من يحيى الشغري إلى العميد يحيى سريع: الهدف واضحٌ ودقيق

لقد قسّمت أسباب الحرب الواحدة على اليمن وسوريا وأحداثها ونتائجها أمّة العرب وأهل المنطقة إلى معسكرين رئيسيين واضحين: معسكر المقاومة والتحرير ومعسكر العدوان والهيمنة والتدمير.

“نؤكّد أنّنا جزء من المعادلة التاريخية التي أعلنها السيد حسن نصر الله؛ أنَّ تهديد القدس يعني حرباً إقليمية، ونؤكّد ثباتنا على موقفنا المبدئي الدينيّ تجاه قضايا الأمة، وفي مقدّمتها الوقوف إلى جانب شعبنا الفلسطيني”- السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي

لم تُقدِّر قوى الهيمنة الغربيّة أنّ الأمور ستسير على هذا النحو؛ فقد بدا أنّ ما أطلقت عليه دوائر الإعلام الاستخباريّ في الغرب اسم “الربيع العربيّ” هو فرصة تاريخيّة سهلة لتغيير وجه هذه المنطقة من العالم، وتحويلها إلى مزارع متناثرة يحكمها مقاولون صغار مفوّضون بعقودٍ غربيّة تضمن لهم امتيازات قليلة ووضيعة، ولكيان الاحتلال الإسرائيلي سيادةً باسم قوى الاستعمار، وبالوكالة عنها.

 وما دام شعار “الحريّة” جميلاً وبرّاقاً وملحّاً في الشارع العربي إلى هذه الدرجة، فلا بد لتلك القوى من أنْ تصادره كما صادرت كل المعاني والرموز والمصطلحات النبيلة وحوّلتها إلى أدوات خبيثة تستخدمها في تركيب مشاريعها وصياغتها.

إذاً، فلتكن “الحريّة”، ولكنْ حريّة من؟ وكيف؟ وأين فلسطين وحرّيتها في هذا الشعار؟ وماذا عن فلسطين والموقف التحرّري منها؟ كان رائعاً وعظيماً بالنسبة إلى السيد الأميركيّ وأداته الإسرائيلية أنّ الكثير ممّن يهتفون للحرية في شوارع العرب لا يهتمّون بمثل هذه الأسئلة ونتائجها.

موسم الصيد الاستعماريّ

شكّلت سوريا المفصل الأهمّ في هذا المشروع، لأنّ دمشق هي آخر عاصمة عربيّة بقيت ترفع رسميّاً وعمليّاً لواء المقاومة والتحرير، وظلّت ملاذاً وسنداً عسكريّاً وسياسيّاً لحركات التحرر العربية، وخصوصاً أنّ سَوْقَ سوريا مُكبّلةً وممزّقةً إلى الحظيرة الغربية يعني ضرب القضية الفلسطينية في القلب، ومحاصرة شعب فلسطين الثائر أبداً في زاوية ضيّقة، تمهيداً لخنقه كي يعلن الاستسلام.

في اليمن، بدت الأمور بغاية السهولة في بادئ الأمر؛ فسرعان ما جهّزت الأدوات الأميركية في الإقليم “مبادرة عربية” تقضي بالقبض على زمام الأمور، عن طريق إزاحة علي عبد الله صالح، وتنصيب نائبه الضعيف والمطيع عبد ربه منصور هادي، لتصبح للسعودية الكلمة الأولى والأخيرة في اليمن. بدا أنّ كلَّ شيء يسير على ما يرام، بما في ذلك وضع مضيق باب المندب وعموم البحر الأحمر في الأيدي الأميركية – الإسرائيلية.

لم يكن أشدّ المتشائمين في قصور الرياض ليتوقّع أنّ اليمن ذاهب باتجاه أنْ يصبح عموداً جديداً لخيمة محور المقاومة، ضارباً في أعتى جبال العرب وأكثرها عزّةً وشموخاً، فسرعان ما تنبّه شرفاء اليمن إلى المشروع الاستعماري الجديد وأدواته الداخلية والعربية، وقرّروا أن يأخذوا بلدهم إلى موقعه الصحيح، إلى حيث يجب أنْ يكون في ضفة فلسطين. وقد كان لهذا العمل ارتداداته المزلزلة في واشنطن والإقليم.

