من “منبوذة” إلى “شريكة استراتيجية”.. لماذا يعيد بايدن ترتيب أوراقه مع الرياض؟
تأتي زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، للسعودية بعد أشهر من العلاقات الدبلوماسية الفاترة بين البلدين، وستمثّل تحولاً في موقف بايدن الذي وصف السعودية سابقاً بأنّها “منبوذة” و”بلا قيم اجتماعية”.
“لقد بدت العلاقات السعودية-الأميركية بين ملك يفكّر كشركة نفط وبين شركة نفط تفكر كملك”. (ريتشارد سانغر- كتاب تخوم عربية)
في أحدث أشكال التقارب السعودي الأميركي، سيلتقي الرئيس الأميركي، جو بايدن، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، للمرة الأولى، خلال زيارته المرتقبة للسعودية في اليومين المقبلين. وسيقوم بايدن بزيارة جدة في إطار جولة تستغرق 4 أيام في الشرق الأوسط، بدأها أمس بوصوله إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة ولقائه مع رئيس حكومة الاحتلال يائير لابيد.
وسيأتي هذا الاجتماع بعد أشهر من العلاقات الدبلوماسية الفاترة بين البلدين، وسيمثّل تحوّلاً في موقف الرئيس الأميركي، الذي وصف السعودية، خلال حملته الانتخابية السابقة، بأنّها “منبوذة” و”بلا قيم اجتماعية”، إلا أنّ هذه التصريحات والشعارات أزاحتها مؤخراً البراغماتية الأميركية جانباً، لمصلحة أولويات أخرى نجمت عن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لتنتهي انتقادات بايدن إلى تأكيده مؤخراً “الشراكة الاستراتيجية” التي تجمع واشنطن والرياض منذ 80 عاماً.
في العادة، يكون الاجتماع بين القيادتين الأميركية والسعودية روتينياً، لكنه سيمثل، هذه المرة، تحوّلاً في ظل تدهور العلاقات بين الجانبين، ومن المتوقع أن يسبب بعض الجدل في الداخل الأميركي لبايدن، الذي كان أحد منتقدي سجل السعودية في مجال حقوق الإنسان، واستمرار حربها على اليمن، إلى جانب تورّط السعودية في مقتل مواطنها الصحافي جمال خاشقجي.
منذ تسلّم جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة قبل عام ونصف، مرّت العلاقات السعودية الأميركية بأسوأ فترة لها، منذ التحالف التاريخي بين البلدين، بعد الحرب العالمية الثانية. وتجاهل بايدن التعامل مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة، لكن الرئيس الديمقراطي يتجه إلى إعادة العلاقات إلى طبيعتها، بعد تأكد اللقاء بين الرجلين.
هذه الزيارة، وهي الأولى لبايدن إلى الشرق الأوسط كرئيس، تهدف، بشكلٍ أساسي، إلى إعادة تأكيد نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، بعد الحديث عن تراجع أميركي في الشرق الأوسط، بهدف التركيز أكثر على منطقة المحيط الهادئ، إلى جانب أهدافٍ أخرى عديدة تتعلق بمحاولة واشنطن الضغط على السعودية لزيادة إنتاج النفط، إلا أنّ ملف النفط ليس القضية الوحيدة التي سيتمّ نقاشها، إذ تبقى عدة ملفات عالقة بين البلدين شهدت تحولاً في المواقف وتنتظر بتّها.
مقتل خاشقجي.. أساس تدهور العلاقات
تعود أصول فتور العلاقة الثنائية إلى قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، داخل سفارة المملكة في إسطنبول. وكانت إدارة بايدن قد رفعت، بعد شهر واحد من وصولها إلى السلطة، السرية عن تقرير استخباراتي خلص إلى أنّ محمد بن سلمان أمر بقتل خاشقجي، وهو أمر لطالما زعمت السلطات السعودية أنّها لم تفعله.
واكتفت إدارة بايدن، منذ ذلك الوقت، ببعض الاتصالات الهاتفية مع الملك سلمان بن عبد العزيز، البالغ من العمر 86 عاماً، إذ صرحت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، حينها أنّ الرئيس الأميركي سيتحدث مع نظيره الملك سلمان، وليس مع ولي العهد. هذا الأمر أغضب الأخير، وجعله غير راضٍ عن معاملة إدارة بايدن له.
