“من المسافة صفر” كيف أضحى الصفر الفلسطيني أعتى الأرقام؟ .. قراءة في دلالة “المصطلح” وأبعاده
رمز البطولة والشرف الإنساني..
كيف أضحى الصفر الفلسطيني أعتى الأرقام؟
يقول الله تعالى، عزّ من قائل: “وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ”، إنّ الصّفر عمومًا إن كان يمثّل مبتدأ الحساب فإنّ الصّفر الفلسطيني أصبح أعتى رقم وأضخم عدد، لأنّه يأتي على اليمين من صاحب يمين فيصبح صفرًا مقدّسًا صفرًا للالتحام وصفرًا للثّأر وصفرًا لمواجهة آلة الطّغيان والامبريالية العالمية، صفرًا جهاديًا للاشتباك على مرمى حجر وصفرًا معادلاً لمن يتبجّح بفارق تكنولوجيا السّلاح والعتاد الحربي المتطوّر.
ببساطة هذا الصّفر هو لا يحمل معنى الاختفاء والعدمية بل هو يرمز إلى الإنسان الفلسطيني رمز البطولة ورمز الكفاح ورمز العدالة الإنسانية التي اضمحلّ شكلها ولم يتغيّر لونها ولا طعمها، فلونها لون الدّم الفلسطيني الثّائر.
فمنذ تاريخ 7 أكتوبر ابتز المقاوم الفلسطيني الفكر الإنساني ومنطقه التّصوري العقلاني لدى فاعلين كثر في العالم بأنّ هناك كيان صهيوني معتدي أراد أن يغطّي بترسانة إعلامية ضخمة حقّ شعب مغتصب في حقوقه وحرّياته وسيادته على أرضه أرض فلسطين على حدود 48 وأنّ هذا الكيان الصّهيوني الغاصب هو كيان غير شرعي وأنّه صنيع الامبريالية العالمية الغربية على رأسها بريطانيا وأمريكا.
فالأرض الفلسطينية أرض الأنبياء والرّسالات هي أرض مجاهدة وأرض معاندة وأرض مقدّسة تسير على خطى عهد نبوي وصيّة رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم بالنّصر والحريّة والحق رغم خيانة التّطبيع ورغم جبروت وقسوة المساند للمعتدي. فالصّفر أصبح عظيمًا عندما يملكه الفلسطيني العظيم المقاوم أرض صغيرة في مواجهة صفريّة مع قوى نووية عالمية.
والخبراء العسكريون يفسّرون أنّ انهزام الصّهيونية بمنطق الصّفر الفلسطيني كان معجزة بجميع المقاييس وأنّ جريمة الإبادة الجماعية اليوم هي حرب بالوكالة تديرها قوى الشّر والامبريالية بأداة صهيونية انطلاقًا من نبواتهم الكاذبة وتحقيقًا لمصالح في منطقة تعدّ قلب العالم الاقتصادي.
فأب البطولات هو حجر في يد طفل فلسطيني أو صفر لكن بعقيدة مقاوم فلسطيني أو كرامة في ثياب أمّ فلسطينية أو رمق عين عابر من شيخ فلسطيني لا يزال يتشبّث بأرضه حتّى الموت.
بقلم: الدكتور حنافي حاج – أكاديمي وخبير قانوني
“من المسافة صفر”..
“المَشوخي” يقرأ دلالة “المصطلح” وأبعاده
جرت العادة ربط المعارك بمسمّيات كرمز لها، وعلى سبيل المثال نجد أنّ القرآن الكريم أطلق مسمّى “يوم الفرقان” على معركة بدر وذلك من خلال قوله تعالى: “وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”، فسمّاه الله سبحانه وتعالى بيوم الفرقان حيث تمّ فيه التّفريق بين الحقّ والباطل وظهور نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم وقومه على المشركين.
يوم أعلى الله سبحانه وتعالى كلمة الإيمان على كلمة الباطل وأظهر الله دينه ونصر نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم وحزبه على المشركين. كذلك غزوة تبوك التي وقعت في السّنة التّاسعة من الهجرة سمّيت بغزوة “العسرة” لأنّها كانت في زمن اشتدّ فيه القحط والجدب والحرّ وبعد المسافة.
وفي العصر الحديث سمّيت معركة السّادس من أكتوبر سنة 1873م بمعركة “العبور” وذلك بالنّظر لعبور القوّات المصرية لموانع وتحصينات عدّة منها مانع مائي (قناة السويس) ومانع برّي (خط بارليف) الذي يُعدّ من أقوى خطوط الدّفاع في العالم حيث يتكوّن من سلسلة تحصينات عسكرية منيعة مدعّمة بعوائق طبيعية شيّدها الكيان الصّهيوني للحيلولة دون اختراقها ورغم ذلك استطاعت القوّات المصرية خلال بضع ساعات اختراق عبور قناة السّويس وتحطيم الخط المذكور وتسجيل أوّل نصر على الكيان الصّهيوني وتهاوت أسطورة “الجيش الذي لا يقهر” لذلك سمّيت المعركة بمعركة “العبور”.
وهذه الأيّام ومع استمرار معركة طوفان الأقصى المجيدة ظهر مصطلح “من مسافة صفر” عبر وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التّواصل الاجتماعي فما دلالة هذا المصطلح وما أبعاده؟ معنى من مسافة صفر أي لابد أن تكون المسافة قصيرة جدًا بين المقاوم أو المحارب والعدو، وهذا المصطلح يُعدّ بمثابة تكتيك عسكري استخدمه رجال المقاومة في غزّة العزّة لمواجهة قوّات العدو الصّهيونية في مواجهة لآليات متطوّرة ومحصّنة وذلك من مسافة قريبة جدًا، عادة تقلّ عن 50 مترًا وذلك بإطلاق قذائف عليها أو وضع عبوات لاصقة عليها ومن ثمّ القيام بتفجيرها. وهذا النّوع من القتال لا يمكن أن يقدم عليه سوى مقاتل وضع نصب عينيه إحدى الحسنين إمّا النّصر أو الشّهادة، مقاتل يدرك أنّه لن يعود من ساحة القتال.
ولقد شاهد المراقبون لمجريات معركة “طوفان الأقصى” المجيدة عبر شاشات التّلفاز مقاتل غزّي حاسر الرّأس حافي القدمين يركض خلف دبّابة محصّنة ومزوّدة بأنظمة حماية وأجهزة استشعار ورادارات ليقوم هذا البطل المغوار باعتلاء الدبّابة ويلصق عليها عبوة ناسفة ثمّ يقوم بتفجيرها لتتحوّل إلى كتلة من اللّهب لتحترق بمن فيها من الجنود. والسّؤال ما الدّافع لكلّ هذا العمل الأسطوري الجبّار والشّجاعة والإقدام؟
لاشكّ أنّ أساس المعركة هو ما يملكه المقاتل من معنويات قويّة وشجاعة وإقدام وثبات، وهذا ما يتميّز به المقاتل الغزّي، فهو يملك سلاحًا معنويًا يملك نفسيّة وعزيمة عالية، نفسية من تربّى على مائدة القرآن، نفسيّة من يتطلّع إلى السّماء إلى جنّات الخلد، إلى جنّة عرضها السّموات والأرض أعدّها الله لعباده المؤمنين المجاهدين في سبيله.
كما أشار بذلك نبيّ المجاهدين محمد صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر إذ قال لأصحابه رضي الله عنهم: “قوموا إلى جنّة عرضها السّموات والأرض” فلمّا سمعها عمير من الحمام الأنصاري رضي الله عنه قال: يا رسول الله جنة عرضها السّموات والأرض؟ قال: نعم قال: “بخ، بخ”. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “ما يحملك على قولك بخ بخ؟”، قال: “لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها”، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: “فإنّك من أهلها” فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهنّ، ثمّ قال: “لئن أنا حييت حتّى آكل تمراتي هذه أنّها لحياة طويلة”، فرمى بما كان معه من التّمر ثمّ قاتلهم حتّى قتل.
هكذا حال من تعلّق قلبه بجنّات عدن تجده يقبل على المعركة بعزيمة عالية وإرادة صلبة لا يهاب الموت ولا يخشاه بل يعدّه من أسمى أمانيه. هكذا شأن رجال المقاومة في غزّة العزّة، يقاتلون بشجاعة من مسافة صفر لا يهابون الموت، يستبسلون بشجاعة أسطورية منقطعة النّظير أمام أقوى الدبّابات والآليات وتحت نيران قصف الطّيران ويعدون جهادهم غنيمة كبيرة عند الله.
ولعلّ أوّل من سنّ المواجهة من مسافة صفر البطل القسّامي المغوار الشّهيد عماد عقل الذي استشهد سنة 1993م مع بعض رفاقه في حي الشّجاعية في غزّة بعد أن أذاق جنود الاحتلال الموت الزؤام من مسافة صفر بطلقات من مسدّسه رحمه الله.
غير أنّ أبطال معركة “طوفان الأقصى” المجيدة استبدلوا الطّلقات بعبوات ناسفة للفتك بآليات العدو ودبّاباته ليتمّ حرقها بمن فيها من الجنود وتتحوّل تلك الآليات إلى مقبرة مشتعلة بمن فيها بدلاً من كونها آلة محصّنة تحميهم لذلك أصبح مصطلح من مسافة صفر مرتبطًا بأبطال غزّة العزّة الميامين كرمز لعزّتهم وشجاعتهم وقوّة بأسهم وشموخهم، وسوف يتمّ تدريس هذا المصطلح في كافّة الكلّيات العسكرية كشكل من أشكال المقاومة النّاجعة بكلّ المقاييس لاسيما مع وجود فارق القوّة والعتاد بين الخصمين.
فمن مسافة صفر استطاعت المقاومة الباسلة أن تفتكّ بأعداد هائلة من آليات العدو وتقتل وتصيب آلاف الجنود من النّخبة ممّا أدّى إلى قيام الكيان الصّهيوني بسحب أغلب آلياته وفرقه العسكريّة من مدن غزّة ليقلّل من حجم خسائره.
في الختام يبقى العامل الحاسم والأساسي في مصير أيّ معركة من المعارك ما يملكه الجندي من قوّة إرادة وعزيمة وثبات وصمود وإيمان وتحدّي وليس بما يملكه من عتاد، إذ أنّ الفارق بين المقاوم الغزّي والجندي الصّهيوني في العتاد كبير ولا وجه للمقارنة ولكن النّتيجة إقدام المقاوم الغزّي على المواجهة من مسافة صفر بينما يرفض بعض جنود الصّهاينة من المواجهة رغم التّحصينات ورغم الغطاء الجوّي ورغم ما يملكه من عتاد لكنّه يفتقر إلى المواجهة وخوفه من الموت وحرصه الشّديد على الحياة وشتّان بين من يصبو نحو إحدى الحسنيين النّصر أو الشّهادة وبين من همّه وحرصه على الحياة كبني “إسرائيل” فهم كما وصفهم الله سبحانه وتعالى: “ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياة” فشتّان شتّان بينهما.
بقلم: الدكتور عبد الله المَشوخي – أكاديمي فلسطيني
المصدر :الأيام