من اليمن.. حسابكم مفتوح
“روّوا السّيوف من الدّماء ترووا من الماء”.. أمير المؤمنين – عليه السلام.
لم يكن غريبًا على الأمة الإسلامية أن تجد في الحرب روحها المفقودة، وأن تتعلم بتجربة الدم والنار استرداد الحقوق، كما ينبغي أن تعرفها وتمارسها، لم يكن غريبًا في أطول جولات القتال مع العدوّ الصهيوني أن تظهر مفاجآت محور المقاومة، عالية مدوية شامخة، لم يكن غريبًا منذ الأيام الأولى أن يثمن سماحة السيد حسن نصر الله، حفظه الله، التدخل اليمني بكلّ عنفوانه وتصميمه وإرادته الفولاذية التي لا تلين.
كما شهدنا في 5 شهور خذلانًا مريرًا لم نعاينه مع أية مواجهة صهيو – عربية، فإننا كذلك شهدنا البطولة حين تمتزج بالوفاء والشهامة والدم، والإيمان شهدناه وقودًا لأطراف كان الجميع يضعها خارج حسابات القوّة المادية، فإذا بها ومن نار المعركة وقعقعة سلاحها، تتحول إلى قوة إقليمية كبيرة، تقف هناك على موقعها لتقطع سبل النقل البحري عن العدو، وعن من وراء العدو، بسلاح محلي طورته خلال سنوات حرب العدوان الصهيو – سعودي عليها، وتخرج أكثر قوة وأشد عزمًا وأمضى استعدادًا للذهاب إلى أبعد مدى في تأييد ما تراه قضية دين وقضية وطن وقضية إنسان، في فلسطين.
إذا كانت هناك دول تسمّى عربية زيفًا وكذبًا، قد سقطت راضية في فخ الهوان والذلة أمام الأميركي، وحتّى أمام الصهيوني، وزادت بأنها تمارس الحصار على الشعب الفلسطيني البطل الصامد، وتجتهد لتشتيت قوى الأمة وتبديد قدراتها وتمييع مواقفها، فإن هذه الدول –مصر بالدرجة الأولى – قد خسرت في “طوفان الأقصى” ما لم تخسره أية دولة أخرى في حرب واحدة، تحولت الدولة العربية الكبرى التي كانت ذات يوم، إلى كيان تافه وهش، غاية مطالبه ومنتهى فخره وشرفه، أن يعترف به حكام الخليج كـ “عبيد إحساناتهم”.
ورغم بدء الولايات المتحدة عملية “حارس الازدهار” في البحر الأحمر، وإعلان الاتحاد الأوروبي عن إرسال قطع حربية عسكرية في إطار عملية تستهدف حماية الملاحة البحرية عبر مضيق باب المندب، إلا أن التهديدات الأميركية، ثمّ محاولات الترغيب بتمرير اتفاق سلام، وصولًا إلى الضربات العسكرية المباشرة من أميركا وبريطانيا، قد كشفا الموقف الأميركي تمامًا، ومن حيث أراد مخطّطه أن يلغي التهديد أو يحاصره، فإنه ساهم في إشعاله أكثر وأكثر، وتعرى الأميركي الآن بعد أن استنفذ خياراته، التي ألقى بها في الميدان تباعًا.
تبعًا للأرقام المعلنة من المنتدى الاقتصادي العالمي في سويسرا، فإن هجمات جماعة أنصار الله والجيش اليمني، تهدّد بضائع تمر من مضيق باب المندب تصل قيمتها إلى تريليون دولار، هذا التهديد ضاعف منه العدوان العسكري الأميركي – البريطاني، فرفعت “أنصار الله” من مستوى ردها، ليشمل استهداف كلّ سفينة تابعة للعدو الصهيوني أو للدول المعتدية.