استنفر الأميركيّ أدواته في المنطقة على جميع الجبهات، وكان حمد بن جاسم آل ثاني، رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق، صريحاً وفجّاً في كلامه، حين قال إنّ الولايات المتحدة أمرتهم والسعودييّن بالإجهاز على الدولة السورية، لأنّ مشروع واشنطن الجديد في المنطقة يقتضي ذلك، وأنَّهم صرفوا مليارات الدولارات في سبيل هذا الهدف.

لم يكن فحوى حديث ابن جاسم هو المهمّ والفجّ فقط، بل كانت المفردات بحدّ ذاتها أيضاً نجمة هذا الوضوح وهذه الفجاجة: “تهاوشنا على الصّيدة مع السعوديين”. إذاً، نحن طرائد هذا المستعمر، وهؤلاء أدوات صيده!

وكما في سوريا، كذلك في اليمن، أعلن محمّد بن سلمان حربه على اليمنيين “العُصاة”، وشكّل له الأميركي “تحالفاً عربيّاً” ضمّ كل أدوات الصيد الاستعماري في المنطقة، وبدأت حرب التدمير الممنهج في اليمن بمساعدة لوجستية وعسكرية واستخباراتية أميركية وإسرائيليّة وغربية، على مرأى ومسمع العالم الصامت الَّذي حجب الشمس عن فقراء الكوكب بشعارات الحرية وحقوق الإنسان.

لم يعمل ابن سلمان بنصيحة جدّه عبد العزيز، الذي قيل إنّه أوصى أولاده بالتعامل مع اليمن بحذر شديد، وبعدم التورّط بغزوه تحت أيّ ظرف، لا لأنّ ابن سلمان لا يقرأ التاريخ أو لا يفهمه، بل لأنّ القرار ليس من مهام أحد في قصور جزيرة العرب. إنّها الأوامر.

الصيّاد يتحوّل إلى طريدة

كان واضحاً أنّ المشروع الاستعماري في سوريا يستهدف تقطيع أوصال محور المقاومة في الإقليم، والاستفراد بقواه للإجهاز عليها فُرادى. وقد عبّرت الأدوات السورية عن هذا الأمر بوضوح، حين أعلن برهان غليون، رئيس ما يسمى “المجلس الوطني السوري”، في إحدى القنوات الإعلامية، في أواخر العام 2011، هدف “نقل سوريا إلى الضفة الأخرى” وفكّ تحالفاتها مع إيران وقوى المقاومة في المنطقة، في حين أعلن الناطق باسم ما سُمّي “الجيش السوري الحرّ” بوضوح في قناة “الجديد” اللبنانية، أنّ الهدف التالي بعد “النظام” في دمشق، هو “حزب الله”. ولم يكن الحزب قد أرسل مقاتلاً واحداً إلى سوريا في ذلك الوقت المبكر من العام 2012.

دخل محور المقاومة المعركة بما استطاع من جهدٍ وقوّة إلى جانب الجيش العربي السوري والقوات الرديفة له، في الوقت الذي كانت السعودية والدويلات المتحالفة معها تدكّ بالصواريخ والقنابل كلّ شيء يتحرّك – أو لا يتحرك – منذ آلاف السنين (كالأوابد التاريخية الأثرية) في اليمن.

وتحت حمم القصف، كان اليمنيون يقاتلون وحدهم ببسالةٍ، حيث لا منفذ لأيّ داعمٍ أو نصير ميداني بسبب الحصار الخانق الذي تفرضه قوى العدوان، وكانت تظاهرات الغضب لأجل فلسطين تعمّ شوارع صنعاء وصعدة وغيرها من مدن اليمن. كان الشعار يرتفع عالياً هناك، معلناً تموضع اليمن بوضوح في قلب محور المقاومة ضد قوى الاحتلال والهيمنة وأدواتها في المنطقة.

جاء نصر سوريا وإفشال المشروع الغربي – الإسرائيلي فيها نتيجة منطقيّة للقتال الضاري الَّذي خاضه السوريون ومحور المقاومة وحجم التضحيات التي قدّموها هناك. وبدلاً من أنْ تسقط سوريا، ويتمزّق محور المقاومة في بلاد الشام والعراق، وتحاصَر فلسطين من كلّ جانب، اضطرّ كيان الاحتلال الإسرائيلي إلى دخول الحرب على سوريا بأشكال مباشرة وغير مباشرة، لأنّ طلائع قوى محور المقاومة باتت على حدود فلسطين المحتلة عند القنيطرة السورية؛ تنشئ النقاط وتجهّز لحربٍ يبدو أنّها باتت خبيرةً في اجتراع سُبل النصر فيها.

