من مأرب إلى بيروت.. سيناريوهات سعودية صهيونية مكشوفة ومرصودة..
Share
لم يأت الموقف السعودي تجاه لبنان من فراغ، وإنما له أسبابه ومقدماته التي تتعلق بصراع الميدان والإرادات بين تحالف العدوان وحلف المقاومة على مصير المنطقة ككل، وشعور أسرة بني سعود بالخطر الوجودي على نظامهم.. قرب تحرير أنصار الله لمدينة مأرب، وما يعنيه هذا التحرير من تبدل استراتيجي في موازين القوى والقوة الإقليمية، التي تمتد أبعد من اليمن لتشمل كامل المنطقة، أشعل أكثر من ضوء أحمر في قصور بني سعود.
ومع انسداد الأفق أمامهم في سورية بعدما حسمت مخططات إسقاطها في براثن مشروع تحالف العدوان وعصابته الإرهابية الوهابية الإخوانية، والعراق الذي لم يتمكن بنو سعود من فرض هيمنتهم عليه، بقي أمامهم الساحة اللبنانية، لكن حتى في هذه الساحة التي توهموا أنهم يستطيعون اللعب فيها أظهرت أنها لم تعد طوع أيديهم.
مشكلة بني سعود العويصة أنهم أظهروا سياسة بعيدة عن الأصول الدبلوماسية الناضجة، وتتسم بالغطرسة والحرد والحقد، وهذا ما ظهر من اختيار تصريحات وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي عن عبثية العدوان السعودي على اليمن، واتخاذها ذريعة لفتح معركتهم ضد المقاومة، لأن هذه التصريحات جاءت قبل أن يتولى قرداحي منصبه، وبموقف يقوله مسؤولون عرب وأجانب وأمميون كل يوم تقريباً، مما أكد أن هذه المعركة “العبثية” التي افتتحها السعوديون ليست سوى ذريعة واهية، تخفي وراءها هدفهم الرئيسي، وهو محاولة استهداف المقاومة اللبنانية، ارتباطاً بالمصير الأسود الذي ينتظرهم في مأرب.
هذا السلوك العدواني جاء بعد فشل أهداف الحصار الأمريكي للبنان، ومحاولات السعودية منع وصول أي دعم لإنقاذ الشعب اللبناني، والذي حولته المقاومة اللبنانية إلى انتصار جديد في معركة صراع الإرادات مع تحالف العدوان، باستقدام بواخر النفط الإيرانيّة عبر ميناء بانياس السوري، دون أن يجرؤ الأمريكي و”الإسرائيلي” على اعتراضها طيلة مسارها بعدما أعلن السيد حسن نصر الله السفن أرضاً لبنانية منذ لحظة انطلاقها من الموانئ الإيرانية.
كما جاء بعد فشل محاولات جر لبنان إلى فتنة طائفية عبر كمين الطيّونة الذي نفذه حزب “إسرائيل” في لبنان، والأداة السعودية، حزب القوّات اللبنانية بقيادة العميل سمير جعجع، إلا أنّ حزب الله عبر سياسة الصبر الاستراتيجي التي يجيدها، وما يمتلكه أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله من حكمة وحنكة، تمكن مرة جديدة من تجاوز هذا الكمين، وتحويله إلى صدر جعجع وحزبه ومن ورائهم السعودية والكيان الصهيوني وأمريكا، حيث ظهر جعجع مربكاً وخائفاً، وسجلت الجريمة في حسابه، بانتظار الوقت المناسب لكشف هذا الحساب.
ما يؤكد أن كل ما جرى كان مدروسا ومخططا له هو أن الهجمات العدوانية السعودية على لبنان جاءت متزامنةً مع انطلاق المناورات “الإسرائيلية” على الحدود الفلسطينية المحتلة مع سورية ولبنان تحت عنوان “العلم الأزرق” وقيام جيش الاحتلال “الإسرائيلي” بنصب أجهزة رصد متطوّرة، منها منطاد ضخم باسم “تال شمايم” للكشف المبكر عن أيّ “تهديدات أمنيّة” على الحدود مع سورية ولبنان، بحسب ما كشف عنه موقع “والا” الذي يستقي معلوماته من الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية”.
وكشف الموقع أيضاً أن الجيش “الإسرائيلي” استدعى بشكل مفاجئ قوات من الاحتياط في وقت يتمّ فيه الإعداد لتدريبات عسكرية مكثّفة أخرى في “إيلات”.
