من المنتصر بعد اتفاق وقف إطلاق النار في غزة
د. محمد علي صنوبري*
في السابع من أكتوبر 2024، وقع حدث تاريخي، شكل تصعيدًا كبيرًا في الصراع المستمر بين حماس والكيان الصهيوني. شنت حماس هجومًا غير مسبوق، توغلت فيه مسافة 40 كيلومترًا داخل الأراضي المحتلة. أسفرت هذه العملية المفاجئة عن مقتل أكثر من 200 صهيوني وأسر حوالي 300 آخرين. لم تُظهر هذه الضربة الجريئة قدرة حماس فحسب، بل وجهت أيضًا ضربة نفسية شديدة للنظام المحتل.
ردًا على ذلك، شن النظام الصهيوني هجومًا مضادًا باستخدام ضربات المروحيات. ومع ذلك، سواء من خلال سوء التقدير الاستراتيجي أو التهور الصريح، أدى ردهم إلى مقتل 1000 شخص إضافي من مواطنيهم الصهاينة، وهو ما يعادل في الواقع خسائر ذاتية.
في أعقاب عملية طوفان الأقصى، أطلق النظام الصهيوني وحلفاؤه حملة حرب نفسية. وزعمت روايتهم أن حماس قطعت رؤوس الأطفال أثناء الهجوم. وعلى الرغم من خطورة مثل هذه الاتهامات، لم تظهر أي أدلة أو وثائق تثبت هذه المزاعم. وهذا يثير تساؤلات حول مصداقية دعاية الكيان الصهيوني وحلفائه ومحاولتهم التأثير على الرأي العام العالمي لصالحهم.
منذ 9 أكتوبر 2024، وصلت الأزمة الإنسانية في غزة إلى أبعاد مدمرة. تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن النظام الصهيوني قتل 46757 شهيداً في غزة، بما في ذلك 1098 رضيعًا دون سن عام واحد. وتشكل النساء والأطفال 70٪ من الضحايا. وتشير التقييمات المستقلة إلى أن هذه الأرقام أقل بكثير من الواقع، حيث تجاوز عدد الشهداء الحقيقي 65500.
بالإضافة إلى ذلك، قام كيان الاحتلال بتدمير أكثر من 90٪ من البنية التحتية الحيوية في غزة وأكثر من 15000 مبنى، مما أدى إلى تحويل المنطقة إلى أنقاض. إن تدمير البنية الحضرية في غزة يؤكد على حملة النظام المتواصلة لشل المقاومة الفلسطينية من خلال استهداف المدنيين والبنية التحتية الأساسية.
يمتد عدوان النظام الصهيوني إلى ما هو أبعد من غزة. على مدى الأشهر الخمسة عشر الماضية، نفذ الكيان عمليات اغتيال لقادة المقاومة في فلسطين ولبنان، فضلاً عن قادة فيلق القدس الإيراني. في سوريا، دمر 70٪ من البنية التحتية الدفاعية والعسكرية للبلاد من خلال الغارات الجوية المتواصلة. وصلت هجمات النظام حتى إلى اليمن، مما أدى إلى مزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة.
ووسع هذا الكيان جرائمه إلى إيران، حيث قام باغتيال شخصيات بارزة مثل العميد زاهدي واغتيال الشهيد هنية، والهجوم على سفارتها، وعمليات التخريب واغتيال العشرات من الأبرياء في كرمان عبر جماعات إرهابية مرتبطة به. يكشف هذا النطاق الواسع من العدوان عن تصميم الكيان على قمع حركات المقاومة في جميع أنحاء المنطقة، بغض النظر عن التكلفة البشرية والسياسية.
لقد تعززت جرائم الكيان الصهيوني بدعم ثابت من الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا. بالإضافة إلى تلقي مليارات الدولارات من المساعدات والأسلحة المتطورة والأفراد العسكريين كما تم تقديم الدعم الدبلوماسي له. فقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد عشرات القرارات التي تدعو لوقف إطلاق النار في غزة أو تلك التي تؤكد على حق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير، مما مكنه من ارتكاب أبشع الجرائم دون عقاب.