وجاءت معركة “سيف القدس” لتكشف عمليّاً وميدانيّاً نتائج الحرب السورية على قوى المقاومة، ولتثبت بالفعل الشّعار الذي أطلقه أحد أبرز قادة هذا المحور؛ السيد حسن نصر الله: “سنكون حيث يجب أنْ نكون”.

وفي هذا الوقت، كان الجيش اليمنيّ واللجان الشعبية يقاتلون على الحدود السّعودية، وداخلها أحياناً، وبدأت قوى المقاومة في صنعاء بدكّ مُهَج قلوب قوى العدوان والهيمنة العالمية داخل المملكة، في “أرامكو” بقيق وجدة والظهران ورأس تنّورة، بالصواريخ البالستية وأسراب الطائرات المسيّرة التي تحمل رعباً يمانيّاً غير منتظر، ليجنّ جنون الغرب الذي توقّع أنّ المعركة في اليمن أسهل بكثير من نظيرتها في سوريا.

اليمن: العدو واحدٌ والهدف أيضاً

إذا كانت الحرب على سوريا غيّرت وجه المنطقة، وأفضت إلى صعود محور المقاومة ومحاصرة أصل العدوان ودرّته الجاثمة على صدر فلسطين المحتلة، فإنّ الحرب على اليمن أكملت قوس المقاومة، وأعادت الشرق إلى مكمن القوة، ووضعته، بمن فيه، تحت اختبار الشرف والحريّة، وكشفت ما تبقى من عورات أدوات الاحتلال في المنطقة.

لقد اتّبعت قوى العدوان على اليمن الأساليب الإسرائيلية نفسها في القتل والتدمير والحصار والتجويع وتأليب العالم في المنابر الدولية، ومن خلال منصات الإعلام العالمي، على مقاومي اليمن وأطفاله وشيوخه ونسائه، ورصّت الجوقات نفسها من “النّخب” العربية التي تُحرّض على قوى المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق في مواجهة اليمنيين، واستماتت في محاولات استحضار أقوال أكاسرة الفرس من عمق التاريخ، وكل مفردات “المشروع الإيراني” المُخترَع إسرائيليّاً، وشعارات النزاعات الطائفية المذهبية التي تحرف الصراع عن حقيقته، وتشوّه نضال الشعب اليمني المظلوم وتضحياته، في الوقت الذي كانت مآتم العزاء وصالات الأفراح والمدارس ومؤسسات الشعب اليمنيّ تتلقّى حمم القذائف والصواريخ السعودية والإماراتية، الأميركيّة الصنع والتوجيه، لتتعدّى أرقام شهداء اليمن عشرات الآلاف.

لا شيء هنا، على كلِّ المستويات، يختلف عن مظاهر حربٍ إسرائيليةٍ على غزّة أو جنين أو لبنان، أو حربٍ أميركيةٍ على العراق أو سوريا، سوى استبدال أسماء المواقع، فـ”إسرائيل” اضطرّت إلى أنْ تحضر بقوة هنا أيضاً في غرف عمليات الحرب على اليمن، وتدافع عن احتلالها لفلسطين، وعن حلفائها الذين يحمون احتلالها لفلسطين ويعملون بكل قوة من أجل تحقيق هدف سيادتها في المنطقة، إلى درجة اختراعهم دِيناً جديداً يُصنّف كلّ مقاوِمٍ في فئة “الأغيار” الذين لا يستحقون العيش إلى جانب “أبناء إبراهيم” الجدد.

لقد قسّمت أسباب الحرب الواحدة على اليمن وسوريا وأحداثها ونتائجها أمّة العرب وأهل المنطقة إلى معسكرين رئيسيين واضحين: معسكر المقاومة والتحرير ومعسكر العدوان والهيمنة والتدمير، ولم تترك سوى هامش صغير للرماديين من المنتفعين الصغار والجبناء، الذين يساوون بين المجرم والضحية، ويستكثرون على اليمني أو السوري أن يدافع عن نفسه وينهض ليختار مكاناً كريماً تحت شمس العالم، ولا يرون أيّ شبحٍ لفلسطين وقضيتها في كلّ هذا الصراع الدّامي الذي يدور حولها ولأجلها. وقد تجلّت مظاهر هذا التقسيم والانقسام العموديّ في حربٍ عسكريّة وسياسية وإعلامية واقتصادية على كلِّ قوى وشعوب المقاومة؛ حرب حتى الموت قتلاً أو جوعاً.

