مدير مركز القدس للدراسات السياسية عريب الرنتاوي : هكذا يمكن لليمن ومحور المقاومة كسر “يد إسرائيل الطويلة”؟
كيف يمكن لليمن ومحور المقاومة كسر “يد إسرائيل الطويلة”؟
الرد اليمني على العدوان الإسرائيلي آتٍ لا ريب فيه. هي مسألة وقت لا أكثر. وثمة مروحة خيارات أمام القيادة اليمنية لا تبدأ بإغلاق باب المندب، ولا تنتهي بضرب المنشآت النفطية ومحطات الطاقة والأمونيا في “إسرائيل”.
أما وقد ضَربت المسيّرات اليمنية في قلب “تل أبيب”، فقد كان الرد الإسرائيلي متوقعاً، حتى لا نقول مؤكداً… أكثر من 220 هجوماً صاروخياً – جوياً شنّه اليمن على أهداف في “إسرائيل” وأخرى مرتبطة بها لم تكن سبباً كافياً لشنّ هجمات مضادة، في العلن على أقل تقدير، إذ ثمة معلومات وتسريبات ترجح انخراط “إسرائيل” في الهجمات الأميركية – البريطانية على اليمن منذ أن أحكم قبضته على البحرين: العربي والأحمر، وتحكّم في حركة المرور في مضيق باب المندب… لكن هذه المرة تبدو الصورة مختلفة تماماً.
المسيّرة “يافا” أجهزت على ما تبقى من “صورة الردع” الإسرائيلية بعد الضربات المتتالية التي تعرضت لها منذ السابع من أكتوبر، مروراً بالطوفان وحرب الأشهر العشرة الفائتة، وليس انتهاءً بالهجوم الجوي – الصاروخي الإيراني في الرابع عشر من نيسان/أبريل الفائت… مثل هذه الانهيارات المتتالية في المكانة الاستراتيجية لإسرائيل دفعت قادتها من المستويين العسكري والأمني السياسي الحكومي والسياسي المعارض إلى حافة الجنون، وأخذت صيحات الثأر والانتقام تتعالى وتتكاثر في مراكز صنع قرارها.
“إسرائيل” التي حلمت طيلة أشهر الحرب بالعثور على “صورة نصر” في غزة أو لبنان من دون جدوى، صممت ضربتها لليمن محكومة بهذا الهاجس؛ هاجس استعادة الصورة الردعية وترميم “اليد الطويلة” التي كُسِرت في غزة ولبنان، فكانت الضربة استعراضاً سينمائياً من الطراز “الهوليوودي” الأشهر… أسراب كثيفة من طائرات الإف 35 و16 و15 وطائرات تزويد بالوقود، واستهداف مرافق مدنية مع تركيز خاص على الأهداف القابلة للاشتعال من “لزوميات” الصورة والاستعراض، وسباق محموم بين القادة السياسيين والعسكريين للظهور أمام الكاميرات للتبشير بحرائق اليمن، إلى غير ما هناك من تسريب وتهديد ووعيد.
والحقيقة أن اليمن كان عرضة لموجات متعاقبة من الغارات الجوية والصاروخية الأميركية – البريطانية خلال الأشهر الفائتة، وكانت مرابض إطلاق صواريخه وانطلاق مسيّراته هدفاً متكرراً لهذه الاعتداءات، لكن أحداً، باستثناء مجاوري هذه الأهداف، لم يكن ليعلم بها لولا بيانات العميد يحيى سريع وتصريحات قادة “تحالف الازدهار” الذي ليس له من اسمه نصيب… الاستعراض هو ما كانت تل أبيب تبحث عنه، والصورة والفيديوهات احتلت مكانة الصدارة في أولويات قادتها.
هل يعني ذلك أن الضربة الإسرائيلية ليست ذات شأن؟
الجواب عن هذا السؤال يبدأ بـ”لا”، فمصفوفة الأهداف التي تعرضت للضرب والتدمير تؤثر بلا شك في حياة ملايين اليمنيين الذين بالكاد خرجوا من حرب السنوات الثماني، وبالكاد ينجحون اليوم في ترميم ذيول العدوان الذي شنه عليهم تحالف عربي ليس له هو الآخر من اسمه نصيب… الضربة مؤلمة بلا شك؛ مؤلمة للمدنيين والبنى التحتية المدنية، استمراراً للعمل الذي لا تتقن “إسرائيل” سواه، والذي تجلى في أبشع صوره في غزة، ومن قبلها في الضفة ولبنان: استهداف المدنيين والبنى المدنية لتحقيق أغراض سياسية في تطابق مدهش للتعريف الأممي لمعنى الإرهاب أو إرهاب الدولة المنظم.