كما جاء هذا التناغم بين الإجراءات العدوانية السعودية و”الإسرائيلية” متزامناً مع الرحلة السرية لطائرة خاصة بين مطاري بن غوريون والرّياض، والتي أقلّت وزير الحرب “الإسرائيلي” بيني غينتس إلى السعودية، وكان المفترض أن تُحاط هذه الزيارة بسرّية تامة قبل أن يتم الكشف عنها من الجانب “الإسرائيلي”، وتسريب معلومات عنها إلى وسائل الإعلام، وما رافقها من تحليلات أكدت أن الهدف من الزيارة هو تنسيق التحرك حول لبنان والتطورات الميدانية الهامة في مأرب وقرب هزيمة السعودية فيها وتحريرها من قبل أنصار الله، والذي تعتبره الأوساط السياسية والعسكرية “الإسرائيلية” هزيمة لها كما هي للسعودية، وهذا ما أكدته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي قالت بكل وضوح إنّ “تحرير مأرب يشكّل مصدر قلق وتهديد لإسرائيل”، وأنّ “هناك قوس تهديدات مشترك مع السعودية”.
أما موقع غلوبس “الإسرائيلي” فقد أكد أنّ الهدف الرئيسي لزيارة غبنتس إلى السعودية هو مطلب الأخيرة شراء التكنولوجيا من “إسرائيل” وحاجة الرياض إلى منظومات “إسرائيلية” لمواجهة “الحوثيين” في اليمن، كما لمواجهة إيران.
ونقل الموقع عن إيان غرينهالغ، الخبير الأمريكي في الشؤون العسكرية، إشارته إلى اتفاق بين الجانبَين “الإسرائيلي” والسعودي بخصوص لبنان، كاشفا أنّ مغريات ماليّة ضخمة عرضها السعوديون على “تل أبيب” لشنّ حرب على حزب الله في لبنان.
غرينهالغ سبق وكشف لمجلّة “ميليتري توداي” الأمريكية، أنّ “إسرائيل” تشارك السعودية في الغارات الجوية على اليمن، وأنها هي من أسقطت قنبلة نيوترونية على جبل نقم اليمني في أيار/مايو 2015 بطلب سعودي، وأكّد أنّ تنسيقا أمنيا غير مسبوق يجري على قدم وساق بين “تل أبيب” والرياض، تزامنا مع التقدم الكبير للمقاتلين “الحوثيّين” في مأرب، حيث أنّ “تحرير المدينة يعني هزيمة كبرى للسعودية في اليمن، وبالتالي يُصبح انتقامها من إيران أو حزب الله أمرا واقعا”، وهو ما تحدث عنه أيضاً موقع “والا” الذي نقل عن ضابط كبير في قيادة المنطقة الشمالية أنّ المناورة العسكرية “الإسرائيلية” المستمرّة تهدف إلى الاستعداد لتوغّل مفاجئ لقوات من حزب الله داخل الجليل، وأن “الوضع في لبنان ليس مستقرا ولن يستقرّ، والأسابيع القادمة لن تكون سهلة”.
ومع عدم التقليل من الإمكانات التي يمتلكها السعوديون و”الإسرائيليون”، أقله القدرة على شن الاعتداءات والتدمير، فإن الجانبين، ينطبق عليهما المثل الذي يقول: “التم المتعوس على خائب الرجاء”. فالسعودية اختارت في معركتها الدونكيشوتية في لبنان الزمان والمكان غير المناسبين، والذريعة الواهية، والاستعانة بالطرف غير المناسب، وبخطط مكشوفة للمقاومة، مما مكن المقاومة ليس فقط من التصدي لهذه المخططات وإفشالها، وإنما ردها إليهم، وبما يؤكد أن زمن الهيمنة السعودية على لبنان في طريقه إلى النهاية.
فقد فشلت في الانتقام من الوزير قرداحي الذي ظهر مسنوداً ببيان حزب الله المؤيد لموقفه المشرف، ومن رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، الذي رشحه للوزارة، ومن الرئيس عون بوقوفه على الحياد الإيجابي تجاه الوزير قرداحي، وظهور حلفاء السعودية بمن فيهم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مربكين، حيث لم يجرؤ ميقاتي على الذهاب أكثر من التمني على الوزير قرداحي اتخاذ زمام المبادرة بنفسه والاستقالة، وهذا لم يحدث، فيما غاب العميل سمير جعجع عن السمع تماماً، بعدما أمن له البطريرك بشارة الراعي غطاء -إلى حين- مستفيداً من تناقضات الوضع اللبناني لحمايته من المصير الذي وصل إليه عام 1994 بدخوله السجن، وحل حزب القوات بعد ثبوت ارتكابه جريمة تفجير كنيسة سيدة النجاة في كسروان وجرائم أخرى.
