«تَرجع ثُلُثا بركة الدنيا إلى اليمن، مَن كان هارباً من الفتنة فإليه يَهرب».
حديث منسوب إلى النبيّ محمد. «إن شعبنا حقيقة، لا ينال منها أن يصاب كلُّ العالم إزاءها بالصَمَم والبله والعمى. ومن صدّ عنّا حسْبه الصدّ والحفا، ومن فاتنا يكفِه أنّا نفوته». الشاعر اليمني محمد محمود الزبيري، «مأساة واق الواق».
يُحكى أن رجلاً من «مملكة واق الواق» حلّ في ليلة السابع والعشرين من رمضان من عام 1379 للهجرة في الأزهر الشريف، حيث وجد طائفةً من العلماء يتباحثون في شؤون الأرض كافّة، ويُفتون في كلّ صغيرة وكبيرة، ويعرّجون على مآسي العالم أجمع، من دون أن يأتوا ولو بذكر يسير على فواجع «مملكته»… تلك الفواجع التي أثقلت قلبه بالحزن، وحمّلت روحه أسًى عميقاً حتى كادت «تنوص» من وطأته، فلم يَجد مفرّاً أمامه سوى محراب الصلاة في ذلك الأثر «الفاطمي» في القاهرة، علّه يجلو عنه همّه وغمّه. هناك، انكشف سرّ وطنه الغامض، بعدما رأى العزّي محمود، في ما يرى المنوَّم مغناطيسياً، أهل اليمن وقد احتشدوا على صعيد القيامة، مقسَّمين ما بين جحيم وفردوس وأعراف، وناطقين بألسنتهم بما عملوه في ما تركوا، ليَعرف مُستضيفو العزّي أخيراً موقع هذا البلد المنسيّ، وهويّة حاكميه ومستعمِريه، وأفعال أنانيّيه ومُنافقيه وبُلهه ومجانينه، وفي المقابل مَآثر شهدائه وخُلصائه وعُرفائه وبُصرائه. هكذا، أفاق الساهون عن اليمن من غفلتهم، وفق ما صوّر صَحوتهم الشاعر والثائر اليمني محمد محمود الزبيري (1910 – 1965)، في روايته «مأساة واق الواق» المكتوبة في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وتحديداً في الفترة التي اشتدّ فيها طغيان المملكة المتوكّلية، وبدأت تتهيّأ الظروف لانطلاق «ثورة 26 سبتمبر». صحوةٌ مجازيةٌ لن يطول الوقت قبل أن تجد معادلاً حقيقياً لها في خلال العقد الأخير، مع فارق أن ما أيقظ النائمين عن «شوارد» الأرض المتروكة هنا، إنّما هو المعاجز التي صنعها أبناؤها في مواجهة حرب أريدَ منها إنساؤهم فكرة الاستقلال بأنفسهم. لقد نظرت السعودية، بالفعل، إلى اليمنيين، لحظةَ شبّ تمرّدهم، وأرادوا الانعتاق من رِبقة الوصاية التي استحكمت بهم على مدار عقود على أنهم شيء بغيض ومزعج، أشبهُ بذُباب ملقوف ووخِم يلتصق بأفاريز حوائط المملكة، أو كجراد صحراوي ثقيل يربض عند حدودها الجنوبية ويتحيّن الفرصة ليَدخل «جنّتها» ويعيث فيها قضماً.
هذا ما نطقت به، بوضوح، السرديّات المتعجرفة التي كُبّت على مرّ أعوام في أذرع الإمبراطورية الإعلامية السعودية، والتي استهدفت تسفيه هؤلاء الناس وتغريبهم وتجريدهم من أصالتهم، وهو ما لا يشذّ عنه الإصرار بعناد على استخدام مصطلح «الحوثيين». صحيحٌ أن التسمّي باسم منطقة الأصل ليس ممّا يُعاب في اليمن، بل هو على العكس من ذلك، مصدر افتخار دائم، يستشعره مثلاً المتحدّر من يافع لدى تسميته اليافعي، والمنتسب إلى حضرموت إذا دُعي الحضرمي، والمولود في لحج حالَ أُطلق عليه اللحجي… وهلمّ جرّاً، إلّا أن التشدّد الدائب في توصيف الحركة السياسية والعسكرية الأهمّ في التاريخ اليمني الحديث بـ«الحوثية» – الراجعة في أصلها إلى مدينة حوث، مركز مديرية حوث، إحدى مديريات محافظة عمران -، إنّما يحمل وجهاً من وجوه الازدراء، ويستبطن محاولة لنفي الإسم، وبالتالي حجب المعنى، وبالتبَعية إنكار الوجود، وفي العمق تطنيش الحقائق.