معجزة المقاوَمة

وبعد أنْ استسلموا لأمر المقاوَمة الواقع في بلاد الشام، وحتى قبل ذلك، ربّما لم يتوقّع أحد في العالم الغربي وأدواته من قوى العدوان أنّ هذا اليمن الذي جرى العمل على إضعافه وإفقاره واستتباعه بأدوات الهيمنة الإقليمية لعقود طويلة، سيتحوّل خلال سنوات قليلة، وتحت القصف والقتل والعدوان المستمر على مدار الوقت، إلى قوةِ مقاوَمةٍ إقليمية باسلة وشديدة البأس، تقلب معادلات المستعمر رأساً على عقب في المنطقة؛ هذا اليمن الذي باتت صواريخه تظلّل مضيق باب المندب الحيويّ، وتشرف على قواعد قوى الهيمنة في الخليج، وعلى مصادر الطاقة المكرّسة لخدمة هذه القوى، والمستخدَمة على مدى عقود من الزمن ضد شعوب المنطقة وقضاياها.

إنّها معجزة يمانيّة بكل المقاييس؛ أنْ يجترح هذا الشعب العربي الأبيّ الذي يُشكّل أصل العرب ونسبهم الأوّل أدوات انتصاره من العدم، بفعل عقول أبنائه وعلمهم واجتهادهم وإصرارهم وإيمانهم بعدالة قضاياهم، أنْ يرفع لواء فلسطين بيدٍ جريحةٍ مدمّاة، ويشهر باليد الأخرى بندقيّته في وجه وحوش العالم، ويمضي إلى الأمام منتصراً ومُنكّلاً بقوى العدوان التي اعتقدت أنّ بإمكانها أن تسطو على هذا البلد وعلى قراره ومستقبله، وتحوّله إلى ممرّ ومقرّ وقاعدة للطامعين بوطننا وثرواتنا، وأنْ تسرق العروبة من أهلها وتقدّمها هدية لكيان الاحتلال الصهيونيّ على مذبح التطبيع.

لم تعد صنعاء بعيدة عن دمشق، فقد طوّع أهل الشام واليمن الجغرافيا، كما طوّعوا معادلات الحروب، ووضعوا القدس وغزّة والجليل في قلب كلّ معاركهم الحالية والقادمة، علامةً خضراء على الخرائط، وهدفاً أساسيّاً لا رجعة عنه، لأنّ المستعمر وأدواته علّمونا ذلك أيضاً، ولأنهم قرروا ذلك: إنّ فلسطين في دمشق وبيروت وبغداد وطهران وصنعاء، فإنْ انتصرنا على أيّ جبهة من هذه الجبهات، تنتصر “إسرائيل” في فلسطين وعلى فلسطين.

وقد قرأ أهل المقاومة في اليمن والشام والمنطقة الكتاب جيّداً هذه المرة، وعملوا وقرّروا أنْ ليس أمامنا سوى النصر انطلاقاً من بيوتنا المدمّرة وصولاً إلى فلسطين. ولعلّ البحر الأحمر، بما يحمل من بوارج وسفن قلقة باتت تشكّ حتى في موجةٍ غاضبة، لعلّ برج خليفة الشاهد على سطوة الرأسمالية في منطقتنا، والذي حجب اليمنيّ أنواره التي تعمي عيون الفقراء باختبارٍ واحد، لعلّ “أرامكو” ورمزيّتها في قلوب ناهبي العالم وعقولهم، لعلّ الإسرائيليّ الذي بات كلّ الليالي التي تلت استهداف الإمارات، يحسب المسافة بين صنعاء وإيلات، بعد أنْ قاس لألف مرّةٍ المسافة بين صنعاء وأبو ظبي، بل لعلّ اليمنيّ الحافي الذي ارتمت تحت قدمه درّة الصناعات الحربية الأميركيّة خانعةً ذليلة، وأهداها للريح بولّاعةٍ صغيرة، لعلّهم جميعاً شهود على أنّنا لم نعد طرائد فزِعَة، وأنّ الحرب على المقاومة على امتداد الأرض العربية فتحت الباب أمام عصر التحرير، أمام زمن استعادة الكرامة العربية من حيث يجب، من المكان الذي سطعت فيه شمس العرب على العالم ذات يوم، من اليمن والشام.

 

كاتب سوري

قد يعجبك ايضا