من “راشيل كوري” إلى “آرون بوشنل”.. حكاية الضمير الأمريكي المضطهد
فعلا، فقد بلغ المجتمع الدولي مرحلة متقدّمة جدّا من الانهيار القيمي والانتحار الأخلاقي، وأضحى مخزونه من الثوابت الفاضلة على وشك النفاد، ذلك أنّ ما يحدث في غزّة وفلسطين من خراب وقتل ودمار، لم يبق للشيطان ما يغوي به بقية البشر، وأنّ الوجه القبيح لإنسانية بلا قلب ولا ضمير، قد تجلت بشاعته مفزعة مقرفة عفنة في القطاع المفجوع؛ من جباليا إلى دير البلح.. ومن خان يونس إلى رفح.. ومن الزيتون إلى بيت حانون.. إلى دوار النابلسي وآخر الجرائم المنكرة، لحفنة من سفلة التاريخ ولقطاء الجغرافيا ومسوخ الأرض، والتي تتمادى في غيها وصلفها، في إرهابها وإجرامها.. في تحدٍّ صارخ للإرادة الأممية، وفي انتهاك فاضح للأعراف الدولية.
فإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي رأس الرأسمالية المتوحّشة، فإنّ الكيان الصهيوني هو الوجه القذر للإمبريالية الفاحشة؛ فغلاته يجتهدون مع كل يوم جديد، على أن يكون كيانهم المشؤوم أقذر ما يمكن أن تحمل الأرض غطرسة وطغيانا.. فلا وازع من أخلاق ولا رادع من دين، ولا انصياع لقرار أممي ولا احترام لقانون دولي.. ورغم ذلك، لا يزال هذا الكيان الإرهابي، يتمتّع بالحصانة والتمويل من قبل “العالم الحرّ”، وبالدعم والتأييد من لدن الأنظمة العربية والإسلامية المارقة المنافقة.
وعلى ضوء هذا الانزلاق الأخلاقي الرهيب، صارت معضلة الأخلاق تؤرّق ضمير المجتمع الأمريكي، الذي صار يدرك فعلا بأنّ عصابة صقور البيت الأبيض وضباع الدوائر الرسمية، تتعاطى مع الشعب الأمريكي نفسه وقبل غيره من شعوب الأرض، على أنّه مجرّد قطعان من البهائم، تمرح وتسرح وتتطارح الجنس والهوى، في ملاهي وكازينوهات أشبه ما تكون بمحاشر البقر في مزارع الرعاة، الذين ورثوا السوط و”البوط” والقبض والخضوع لمن يدفع أكثر.
فإذا كان “بوعزيزي” تونس قد أحرق نفسه ذات يوم انتفاضة لكرامته، فإنّ الأمريكي “آرون بوشنل” كذلك قد فضّل إحراق نفسه انتفاضة لكرامته وكرامة الشعب الأمريكي الذي صار لا يعرف من الحياة سوى “المسرط والمضرط”، فلا قيم ولا ضمير ولا أخلاق.. “بوشنل” ضمير الأمة الأمريكية، وفي لحظة انعتاق أخلاقي، لملم شتاته وحمل كرامته وقرّر أن يتوجّه نحو مقر سفارة الكيان الصهيوني في واشنطن، وهناك ولدى وصوله سكب بنزينا على رأسه وأضرم النار في جسده، وهو يصرخ “الحرية لفلسطين.. الحرية لفلسطين..” مرارا وتكرارا، حتى توقف صدره عن التنفس.. ويفارق الحياة.. وقبيل إضرامه النار في جسده، صرخ “بوشنل” في المارة أمام مقر السفارة الصهيونية: “سأنظّم احتجاجا عنيفا للغاية الآن، لكن احتجاجي ليس كبيرا مقارنة بما يعيشه الفلسطينيون على أيدي محتليهم..”.
بعض شرفاء الصحافة الأمريكية، كتبوا عن الحادثة بأنها ليست فعلا معزولا ولا انتحارا مبتورا، وإنما هي عملية “استشهادية” لها دوافعها الأخلاقية والسياسية، فقد نقلت صحيفة “واشنطن بوست” تصريحات – وصفتها بالخطيرة في عرف الصحافة الامريكية – عن صديق الراحل “بوشنل”، حيث قال أنّه كان يمتلك معلومات سرية عن قوات أمريكية تقاتل في أنفاق غزّة بفلسطين، كان قد تحصّل عليها بحكم مهمّته في الجيش، والمتعلقة بتحليل ومعالجة البيانات الاستخباراتية وتقديمها للاستغلال من قبل رؤسائه في شتى المصالح العسكرية.