الخيبة السعودية ظهرت بوضوح في تسريب صحيفة “عكاظ” تسجيلاً لمجلس خاص لوزير الخارجية اللبناني عبد الله أبو حبيب الذي عبر عن مدى الخيبة التي تسود اللبنانيين شعباً ومسؤولين، وحتى من المحسوبين على السياسة السعودية، من طريقة تعامل السعوديين معهم، واستخدام الإعلام السعودي لغة سوقية في وصف كل من لا يجاريهم من الساسة اللبنانيين في حقدهم على بلدهم، وتشبيههم بأوصاف تخلو من أي لباقة، مثل “ورق تواليت”… وبالتأكيد لم يكن هذا ليحدث لو نجحت السعودية في مخططها العدواني على لبنان.
أما الكيان الصهيوني فلم يكن في موقفه بأفضل من النظام السعودي، بعدما لجمه السيد نصر الله مسبقاً بخطابه المخصّص لكمين الطيونة، وتفجيره “قنبلة” الـ100 ألف مقاتل التحذيريّة، التي تتجاوز حزب القوّات إلى مشغّليه في الخارج، وهي الرسالة التي وصلت أصداؤها سريعا إلى “تل أبيب” وما بعدها، وبدا واضحا انشغال وسائل الإعلام العبريّة بمحاولة تفكيك رموزها.
أما المشكلة العويصة والمستعصية عند الكيان الصهيوني فهي اعترافهم بأنهم غير جاهزين لخوص معركة مع المقاومة، وهو ما تعبر عنه وسائل الإعلام العبرية بشكل يومي، ويؤكده مسؤولون سياسيون وأمنيون كبار في الكيان الصهيوني، وهو ما أكده الجنرال احتياط يتسحاك بريك، بقوله إن “الجيش الإسرائيلي غير مستعد للحرب المقبلة التي ستكون على أكثر من جبهة، وستتعرض فيها الجبهة الداخلية الإسرائيلية لخسائر كبيرة جدا”.
وكان لافتاً تسريب قول لأحد القادة البارزين في محور المقاومة يؤكد فيه أنّ “الرّد على أيّ سيناريو عدائي مباغت ضدّ لبنان قد تمّ تجهيزه”، وحُدّدت الأهداف التي ستكون خارج الحسابات “الإسرائيلية” وأن هذه الخطط “التي باتت جاهزة للتنفيذ (أصبحت) في متناول حركة أنصار الله” اليمنيّة، حيث ستُمثّل حدثا عسكريا غير مسبوق هذه المرّة، في المرميَين السعودي والصهيوني على السّواء.
وبالتأكيد، فإن الاشتباك الإيراني الأمريكي في خليج عُمان، والقدرة الكبيرة التي أظهرها الإيرانيون في هذه المعركة، التي أخرست الألسن الأمريكية و”الإسرائيلية”، سيزيد مشاعر الإحباط والخوف عند النظامين السعودي و”الإسرائيلي”.
ولأن البدايات الخاطئة تعطي نتائج خاطئة، وقد تكون كارثية، فإن الأجواء في لبنان بدأت تؤكد أن السعودية تسير بسرعة نحو خسارة هذه المعركة.
ومع الأخبار المتداولة في لبنان عن أن سعد الحريري يتجه لعدم الترشح في الانتخابات النيابية المقبلة، فهذه الخطوة لا تعني فقط السقوط الكامل للحريرية السياسية التي كانت النافذة السعودية على لبنان ومنها إلى سورية، طيلة ثلاثة عقود منذ مجيء رفيق الحريري إلى منصب رئاسة الحكومة في 1992 وإنما انتهاء الهيمنة السعودية على لبنان بشكل كامل.
وبالتكامل مع معركة مأرب، التي يقترب أنصار الله من حسمها بتحرير المدينة من الاحتلال السعودي، فكل المؤشرات تؤكد أننا سنكون أمام خسارات استراتيجية سعودية – “إسرائيلية” ستضاف إلى سلسلة هزائمهم في كامل المنطقة، وتسجل في ميزان انتصارات حلف المقاومة الذي يرسخ جذوره. ومع إعلان تحرير مأرب، سيكون ما بعده غير ما قبله.