من “كسر الحصار” إلى “حماية الثروات”: صنعاء تنفرِدُ بفرض معادلات الحرب والسلام
الخياراتُ العسكرية الوطنية أثبتت فاعليةً كبرى في كسر تعنت العدوّ ومراكمة الإنجازات
لجأت دولُ تحالف العدوان الأمريكي السعوديّ الإماراتي إلى طلبِ الهُــدنة التي تم الإعلانُ عنها في أبريل الماضي، مدفوعةً بمخاوفَ كبيرةٍ من تداعيات عمليات “كسر الحصار” العسكرية التي تضمنت ضربات مركزة ودقيقة على منشآت أرامكو في العمق السعوديّ؛ ولضمان توقف تلك الضربات اضطر العدوُّ إلى النزول عن الشجرة والموافقة على إجراءات محدودة لتخفيف بعض قيود الحصار.
بغَضِّ النظر عن التفاصيل، فقد مثلت موافقة دول العدوان على تسيير بعض الرحلات الجوية وإدخَال بعض سفن الوقود، دليلاً واضحًا على أن صنعاء تمتلك من الخيارات ما تستطيع أن تختصرَ به مسافاتٍ طويلةً من “النقاشات” والمفاوضات، خُصُوصاً وأن العدوّ عادة ما يلجأ إلى استغلال هذه المسافات للمراوغة فقط.
والحقيقةُ أنه منذ بدء العدوان وحتى الآن، لا يمكن القول: إن أيًّا من التفاهمات والاتّفاقات القليلة التي تم التوصل إليها (بغض النظر عن تنفيذها) كانت نتيجة تقارب في وجهات النظر، بقدر ما كانت نتيجة مخاوف دفعت تحالف العدوان إلى خفض سقف تعنته قليلًا، ودائماً ما كانت هذه المخاوف تتعلق بشكل مباشر بتعاظم قدرة صنعاء العسكرية وقدرتها المدهشة على الصمود في مراحل التصعيد العسكري.
هكذا، جاءت الهُــدنة لتثبت مجدّدًا أن تحالف العدوان محشورٌ في مسار سهل التنبؤ به بل والتحكم به، فهو ينتقل فقط من تصعيد فاشل إلى “مفاوضات” والعكس، لكن النتائج في الحالتين تكون لصالح صنعاء التي تتمكّن من تحويل كُـلّ تصعيد معاد إلى فرصة لمضاعفة الإنجازات الميدانية التي بدورها تدفع دول العدوان إلى خفض سقف تعنته أثناء التفاوض، ولو بصورة شكلية.
بعبارة أُخرى: خلال كُـلِّ جولات التصعيد –المفاوضات التي تكرّرت على مدى السنوات الماضية كان العامل المؤثر هو قوة صنعاء وقدرتها على إلحاق ضرر كبير بالعدوّ، وقد حرصت القيادة الوطنية على أن تجعل هذه القوة تمضي في مسار تصاعدي لتكون الضامن الدائم لمراكمة الإنجازات في الميدان وعلى الطاولة.
بعد انتهاء الهُــدنة الماضية بدا أن المرحلةَ التالية ستكون تصعيداً آخرَ يتكبد فيه العدوُّ خسائرَ جديدةً ليفر مرةً أُخرى نحو الطاولة بسقف تعنت أدنى، لكن هذه المرة كانت المخاوف قد وصلت إلى حَــدٍّ كبيرٍ يجعل المخاطرةَ بعودة القتال تصرفاً انتحارياً من جانب دول العدوان، غير أن الأخيرة لم تبد الشجاعة الكافية للمضي في السبيل السليم لتجنب هذه المخاوف، فكان الرد من صنعاء بفرض معادلة ميدانية جديدة هي معادلة حماية الثروات.
قرار حظر تصدير النفط لم يكن “تصعيداً”، لكنه سد الطريق الذي يحاول العدوّ دائماً أن يشُقَّه بين خيارَي الحرب والسلام، إذ أثبت مجدّدًا أن صنعاءَ ما زالت تملك زمام الأمور وأن قوتها العسكرية لا زالت هي العامل الأكثر تأثيراً في الميدان وعلى الطاولة، حَيثُ نجحت هذه القوة في إحراق واحدة من أهم أوراق الضغط لدى العدوّ بشكل مفاجئ وإلى الأبد، فحتى إن ذهب للتصعيد الآن لن يستطيع استئناف تصدير النفط وسرقة عائداته، ومع عودته إلى التفاوض سيكون قد فقد المزيد من الأوراق.
معادلةُ حماية الثروات أثبتت للعدو أن حتى محاولةَ كسر ثنائية التصعيد -التفاوض، لن تؤديَ إلى نتيجة مختلفة وأنه سيصطدم دائماً بصفعات جديدة تعيده إلى نفس المأزق.
ووفقاً لذلك فَـإنَّ رهانَ العدوّ على فرض تصوراته اليوم، بعد كُـلّ هذه التجارب، هو رهان خاسر مسبقًا، وكذلك الحال بالنسبة لمحاولة فرض حالة الجمود وكسب الوقت؛ لأَنَّ صنعاء قد أثبتت أن لديها جدولاً لمعادلات استراتيجية عملية لا يمكن تأخيره، ومرور المزيد من الوقت لا يعني سوى أن معادلة جديدة ميدانية في طريقها للتدشين.
ومن واقع تحذيرات وإنذارات صنعاء الأكثر تكراراً خلال الفترة الماضية يبدو بوضوح أن المعادلة التالية ستكون ذات طابع بحري، وهو أمر لن يستطيع العدوّ الالتفاف عليه لا في الميدان ولا على الطاولة، ما يعني أن الخيارَ الوحيدَ المتاحَ لتجنُّبِ تداعيات هذه المعادلة هو الاستجابةُ الكاملة لمطالب صنعاء.