تكمن خطورة المعلومة هذه، في كونها دليلا قائما على تورّط الجيش الأمريكي في عملية الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. الصحيفة ذاتها – واشنطن بوسط – أضافت على لسان صديق الراحل “بوشنل” قوله؛ “لقد أخبرني آرون قبل وفاته بيوم، أنّ الجيش الأمريكي متورّط في عمليات الإبادة الجماعية الجارية في فلسطين، وأنّ هناك جنودًا أمريكيين يقتلون أعدادًا كبيرة من المدنيين والعزل في غزة..”.. مقال الصحيفة ورحيل “بوشنل” بتلك الطريقة الرهيبة، وكذا تصريحاته على لسان صديقه، كانت كفيلة بإخراج العشرات من الجنود الأمريكيين إلى الشارع، ودفعهم إلى إحراق بزاتهم العسكرية تضامنا مع الراحل وانتقادا للسياسة الحربية الظالمة والمتغطرسة للبنتاغون.. وهي تظاهرات جاءت كلها في شكل هزّة أحدثت زلزالا كبيرا على مستوى منصات التواصل داخل الولايات المتحدة وخارجها عبر العالم، وقد تفاعل معها الرأي العام وكذا النشطاء بشكل واسع، خاصة أولئك الذين يناضلون من أجل ثني البيت الأبيض عن المضي في مواقفه الداعمة للقتل والإرهاب الصهيوني.
من زاوية أخرى، يكون الراحل “بوشنل” قد وضع الجميع أمام سؤال واقعي؛ كم من أمريكي يجب أن يحرق نفسه حتى يصحو ضمير السلطات الأمريكية، وتعود الرؤوس الحاكمة إلى رشدها، فتتوقف الآلة الإمبريالية عن دعم المجرمين، وتكفّ عن حماية الإرهابيين، وتنتهي عن تمويل الصهاينة المسوخ على حساب الجيوب الضريبية للأمريكيين..؟
الراحل “آرون بوشنل”، ليس الأول الذي دفع حياته ثمنا لهزّ الضمير الأمريكي وتحريك الرأي العام ضدّ الكيان الصهيوني وغطرسته، فقد سبقته إلى ذلك المناضلة “راشيل كوري” ناشطة السلام العالمي، منذ واحد وعشرين سنة، والتي تمّ سحقها حيّة تحت جنازير الجرافات الصهيونية في رفح، جنوب قطاع غزة، بينما كانت تحاول منع قوات الاحتلال من هدم منازل فلسطينية بغير وجه حق.
كان ذلك في السادس عشر من شهر مارس العام 2003م، حيث كانت الناشطة الأمريكية “راشيل كوري” بعمر ثلاث وعشرين عاما، تقف بمواجهة آليات عسكرية صهيونية محاولة منعها من المضي في مهمة الهدم والتدمير بحق منازل المدنيين العزل، لكن الأوامر الإرهابية الحاقدة لرئيس حكومة الكيان حينذاك “أرييل شارون”، قضت بأن لا تتردد الآليات عن سحق كل ما ومن يقف أمامها، فكانت “راشيل” كبيوت الفلسطينيين، هينة تحت سلاسل المجنزرات، فسحقت عظامها بلا رحمة ولا شفقة.
لم يدرك المجرم الصهيوني الذي نفذ الجريمة، بأنّه كان يسحق السلام.. يسحق الأمل.. يسحق الضمير الأمريكي الذي لم يحرّك ساكنا بعد ذلك، ضدّ قادة الكيان الصهيوني، الذين قاموا باغتيال “الشهيدة راشيل”، كما وصفها الرئيس “عرفات”، مرتين؛ مرة تحت جنازير الآلية العسكرية، ومرة عندما أخلوا سبيل قاتلها بحكم براءة أصدرته المحكمة الصهيونية.
وهنا مكمن السرّ التآمري الذي يربط غلاة “تل أبيب” وصقور البيت الأبيض، والذي لم يتمكن أيّ أمريكي من إيجاد تفسير مقنع له، خاصة في ظلّ الهيمنة الرأسمالية الصهيونية وسطوتها على مراكز صنع الخبر الإعلامي، ومخابر بلورة القرار السياسي، وذلك من خلال اليد المبسوطة منحا وسخاء، وقبضا وإرشاء، وبيعا وشراء.. في سياسة لا تؤمن إلا بمن يدفع أكثر. وهكذا، في خضم هذه “الغابة” المتوحشة، تضيع الأخلاق ويموت الضمير وينتهي الإنسان.
مصطفى بن مرابط – الجزائر
كاتب في الأيام نيوز