اللافت في هذا الأمر أنّ تصرفات بايدن خالفت ما كان قد صرّح به قبل توليه الرئاسة، ففي مناظرة رئاسية، في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، جزم بأنّه في حال انتخابه رئيساً، ستتوقف إدارته عن بيع الأسلحة للسعودية لاستخدامها في حربها ضد اليمن، وأنه سيعاقب “المسؤولين السعوديين الذين قتلوا خاشقجي”.
حينها، سُئل بايدن: “الرئيس ترامب لم يعاقب كبار القادة السعوديين.. هل بإمكانك فعل ذلك؟”، فأجاب: “نعم، لقد قُتل خاشقجي وقُطعت أوصاله بأمر من ولي العهد السعودي. أودّ أن أوضح أننا لن نبيع لهم المزيد من الأسلحة، إذ يذهبون بها إلى اليمن ويقتلون الأطفال والأبرياء، لذا يجب محاسبتهم وسنجعلهم يدفعون الثمن، كمنبوذين، كما هم”.
إلا أنه بعد عامين ونصف من حكم بايدن، استمرت مبيعات الأسلحة الأميركية إلى السعودية بلا هوادة، ولم يُحاسب أحد على مقتل الصحافي السعودي، ما يشير إلى أنّ بايدن يبدو وكأنه طوى صفحة خاشقجي، من دون أن يتخذ أي إجراءات لمحاسبة السعودية على اغتيال مواطنها.
مطالب بدعم أكبر للحرب على اليمن
لا يتوقف عدم الرضى السعودي عند ملف خاشقجي، فهم غير راضين أيضاً عن نهج إدارة بايدن في التعامل مع حرب الرياض على اليمن. وعلى الرغم من أنّ بايدن خالف وعوده الانتخابية، وشحن إلى السعودية صواريخ وقنابل بمئات ملايين الدولارات، تصاعد الغضب السعودي في وقتٍ لاحق بعد شطب الإدارة الأميركية حركة “أنصار الله” اليمنية عن قائمة الإرهاب، في شباط/فبراير 2021، وتخفيضها الدعم العسكري وتجميد مبيعات القنابل الذكية للجيش السعودي. وعبّرت الرياض عن قلقها من سحب عدد من أنظمة الدفاع الصاروخية، في حزيران/يونيو الماضي، في وقت زاد اليمنيون ضرباتهم الصاروخية، فيما بررت واشنطن سحب بطاريات “باتريوت” بذريعة حاجتها إلى الصيانة.
وبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، يريد السعوديون مزيداً من الدعم في اليمن، وتعزيز دفاعاتهم ضد الصواريخ والمسيرات التي يطلقها الجانب اليمني. وليس متوقعاً أن يستجيب بايدن، إذ تدور شكوك حول قدرته على تنفيذ معظم الطلبات السعودية، نظراً إلى غياب الدعم للسعودية في الكونغرس الأميركي، وخصوصاً بين الديمقراطيين، فقد طالب 30 مشرّعاً ديمقراطياً بمن فيهم قادة لجان الشؤون الخارجية، في 13 نيسان/أبريل، إدارة بايدن باتخاذ موقف متشدد من السعودية بسبب موقفها من الحرب في أوكرانيا، ورفض زيادة معدلات إنتاج النفط.
السعودية والصين.. تقاربٌ خطِر
غضب الرياض تجاه واشنطن في ما يخص ملفي خاشقجي واليمن، يقابله قلق أميركي تجاه السعودية، بسبب تعزز علاقتها بالصين في الفترة الأخيرة، في المجالين الاقتصادي والعسكري على السواء، ما يهدد بإرباك تحالفها التاريخي مع واشنطن.
ومنذ العام 2015، مع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز وابنه محمد مقاليد الحكم في البلاد، شهدت العلاقات بين الرياض وبكين تطوراً متسارعاً، وصولاً إلى كشف تقارير عن توجيه السعودية ثقلها للاستثمار داخل الصين، إلى جانب تنفيذ مشاريع واستثمارات صينية في السعودية.
بطبيعة الحال، فإنّ واشنطن لا ترغب بالسماح بتوطيد العلاقة بين البلدين، ولا سيما أنّ الصين تعدّ أكبر شريك تجاري للمملكة، وأكبر عميل لشركة “أرامكو” السعودية، ذلك لأنّ العلاقة الأميركية – السعودية قامت سابقاً على أساس تقديم الولايات المتحدة الدعم العسكري للمملكة ضد “القوى المعادية”، مقابل تدفق غير منقطع للنفط وبأسعار معقولة. إلا أنّ الاقتصاد الذي يدعم العلاقة تغير، فلم يعد السعوديون يبيعون نفطاً بكميات كبيرة للولايات المتحدة، وزبونهم الأكبر أصبح الصين، الأمر الذي أعاد تكييف المصالح السياسية والاقتصادية السعودية.