لا هدف عسكرياً واحداً تم وضعه على خرائط العدوان الجوي الإسرائيلي، وكل حديث آخر عن استخدامات عسكرية للأهداف المدنية المضروبة يندرج في إطار الدعاية الإسرائيلية السوداء التي تابعنا فصولها الدامية في قطاع غزة، حيث قُصفت المدارس والجامعات والمستشفيات ومراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة، بذريعة أن ثمة أهدافاً عسكرية كامنة تحتها، من دون أن تكترث ماكينة البروباغندا الصهيونية إلى من يصدقها أو يكذبها، فشعارهم المستوحى من التجربة النازية – الغوبلزي هو اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس.
أي رسائل استبطنها الهجوم الإسرائيلي على اليمن؟
الرسالة الأولى موجهة إلى الداخل الإسرائيلي لرفع معنوياته وزيادة منسوب الثقة المتآكلة بالجيش والحكومة، ومستقبل الدولة ومصير الكيان لدى قطاعات متزايدة من الإسرائيليين.
الرسالة الثانية لليمنيين بهدف تحريض البيئة الحاضنة لأنصار الله عليها، وبث مشاعر الخوف من مواجهة مصير مشابهة لمصائر المدنيين في قطاع غزة.
والرسالة الثالثة موجهة إلى أطراف محور المقاومة، وبالذات لحزب الله وحلفائه، مفادها أن ما ينتظرهم ليس أقل مما تعرض له اليمن، ومن قبله غزة، في حال خرجت المواجهات الضارية الدائرة على جبهة جنوب لبنان / شمال فلسطين عن قواعد الاشتباك المحمولة.
أما الرسالة الرابعة، فالمتلقي بعيد بعض الشيء: إيران، ومؤدّاها أن لا خطوط حمراء يمكن أن تتوقف عندها إسرائيل في حال تعرضها للتهديد، وأن كل الأهداف، بالأخص المدنية منها، هي أهداف مشروعة للطيران والحربي والصواريخ الموجهة، وربما ما هو أكبر وأخطر منها جميعاً: “ذلك الشيء في ديمونا”.
هل وصلت الرسائل إلى من يهمه الأمر؟
تخطئ “إسرائيل” إن ظنت أن أطراف محور المقاومة لم يكونوا يضعون في حسبانها وهم يفتحون جبهات الإسناد ردود أفعال إسرائيلية من هذا النوع. لا الحوثيون في اليمن، ولا حزب الله في لبنان، أصيبوا بالصدمة من جراء همجية الرد واستهداف المدنيين، فما يجري في غزة منذ عشرة أشهر، وما جرى في القطاع قبله، وفي لبنان على مدى سنوات وعقود طوال، وفر مادة مخضبة بالدماء لفهم هذا الكيان والتعرف إلى عقليته الإجرامية والاستعداد لكل ما يمكن أن يتصوره (أو لا يتصوره) عقل بشري.
وتخطئ “إسرائيل” إن ظنت أنَّ رسائل النار وألسنة اللهب في الحديدة ستثني أنصار الله عن مواقفهم، فكل طفل في غزة يعرف أن قرار الحوثيين الانتصار لغزة غير قابل للنقض أو الطعن أو التراجع… والمواطن الفلسطيني عموماً لا يأتيه الشك عن يمين أو شمال في أن قرار حزب الله المضي في الإسناد والشراكة في المعركة مرتبط كلياً بوقف الحرب الهمجية على قطاع غزة، وليس قبل ذلك بدقيقة واحدة.