برز التميّز في حفظ الأمن على امتداد مساحات شاسعة من البلاد على رغم أن الأسلحة بأيدي اليمنيين «أكثر من المناجل والمعاول»
والواقع أن التطنيش المذكور إنّما هو عيْنه الذي تأسّست عليه حرب العام 2015، حيث لم يحتَج الأمر إلى أكثر من أسابيع معدودة ليَظهر بجلاء أن طاقم الحُكم الجديد في المملكة افتقر إلى الحدّ الأدنى من المعرفة التاريخية – هل نستطيع أن نُقدّر هنا أن الأمير محمد بن سلمان لم يقرأ مطلقاً كتاباً واحداً عن اليمن؟ الأغلب نعم -، أقلّه بالفصل الأحدث من التدخّلات الخارجية، ذلك المصري، الذي، على رغم نُبل الأهداف التي أتى بها، سرعان ما تَحوّل إلى بئر نهِمة تبتلع البشر والمال والسلاح، من دون أن يتّضح لها قعر أو تَثبت لها نهاية. لا بل إن حابل تلك البئر اختلط بنابلها على نحو مدهش، إلى حدّ أن «كبار ضبّاط القيادة المصرية، وكذلك جهاز المخابرات، بذلوا جهودهم من أجل خلْق مركزٍ قويّ فريد من نوعه يعمل ضدّ سياسة عبد الناصر»، وفق ما تورد الباحثة الروسية، جولوفكايا إيلينا، في كتابها «التطوّر السياسي للجمهورية العربية اليمنية 1962 – 1985»، موضحةً أن هؤلاء «وفي الوقت الذي دعموا فيه القوى الثورية – الوطنية، عملوا على إنشاء أوثق الصِلات مع الزعامة الإقطاعية القبَلية بغضّ النظر عن موقف هذه الزعامة» من الصراع الذي كان دائراً آنذاك بين «الإماميين» و«الجمهوريين»، بحسب شرح إيلينا. هذا الاختلاط الذي مُنيت السعودية بما هو أسوأ منه بمرّات، حيث برزت سريعاً مزاحمة «الشقيق» الإماراتي، وتفجّرت عنقودياً خلافات الحلفاء المحلّيين مُتضارِبي المصالح والأهواء والأيديولوجيات، قابله انبعاث حسّ وطني جارف بدت المملكة غير متحسّبة له، في ما نمّ، من بين ما نمّ عنه، عن عيب فادح في الأنتروبولوجيا الثقافية، ولتأتي النتيجة، في نهاية المطاف، «تحفةً استثنائية من الغباء»، إن صحّت استعارة توصيف الروائي والباحث الإيطالي، أمبرتو إيكو، للحرب الأميركية على العراق. في المقابل، قدّم اليمنيون «قطعةً فريدةً» من العمل العسكري والتلاحم المجتمعي والتكيّف الاقتصادي والتأصيل الثقافي، يَجدر بها أن تكون موضعاً للتأمّل والبحث والاعتبار، خصوصاً لدى الباحثين الغربيين الذين قد يكون آن لهم أن يَحرموا بعض تعميماتهم نَيل شرف «الحقيقة والمصداقية»، وأن يقتنعوا بأن العقلانية والمنطقية والاجتهاد والاستقامة والقدرة على التمسّك بقِيم حقيقية، إنّما هي سِمات غير جوهرية وغير محتكَرة وقابلةٌ للتحقّق في مجتمعات طالما نُظر إليها بمناظير غبّ الطلب، وبالكثير من «عدم الدقّة» الذي لا غرو في القول إنه يقارب في أحيانٍ عديدة الكذب بذاته.