حتّى يوم 22 شباط/ فبراير الجاري، فإنه جرى التحقق – الأرقام في التقرير السويسري – من استهداف 48 سفينة في البحر الأحمر وخليج عدن، منذ بداية إعلان اليمن تدخله إلى جانب فلسطين وغزّة، في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، كبرى شركات الشحن العالمية بالطبع قد ودعت الطريق البحري المختصر، ولجأت إلى تطويل رحلاتها ورفع تكاليفها، بينما ظهرت الأعراض مباشرة على موانئ أوروبا، ويكفي هنا ذكر كشف عملاق النقل البحري “ميرسك” خلال شهر شباط الجاري، تراجع أرباح الشركة في الربع الأخير من عام 2023 بنسبة 87% مقارنة بالربع الأخير من عام 2022، كما أعلن معهد كايل الاقتصادي أنّ عدد السفن الواصلة إلى الموانئ الألمانية انخفض بنسبة 25% بسبب الهجمات على السفن في البحر الأحمر، وتأخير عمليات التسليم، بالإضافة إلى تراجع حركة المرور عبر قناة السويس بنسبة 40 – 50%، والرقم طبقًا لحديث رئيس النظام المصري.
وعلى الواجهة، طفى فشل الولايات المتحدة في الغواية، كما تبين لها أنها تواجه أطرافًا في ميادين القتال لم تعهدهم من قبل، الروحية اليمنية والإيمان باتا الطرف الأقوى في معادلة الردع مع الأميركي، يكفي التصريح “العاجز” لقائد الأسطول الخامس الأميركي، تشارلز برادفورد كوبر، إنه “لأول مرة في التاريخ تستهدف سفن البحرية الأميركية باستخدام الصواريخ الباليستية، وأن قواته لديها من 9 ثوان إلى 15 ثانية لاتّخاذ قرار إسقاط الصواريخ والمسيرات القادمة من اليمن، وأن الصواريخ والمسيرات المنطلقة من اليمن تستطيع إصابة أهدافها خلال 75 ثانية فقط من إطلاقها”.
ليس الحال أقل بؤسًا على الجانب الآخر من العالم، في واشنطن بدأ المخطّطون في إعادة حساباتهم وفقًا لما عرفوا أنه تعامل خاطئ أيقظ ماردًا من سباته، وهم الآن يعلمون يقينًا أن التراجع هو أفضل السبل في مواجهته، لكن كيف يتراجعون وقد وضعوا مقدمًا الرهان على قدراتهم كقوة عظمى إمبراطورية، قامت أصلًا على فكرة التفوق العسكري الساحق.
لخصت شبكة “CNN” الموقف الفوضوي في الإدارة الأميركية، بتقرير قالت فيه إن: “إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تواجه صعوبة في كيفية زيادة الضغط على الحوثيين”، وأضافت نقلا عن المسؤولين “هناك اعتقاد داخل الإدارة الأميركية بأن استخدام القوّة وحدها مع الحوثيين غير فعال، موضحين أن واشنطن ليس لديها مقياس لتقدير نسبة ما تم تدميره من أسلحة الحوثيين”.
اليوم تختار القضية رجالها وحملة ألويتها، فلسطين قد اختارت شرفاء الأمة وأعز جندها، في لبنان واليمن والعراق وسورية، وبهذه النفوس الراسخة الأبية تمدد حربها على الكيان لشهور خمس متتالية، وبيقينهم وبالسلاح الصادح في أيديهم المتوضئة نعرف أننا لن ننكسر ولن نتوقف ولن نتراجع، هذا هو الدرس الأوفى للمقاومة في التاريخ الإنساني كله، لم يتمكّن السلاح من كسر إرادة أمة اختارت القتال، ومع عار الخنوع والمذلة على الجباه الآثمة، فإن الخسائر المادية أيضًا بدأت تفرض ضرائب الحرب الثقيلة عليهم، لكنّهم بعكس محور المقاومة، لا يملكون أملًا في الخلاص.
كتب :أحمد فؤاد / موقع العهد اللبناني