أما إيران، فقد كانت منخرطة في حروب الاغتيالات والاستخبارات والناقلات والأمن السيبراني قبل حادثة الاعتداء على قنصليتها في دمشق، وقبل ردها الصاروخي والجوي المباشر وغير المسبوق في منتصف أبريل الماضي، والأرجح أنها أكثر من غيرها تدرك خطورة “ذاك الشيء في ديمونا”، وربما لهذا السبب، نراها تعيش “ورشة عمل” لمراجعة عقيدتها النووية بعد أكثر من عقدين على إقرارها والعمل بها، والمأمول أن تنتهي هذه المراجعة إلى خلق ميزان ردع نووي متبادل، حتى لا تظل إسرائيل محتكرة لهذا السلاح المدمر، ولا سيما أن الأصوات التي تنادي باستخدامه تتعالى وتتكاثر في تل أبيب، ليتردد صداها في أورقة الكونغرس الأميركي.
أين من هنا؟ ماذا بعد؟
الرد اليمني على العدوان الإسرائيلي آتٍ لا ريب فيه. هي مسألة وقت لا أكثر. وثمة مروحة خيارات أمام القيادة اليمنية لا تبدأ بإغلاق باب المندب، ولا تنتهي بضرب المنشآت النفطية ومحطات الطاقة والأمونيا في “إسرائيل”… المسيّرة اليمنية “يافا” وعدوان “اليد الطويلة” فتحا صفحة الحرب الإقليمية التي لا يجوز معها سوى التفكير في خيار الانتصار.
الحرب لم تعد تقتصر على جغرافيا فلسطين ولا حتى على الجبهة اليمنية – الإسرائيلية. هذه معركة الإقليم برمته، صورته ومكانته وانحيازاته وخياراته المستقبلية… هي معركة الوجود، ولا يجوز معها السماح للحلف الصهيوني – الاستعماري بالظفر.
ثمة عوائق جيوسياسية تحول دون تمكين اليمن من توظيف كامل عناصر قوته واقتداره، بالذات العنصر البشري المؤمن والمدرب والمجرب والمقاتل… الجغرافيا وطول المسافات لا يساعدان اليمن على استخدام أهم وأقوى عناصر قوته في هذه المواجهة، ولو كان اليمن دولة حدودية، لكان له تدبير آخر مع كيان العربدة والغطرسة، ولمرّغ أنف قادته في الأوحال. هذا هو اليمن، وهذا هو تاريخه القديم والحديث.
هنا، نفتح قوسين للتشديد على أن اليمن لا يجب أن يترك وحده، والرد اليمني على العدوان الإسرائيلي يتعين أن يكون رد محور بأكمله، وعلى قاعدة التكامل والتوظيف الأمثل لعناصر القوة والاقتدار، بما فيها، ومن ضمن أشياء أخرى، الميزات الجيوسياسية لكل فريق. التزامن (وليس التتالي) في ردود أفعال أطراف المحور شرط لانتصاره.
“إسرائيل” أعجز عن خوض الحرب على أكثر من جبهة، برغم الادعاءات المنتفخة لقادتها المصطرعين في ما بينهم. الهجمات المنسقة والتصعيد المتزامن هو الذي سيحدث فرقاً.
إنَّ غزة شعباً ومقاومة لم تعد قادرة على استحداث الزخم المطلوب لجهود وقف الحرب… المجتمع الدولي العاجز والمنافق بات متصالحاً مع سقوط 50 – 80 شهيداً يومياً من نساء غزة وأطفالها، ومنسوب المعارك والمواجهات بين المقاومة الفلسطينية وجيش العدو ما عاد يقض مضاجع الساسة في عواصم القرار الدولي، والتقديرات بأن الحرب قد تمتد إلى العام القادم لحين وصول إدارة أميركية جديدة تتقافز على سطح “تقديرات الموقف” التي تصدر في عواصم عدة… والنظام الرسمي العربي يغطّ في سبات عميق، وينتظر بفارغ الصبر الخلاص من مقاومة غزة وفلسطين وحلفائها… لم يعد لغزة سوى جبهات الإسناد، فهي وحدها التي تُسيل الأدرينالين في عروق المجتمع الدولي، وجبهات الإسناد باتت أمام لحظة الانتقال إلى مستوى جديد من التصعيد والمواجهة، فإما وقف حرب التطهير والتطويق والإبادة، وإما جبهة إقليمية مفتوحة نعرف كيف تبدأ ومن أين، ويجتاحنا يقين بأنها يدها ستكون العليا، وكلمتها ستبقى الراجحة، وحذار حذار من الوصول إلى لحظة يقال فيها: أكلت يوم أكل الثور الأسود… هذا ليس خياراً. هذا ليس “سيناريو”.