هذه «الفرادة» اليمنية المغفَلة، تمظهرت، بأوضح ما تمظهرت فيه، في التعامل مع التعقيدات الاجتماعية المتقادمة، والتي تُمثّل النزَعات والعادات والأحكام القبَلية أحد أبرز وجوهها. لم تَنظر «أنصار الله» إلى القبائل على أنها مجرّد جماعات قابعة في التخلّف، يسكنها الحسد والتشكّك والخداع والخبث، وتنتظر مَن يمنّ عليها بالعطايا حتى تبيعه ولاءها، بل تطلّعت إليها بوصفها «الفئة التي تعمل لوجه الله، وتبذل أرواحها وأعمارها، وتقيم الممالك، وتحْمل أعباء المعارك (…) فهي الحامية والمانعة، وهي المعقل والحرز، وهي السلاح في يمين الشعب، يهزّه كلّما ألمّت به الملمّات»، كما يصفها ببراعة الزبيري. وبالاستناد إلى النظرة المتقدّمة، استطاعت الحركة كسْب تأييد قبَلي متفاوت، أضحى شبه ثابت وممتدّ في السنوات الأخيرة، على نحو لم يتمكّن غيرها من تحصيله، بِمَن فيهم الرئيس الراحل، علي عبد الله صالح، المشهور بقدرته على ترقيص «ثعابين» القبائل والجماعات والأحزاب من دون أن تطاله لدغاتها، على رغم ما أظهرتْه تلك القدرة من محدوديّة في نهاية المطاف. وإلى جانب إجادة استيعاب البُنى القبَلية، التي «دوّخت» جميع مَن تعاقبوا على حُكم اليمن، بمَن فيهم بعض «الجمهوريين» الذين اعتقدوا أن القبائل «لا تَفهم ولا تدرِك (معنى المؤسّسات السياسية، أو الدولة والقانون والطاعة)»، وبالتالي يجب «وضْعها تحت السيطرة التامّة بمختلف الوسائل»، وفق ما تَنقل إيلينا عن السياسي والاقتصادي اليمني محمد سعيد العطّار – في إطار تفنيده وجهات النظر التي كانت سائدة في الأيام الأولى لـ«ثورة سبتمبر» -، يَبرز التميّز في حفظ الأمن على امتداد مساحات شاسعة من البلاد على رغم أن الأسلحة بأيدي اليمنيين «أكثر من المناجل والمعاول»، فضلاً عن غياب مظاهر التوحّش التي وسَمت الحروب الأهلية الأحدث في غير بلد عربي. والواقع أن هذه السِمة الأخيرة إنّما هي ممّا يدهِش في اليمن، ولكنها أيضاً ممّا يَقبل التفسير بغير سبب، على رأسها أن الحكومات التي توالت على هذا البلد (أو شماله في الحدّ الأدنى) في أعقاب ثورة 1962، ندُر فيها مَن أظهر ميلاً إلى تنمية نزَعات ضارية لدى مُواطنيه، خلافاً لِما هو الحال مثلاً في الجمهوريات التي حَكمها «البعثيّون»، بل إن نظام صالح نفسه غلبت عليه «الكلِبتوقراطية» (اللصوصية) أكثر من أيّ شيء آخر. وعلى أيّ حال، فإن «أنصار الله» استفادت، على نحوٍ مثير، من ذلك التعلّق اليمني بالسلاح، والميل إلى الانكباب على «الخشن من العيش والشظف من الحياة» منذ الفتوّة – إلى حدّ أن بعض الأُسر كانت لا تتوانى عن تزوير هويّات أنجالها بحيث يصبحون قادرين على الانضمام إلى القوّات الحكومية مبكراً -، من أجل تعزيز الروح الملحمية لدى جمهورها، في الوقت نفسه الذي اشتغلت فيه على تقوية ديناميات «تأمين المواطنين من المواطنين»، إلى حدّ بدت معه «نظريّتها» القائلة إنه لو ارتفعت عن اليمن الأيادي الخارجية، لكان من أكثر بقع الأرض استقراراً، صحيحةً بدرجة كبيرة.