وقد أثار الحديث، مؤخراً، بشأن إمكانية اعتماد اليوان الصيني بدلاً من الدولار في المبيعات النفطية بين الصين والسعودية، المخاوف من إمكانية أن تنحاز السعودية إلى جانب روسيا، مع تزايد حدة التوترات الجيوسياسية جراء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. ويرى خبراء أنّ السماح بدفع ثمن النفط باليوان قد يمهد الطريق أمام إنشاء نظامٍ مواز للمدفوعات الدولية سيحتل فيه اليوان أهمية وقوة على غرار الدولار الأميركي. كذلك، سوف يصب ذلك في مصلحة محاولة روسيا تجاوز العقوبات التي فرضتها الدول الغربية، إذ يمكن لموسكو استخدام اليوان أيضاً، وهو الأمر الذي لا ترغب الولايات المتحدة في حصوله.
النفط.. الهدف الأساسي
إلى جانب الملفات المذكورة أعلاه، يحتل حرص إدارة بايدن على ضمان زيادة الصادرات من النفط وتعويض النقص الحاد الذي نشأ بعد الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية على روسيا أولوية قصوى في هذه الزيارة، إذ يسعى الرئيس الأميركي إلى الضغط على السعودية من أجل خفض أسعار الصادرات، بسبب الانعكاسات السلبية لزيادة الأسعار وحالة التضخم وتعويض مصادر الطاقة الروسية، وهو ما انعكس بشكلٍ مباشر على مستوى رفاهية المواطن الأميركي في الولايات المتحدة، ما أدى إلى تراجع شعبية الحزب الديمقراطي، وأثر في شعبية بايدن وإدارته عشية الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي.
لكن شكوكاً ظهرت بجدوى ضخّ السعودية المزيد من النفط في السوق العالمية، وهذا ما أشارت إليه الصحافية في موقع “بوليتيكو“، أريانا سكيبل، التي رأت أنّ المملكة العربية لا تملك الكثير من النفط لتقدمه لبايدن، فهي تواجه أصلاً صعوبات في تحقيق أهداف الإنتاج، كما أنّ خلقها زيادة في معدل الإنتاج سيتطلب أن تتوصل المملكة إلى إجماع في تحالف “أوبك بلس”، الذي اعتمد في أيار/مايو 2022 استراتيجية تقضي بزيادة حجم الإنتاج على مراحل.
وتفيد الصحافية بأنّ إغراق السعوديين السوق العالمية بمزيد من النفط، لن يضمن انخفاضاً في أسعار البنزين، والتي تشهد ارتفاعاً غير مسبوق في الولايات المتحدة، لأن التقلبات في أسعار النفط، خلال الأسابيع القليلة الماضية، غير مرتبطة بالاضطرابات في الإمدادات، وفق ما يقول بين كاهيل، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
الصدع الذي كبر بين الرياض وواشنطن، تسعى الأخيرة لرأبه من خلال التقارب مع السعودية في ملف النفط، وهو الأمر الذي تحدث عنه الإعلام الإسرائيلي، إذ لمّح إلى أنّ ما يهم بايدن في زيارته الشرق الأوسط هو موضوع النفط وحاجته إلى السعودية في هذا الأمر، مشيراً إلى أنّ الرئيس الأميركي، الذي سيصافح من أعلن عنه أنّه “منبوذ”، غلّف موضوع حاجته إلى تفاهمات تتعلق بالنفط مع السعودية، بعملية تعاون إقليمية بين دول عربية و”إسرائيل”.
بعد إعلان بايدن نيته زيارة السعودية، ناشدت خديجة جنكيز (خطيبة جمال خاشقجي)، الرئيس الأميركي إلغاء زيارته، ودعته إلى الوفاء بوعده بالسعي لتحقيق العدالة لجمال. وقالت جنكيز: “الرحلة ستزيد بشكل كبير من حزننا ويأسنا”، متساءلةً: “لماذا تمنح العائلة المالكة السعودية تصريحاً لأعمالهم المشينة، هل هذا سعر النفط؟ من الواضح أنه كذلك”
: