معالجات قرآنية للمشكلة الاقتصادية
معالجات قرآنية للمشكلة الاقتصادية
معالجة العامل النفسي
الله -سبحانه وتعالى عندما قال في الآية المباركة: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} قدم أول معالجة مهمة جدًّا، وهي المعالجة للواقع النفسي: الخشية من الفقر، والخوف من الفقر، والقلق من الفقر، هذا العامل النفسي- بحد ذاته- يؤثر على الكثير من الناس، ويدفعهم إلى تصرفات إجرامية في كثيرٍ من الحالات، أو يدفعهم إلى ارتكاب الخيانات والأفعال المحرمة والتصرفات الخاطئة، فالعامل النفسي المتمثل بالقلق من الفقر، أو حالة اليأس وانعدام الأمل، تمثل مشكلة بحد ذاتها، والإنسان إذا امتلك الأمل والثقة بالله -سبحانه وتعالى- والاطمئنان النفسي تجاه الرزق، فهذا سيساعده في أن ينطلق في ميدان العمل في الأخذ بالأسباب من واقعٍ نفسيٍ متوازنٍ ومطمئن، الحالة القلقة، حالة اليأس، الاضطراب النفسي الشديد، الهم القاتل، الهم الكبير، الضغط النفسي الشديد يؤثر على الكثير من الناس، وبالذات إذا كانت طبيعة الأسرة مقلقة، مثلاً: البعض طبيعة زوجته مقلقة جدًّا، تطالبه بإلحاح شديد، وتضغط عليه بشكل متكرر، وتبدي انزعاجها الشديد، وتطلق العبارات الجارحة والعبارات المحطمة، والعبارات المزعجة والمستفزة، والأولاد بعضهم كذلك، فيعيش البعض من الناس في هذا الجو الضاغط المقلق المزعج، ويندفع بغية توفير المال، بغية توفير المتطلبات التي تطالب بها أسرته لفعل أي شيء: قد يكون جريمةً، قد يكون خيانةً، قد يكون فعلاً محرماً، وهذه حالة خطيرة جدًّا، والإنسان المؤمن، الإنسان المسلم حظي في القرآن الكريم برعاية وهداية واسعة، جانبٌ منها يتجه إلى هذا الجانب النفسي الحساس والمهم بالأول هو، فالله -جلَّ شأنه عندما قال: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم}، هذه طمأنة كبيرة، الله تكفل -سبحانه وتعالى- بالرزق، لا تحمل هذا الهم وكأنك أنت الرزاق، كأنك أنت من يرزق نفسك ويرزق أسرتك ويرزق أولادك ويرزق الآخرين، هذا إلى الله، هذا هو إلى ربنا -سبحانه وتعالى- الكريم، الغني، الحميد، الوهاب، المنان، ذو الفضل الواسع العظيم، لا تقلق نفسك بشكلٍ زائد، لا تُذهِب نفسك بالهم والحسرات. |لا| اطمئن وخذ بالأسباب الصحيحة، خذ بالأسباب الصحيحة وتقيد عندها، ونجد آيات كثيرة تلاحظ هذا الجانب النفسي، مثل قول الله -سبحانه وتعالى- فيما يحكيه عن نبيه إبراهيم وهو يخاطب قومه: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: من الآية17]، ابتغوا عند الله، ابتغوا عنده من خلال الالتجاء إليه، من خلال الأخذ بالأسباب: أسباب رحمته، أسباب فضله، أسباب رضوانه، أسباب نيل الخير منه، {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ}.
التكافل الاجتماعي
المعالجة الثانية في الإسلام هي الإغاثة الخيرية: الله -سبحانه وتعالى- جعل في الجانب الخيري عناوين متعددة، البعض منها إلزامية، والبعض منها تطوعية، الحالة الإلزامية: الزكاة- تقدَّم الحديث عنها- وهي حالة اسعافية مهمة للفقير، وقد تفيده في كثيرٍ من الحالات بأكثر من كونها حالة اسعافية وجرعة إغاثية إلى كونها أيضاً تمثل عاملاً مساعداً لبناء واقعه الاقتصادي من جديد؛ ليستطيع أن يتخلص من البؤس الشديد والعناء الكبير من الفقر.
أيضاً الصدقة وهي عنوان تطوعي، فيها أجر وفضل وقربة عظيمة إلى الله -سبحانه وتعالى- وسبب لأن يحصل الإنسان على سعة في الرزق (على خُلف من الله)، أن يخلف الله لك، وهي سبب من أسباب البركات واستنزال الرزق، (استنزلوا الرزق بالصدقة).
أيضاً الحالة التكافلية والتضامنية بين أبناء المجتمع: الجار مع جاره، القريب مع قريبه… هذه الحالة أيضاً حالة مهمة، (ما آمن) في الرواية عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- (ما آمن، قيل: من يا رسول الله، قال: من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم)، فإذاً هذه حالة من التضامن الإلزامي في الدين، يعني: مسؤولية إيمانية دينية، يوجب عليك الإسلام التعاطف مع جارك، وألا تبيت شبعانًا وهو جائع، وأنت تعلم أنه جائع، وتستطيع مساعدته، ثم لم تساعده، تعتبر هذه جريمة، وخروجاً عن حالة الإيمان الذي يربينا على الرحمة فيما بيننا كمجتمعٍ مسلم، نجد التشجيع على الاهتمام مثلاً بالإطعام؛ لأن البعض قد يصل بهم الفقر والبؤس إلى حد الجوع، فيأتي في القرآن الكريم الحث المتكرر على الإطعام، إطعام الطعام للجائعين، في آيات كثيرة، عندما نجد قول الله -سبحانه وتعالى-: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 11-16].
ترك المحرمات من أهم المعالجات
المعالجة الأخرى هي الترك للمحرمات: المحرمات بشكل عام؛ لأنها تنزع البركة، تسبب سخط الله، تنزل على الناس عقوبات كثيرة ومنها عقوبات اقتصادية، من أهم العقوبات التي يعاقب الله بها عباده العقوبات الاقتصادية، عندما نعاني من شحة الأمطار وقلة الأمطار، عندما نعاني من انعدام البركات، عندما نلحظ النقص في كثيرٍ من الأمور؛ مثلاً الغور في الماء، أشياء كثيرة، عقوبات اقتصادية متنوعة، آفات تفتك بالمحاصيل الزراعية، إشكالات كثيرة نعاني منها، قد تكون في بعضٍ من الحالات عقوبةً، قد تكون عقوبةً من الله -سبحانه وتعالى- ونحن بحاجة إلى رحمته، إلى فضله، هو الرزاق، هو الذي يملك رزقنا، يملك كل هذه الأشياء، هو الزارع -جلَّ شأنه- هو الذي يخلق هذه النباتات والمحاصيل، وهو الذي يمنحها النماء والبركة، أو يفتك بها إذا أراد، ويجعلها حطاماً، أو بائرةً، أو غير صالحة للاستخدام الإنساني… أو غير ذلك.
السعي لكسب الرزق
من المعالجات المهمة: العمل والسعي لكسب الرزق وبشكلٍ صحيح، وبالالتزام بالحلال، وبالدافع الإيماني والمسؤول، يعني: لا يكون الدافع هو الجشع، والطمع، والهلع، والطموحات غير المشروعة. |لا| يحرص الإنسان على التصرف الصحيح، وهذه مسألة مهمة جدًّا، المجتمع إذا كان مجتمعاً يعاني من الكسل، يعاني من البطالة الناتجة أو الناشئة عن الفتور وعدم الاهتمام، فهذه حالة خطيرة جدًّا، نحن كمجتمعٍ مسلم يجب أن نكون مجتمعاً عملياً بما تعنيه الكلمة، ولاحظوا المحفزات كثيرة في مجال كسب الرزق عن طريق العمل: العمل في التجارة، العمل في الزراعة، العمل في الصناعة… الأعمال في مختلف مجالات العمل المشروع، هذه مسألة مهمة جدًّا، لا يعترف الإسلام بحالة الكسل والبطالة الناتجة عنه، أو سوء الفهم لمعنى التوكل، التوكل الذي هو تواكل وإهمال، ليس من التوكل الذي هو في إطار العمل والتحرك، القرآن الكريم يعلِّمنا أن نتحرك في واقع الحياة لكسب الرزق تحت عناوين كثيرة، أهم عنوانٍ فيها هو المسؤولية، بدءاً من المسؤولية تجاه الأسرة، ففي الحديث عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول، أو يكون عيالاً عن الناس) بمعنى: عليك مسؤولية بدءًا من أسرتك أن تنفق على أسرتك، هذه المسؤولية يجب أن تكون حافزاً في السعي لكسب الرزق، والحصول على الرزق، وتوفير متطلباتهم الضرورية واحتياجاتهم الأساسية.
أمة لا تنفق تحكم على نفسها بالهلاك
عنوان أكبر: مسؤوليتنا العامة، نحن كأمة مسلمة علينا مسؤوليات جماعية: أن نعمل على إقامة الحق، على إقامة العدل، أن نكون قوَّامين بالقسط، أن نعمل لتطهير ساحتنا من المنكر، ومن الظلم، ومن الفساد، ومن الطغيان، هذه المسؤولية تحتاج إلى مال، ولهذا أتى في القرآن الكريم عنوان الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، ويأتي المال قبل النفس، أن نجاهد في سبيل الله بأموالنا يأتي في الترتيب في كثير من الآيات القرآنية، يأتي بالحديث عن الجهاد بالمال قبل الحديث عن الجهاد بالنفس، لدرجة أن آيةً قرآنية قدَّمت هذا العنوان: الإنفاق في سبيل الله -سبحانه وتعالى- تحت عنوان مهم جدًّا جدًّا: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: من الآية195]، يعني: القرآن يقول لنا: إذا لم ننفق في سبيل الله فنحن أمة ستكون حكمت على نفسها بالهلاك، أمة تنتهي، لماذا؟ لأنها لن تكون قوية بدون أن تنفق مالاً، يعني: لا يمكن مثلاً أن نتحرك لمواجهة التحديات والأخطار، وأن ندفع الخطر عن أنفسنا كأمةٍ مسلمة، خطر أعدائنا عسكرياً، خطرهم بشكلٍ عام تحت كل العناوين وفي كل المجالات، لا يمكن من دون أن ننفق مالاً، كل تحرك في هذه الحياة يحتاج إلى مال، تريد أن تتحرك عسكرياً؟ هذا يحتاج إلى مال. تريد أن تتحرك إعلامياً؟ يحتاج إلى مال، كل الحركة في الحياة، حركة الإنسان، المال هو قيام، قيام للحياة، يعني: تقوم به الحياة في كل مجالاتها وفي كل ميادينها لا بدَّ من عملية تمويل لكل تحرك، عملية التمويل هذه تحتاج إلى إمكانات، الإمكانات هذه كيف تأتي؟ من خلال العمل، الكسب، السعي، التحرك، {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء: من الآية32]، لا نتحول إلى أمة تمتلك الأماني، يتمنى الإنسان أن لديه ما لدى الآخر، أو أن يحصل من الثروة هكذا تلقائياً من دون عناء ولا عمل مثلما لدى الآخر أو هكذا، الكسب اكتسبوا، اعملوا، هذه مسألة مهمة جدًّا.