لكن حتى لو لم تكن المشكلة في السلاح وإنّما في السياسات، كما تقول الحركة، وحتى لو تُفهِّم اعتبارها «الحديث عن مثاليّة وحضاريّة ونموذجيّة الإنسان الذي يخلو بيته من السلاح، نوعاً من المغالطات»، فإن ذلك لا ينفي أن واحداً من أبرز التحدّيات التي ستحبَل بها مرحلة ما بعد الحرب، هي كيفية تنظيم «سوق الحرب» الهائلة هذه، على نحوٍ ضمينٍ بحفظ الإنسان أوّلاً ودائماً بوصفه «أعظم المشاريع»، وفق ما يوصي به الشاعر والمؤرّخ اليمني، عبد الله البردوني، في كتابه «اليمن الجمهوري». تنظيمٌ مفترَض تنضمّ إليه، أيضاً، مهمّة إعادة إدماج التشكيلات العسكرية التي «باضت» في اليمن و«فرّخت» خلال سنوات الحرب الثماني، في هيكل وحدوي جامع كفيلٍ بصهر الخلافات وترويض الاتّجاهات الهويّاتية وتذويب عوامل التنافر، وهو ما يتطلّب، أوّلاً وأساساً، تسوية سياسية شاملة، وتفاهماً عريضاً يبدأ من هويّة الدولة وشكل نظامها السياسي والإداري، ولا ينتهي بكيفية تحقيق المصالحة الوطنية وإنفاذ العدالة الانتقالية. على أن هكذا تفاهم لا يبدو قابلاً للتولّد بسهولة، في ظلّ عمْق الانقسامات التي جرى الاشتغال على تضخميها وتجذيرها بعناية حتى باتت أكبر من أن تُحصَر، متجاوزةً التفريق التقليدي ما بين «شماليين» و«جنوبيين»، لتشمل ثنائيّات قاتلة إضافية مِن مثل «السنّة والشيعة» – على ما في هذه الأخيرة من مغالطات لا تأخذ في الاعتبار الاختلافات الكبرى التي تُميّز الزيدية عن بقيّة فِرَق الشيعة -، وسَلطنات ومشيخات الجنوب وسَلطنات الشرق – وفق التقسيمات الموروثة من أيّام الاستعمار البريطاني -، وقبائل «اليمن العليا» وقبائل «اليمن السفلى»، وحديثاً الهيئات والمنظّمات المتناحرة والتي لا شغل لها إلّا العمل على إذكاء كلّ تلك «الانحرافات»، وبعْث الانشقاقات القديمة من قبورها، ومن ثمّ «الركّ» عليها في «تبرير وجودها»، مع ما يقتضيه ذلك من لغو عظيم لا قيمة له ولا فائدة منه.
السرديّات المتعجرفة التي كُبّت في أذرع الإمبراطورية الإعلامية السعودية، استهدفت تسفيه هؤلاء الناس وتغريبهم وتجريدهم من أصالتهم
وإذا كان مطلوباً من كلّ طرف من أطراف هذا الانشطار أن يراجع حساباته ويتخلّى عن أنانيّاته وتساهله المفرط مع ذاته ويكرّر ضبْط محدّداته بما يساعده تالياً على الانضباط بالواقع، فإن هذه المهمّة تبدو أكثر إلحاحاً لدى القوى والشخصيات الفاعلة في جنوب اليمن، والتي أظهرتْ على مرّ الأعوام الثمانية الماضية درجة عالية من الطفولية والمصادرة على أحلامها، إنْ لم يكن من التفاهة والتشيطُن في سبيل الوصول إلى غاياتها. على أن المفترَض بـ«أنصار الله»، أيضاً، بوصْفها اليوم الطرف الأقوى في «يمن ما بعد الحرب»، أن تعمل هي الأخرى على تسكيت مخاوف «شركائها» المستقبليين، وأن تُعيد صياغة طرْحها الوطني بما لا يجبّ سرديّتها الأولى للمعضلة اليمنية وكيفية تفكيكها، والتي أبرزَها قياديّون ألمعيون من صفوفها – على رأسهم الراحل عبد الكريم الخيواني -، بحذاقة، أيّام انعقاد «مؤتمر الحوار الوطني الشامل»، قبل أن تأتي الحرب، وتتسبّب بالضخّ الإعلامي الخليجي الطائفي الذي رافقها، في التعتيم على تلك السردية، وتعويم أخرى عنوانها اتّهام الحركة ككلّ بكونها مشروعاً سُلالياً عنصرياً مذهبياً غرضه إحياء الإمامة أو الملَكية في اليمن. باختصار، على «أنصار الله» ألّا تنقلب في لحظة الانتصار على ما كانت تطالب به في لحظة الاستضعاف، وألّا تركن إلى مقاربات من شأنها إلغاء المستقبل أو تعقيده في الحدّ الأدنى، وألّا تتوهّم إمكانية إحراق المراحل التاريخية اعتماداً على القوّة حصراً، بل وأن تسعى، عوضاً عن ذلك، إلى إنتاج صِيغ تعايش وتعاون تأخذ بشروط المرحلة، وتتّسق واعتبارات المكان.