على الرغم من هذا الدعم، واجه الكيان الإسرائيلي مقاومة وإدانة غير مسبوقة. وتسلط التطورات الرئيسية على مدى الأشهر الخمسة عشر الماضية الضوء على الديناميكيات المتغيرة. حيث تم تحدي أسطورة الهولوكوست، حجر الزاوية في الدعاية الصهيونية، بشكل متزايد، مما أدى إلى تآكل الشرعية الأخلاقية للاحتلال الإسرائيلي. كما اجتذبت الاحتجاجات العالمية ضد الإبادة الجماعية الملايين، بما في ذلك في الولايات المتحدة نفسها. وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال لقادة الاحتلال وعلى رأسهم نتنياهو، مما يشير إلى استعداد متزايد لمحاسبتهم.
لقد اخترقت العمليات العسكرية التاريخية التي شنتها إيران، الوعد الصادق الأولى والثانية، الدفاعات الجوية للاحتلال الإسرائيلي مما أظهر ضعفه وعجزه عن صد الهجمات الصاروخية وأدى لاستجدائه الولايات المتحدة كي ترسل له منظومات ثاد التي قوضتها هجمات أبطال اليمن. كما صعدت حركات المقاومة في لبنان والعراق واليمن من هجماتها، مما تسبب في خسائر كبيرة للنظام. وقد قطعت العديد من الدول العلاقات الدبلوماسية مع الاحتلال، مما يعكس الرفض العالمي المتزايد لجرائمه.
على الصعيد الداخلي، يعاني النظام الصهيوني من أزمة عميقة. فقد نزح أكثر من مليون من سكان الأراضي المحتلة الشمالية، وغادر الملايين المنطقة، وكثير منهم بشكل دائم. وقد وصلت الاحتجاجات والإضرابات وأعمال الشغب ضد الكيان الصهيوني إلى مستويات غير مسبوقة، مدفوعة بالاستياء العام والفشل الملحوظ لإدارة نتنياهو.
المشاكل الاقتصادية لكيان الفصل العنصري قاسية بنفس القدر. انخفضت قيمة عملته، وخرجت الصناعات الرئيسية، بما في ذلك التكنولوجيا والشركات الناشئة، من المنطقة. لقد أدى فقدان طريق النقل البحري عبر البحر الأحمر إلى زيادة انهيار اقتصاده، مما أجبره على الاعتماد على بدائل أكثر تكلفة.
والآن وبعد كل هذه التفاصيل علينا أن نحدد من هو المنتصر والخاسر من توقيع اتفاق وقف إطلاق النار؟
في الحقيقة حدد الكيان الصهيوني منذ البداية أهدافاً معلنة من حربه في غزة وهي إطلاق سراح أسراه دون تقديم تنازلات والقضاء على حماس بشكل نهائي وتهجير شعب غزة إلى الأردن ومصر.
لم تتحقق أي من هذه الأهداف فباعتراف الصهاينة أنفسهم فإن حماس استطاعت تجنيد مقاتلين جدد وهي من يتحكم بالوضع في غزة كما أن شعب غزة المقاوم رفض ترك أرضه وها هو ينتظر العودة إلى البيوت المدمرة كي يبني غزة من جديد كما أن عملية إطلاق سراح الأسرى تم عبر التفاوض على إطلاق العشرات والمئات من المعتقلين الفلسطينيين.
إن النصر الوحيد من منظور قادة الاحتلال التي تم تحقيقها في غزة هو قتل آلاف الأطفال والنساء وهذا أمر معتاد بالنسبة لكيان أسس على الإبادة والفصل العنصري والاحتلال.
ختاماً، تمثل أحداث السابع من أكتوبر و 15 شهرًا اللاحقة نقطة تحول في الصراع بين حماس والكيان الصهيوني. حيث أظهر اتفاق وقف إطلاق النار بأن شعب غزة الصامد هو المنتصر. تشير مرونة حركات المقاومة، إلى جانب المعارضة العالمية المتزايدة ، إلى أن توازن القوة يتحول لصالح المقاومة. ويبدو بأنّ حق إيران بالرد على هجوم الكيان الصهيوني الأخير محفوظ وتصريحات القادة العسكريين فيها تشير إلى أن عملية الوعد الصادق 3 حتمية وستكون أقوى وأكثر تدميراً من العمليات السابقة.
*مدير مركز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية