو على الأقل الأشهر الأولى من العام 2023، تثميراً للجهود العمانية التي وصفتها صنعاء بالإيجابية. وما لم يتحقق تقدم، فإن صنعاء سبق أن أعلنت عدم القبول باستمرار “حالة اللاسلم واللاحرب” إلى ما لانهاية، وهددت بعودة الأمور إلى نقطة صفر.
ليس من مصلحة السعودية ولا أميركا ولا الاتحاد الأوروبي أن تعود الأمور إلى نقطة صفر، وأن تفعّل صنعاء خياراتها ومفاجآتها، وخصوصاً إذا ما ربطنا الأمر بالمتغيرات الدولية، إذ لا يبدو أن هناك أفقاً لحسم الأزمة الغربية الروسية في أوكرانيا، بل إنّ انعكاساتها تتشظى سياسياً واقتصادياً، والعرب في أمس الحاجة لتهدئة في منطقة الخليج ومحيطها حفاظاً على مصلحتهم، كما أنَّ اليمن ليس مستعداً لإبقاء مصالح الغرب مع مصادرة حقوقه ومصالحه وانتهاك سيادته، فإن أرادوا الأمن، فعليهم أولاً أن يحترموا اليمن وسيادته وأمنه وكرامة أبنائه.
من هذا المنطلق، سنكون أمام عدة فرضيات:
– التوصل إلى تمديد الهدنة مع تحسين شروطها، بصرف المرتبات، وتعدد وجهات الرحلات التجارية، وزيادة عدد السفن النفطية إلى ميناء الحديدة، وربما حدوث تقدم ما في ملف الأسرى.
– استمرار المماطلة والتلاعب بالوقت، وبالتالي إقدام صنعاء على فرض معادلات جديدة، إلى جانب معادلة حماية الثروة.
– المراوحة بين التهدئة والعمليات العسكرية.
– محاولة السعودية الانسحاب من المشهد اليمني عسكرياً، مع الرهان على واقع سياسي وجغرافي مفخخ، وبروز دعوات الانفصال والحشد والحشد المضاد، وتأليب الرأي العام في الداخل اليمني على صنعاء.
بعيداً من هذه الفرضيات والتخمينات، قد يأتي من خارج حسابات السياسية والسياسيين أمر من عند الله يقلب كل الموازين، ويرجّح كفة اليمنيين، والعواقب في نهاية المطاف بيد الله وحده، وإن غداً لناظره قريب.
كاتب يمني