وفي سياق «إعادة الصياغة» تلك أيضاً، تَبرز ضرورة إجراء مراجعة لبعض الشعارات، التي، فضلاً عمّا تحمله من نفَس كراهية تَصعب عقلنته، فهي لا تفيد «أنصار الله» في سياق سعيها للتقولب سياسياً على المستويَين المحلّي والخارجي. والحديث، هنا، يدور تحديداً عن جانب من شعار «الصرخة»، التي على رغم كونها «واضحة ولا غموض فيها» على اعتبار أن «أميركا حاضرة في كلّ مكان، ولو لم تكن حاضرة في بلادنا لما شنّت علينا هذه الحروب»، وبالتالي فـ«الشعار هو أقلّ ما يمكن فعله في مواجهة الحملة الأميركية» وفق ما تُدافع به الحركة، إلّا أن اشتماله عبارة «اللعنة على اليهود»، والتي تفسّرها «أنصار الله» بأن المقصود بها «الظالمون من اليهود أي المستعمِرون والمحتلّون والمهيمنون على مقدّراتنا»، يَجدر به أن يكون محلّ تدقيق وتقويم، شأنه شأن جوانب أخرى من خطاب الحركة وطريقتها في الحوكمة وتعاطي شؤون السكّان (خصوصاً النساء منهم) وإدارة خصوصياتهم وحساسياتهم، من دون أن يعني هذا دعوة إلى التشكّل على هوى ما يريده «الآخرون»، أو تجاهُلِ الأرضيّة الإنسانية المحلّية، والتي يختصرها الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي، بتلر ييتس، بـ«ما في دكّان القلب من خِرَق وخردوات». وإذ لا يَصلح، في إطار اتّقاء ذلك التجاهل، غضّ الطرف عمّا تمثّله القبائل من وزن ديموغرافي وثقل رمزي وحيثية معنوية، وحتى ما تكتنزه من قِيم وأنظمة تبدو قابلة للاستثمار الإيجابي في مرحلة التصالح، فإن من الأوّليّات المحسومة أيضاً هو أهمّية عدم الإيغال في سياسة الامتيازات، والإغراق في تحصيص المناصب والعطايا والموازنات ما بين المشائخ والجاهات، والسعي بدلاً ممّا تَقدّم إلى إدغام هؤلاء في إطار عملية شاملة تستهدف إعادة تأليف الأُدلوجة الوطنية التي بَقِيت على مدار عقود مهلهَلة تماماً.
تلك، إذاً، هي بعضٌ من عناوين المرحلة المقبلة على اليمن، والتي على رغم صعوباتها وهمومها وهواجسها، تظلّ تعبيراً عن مجتمع حقيقي، لا تتحكّم به اهتمامات محزومة أو أهداف معلَّبة، وهو ما سيضمن له البقاء والنماء ولو بعد حين. أمّا السعودية، فهي تُواصل إلى الآن «تقليل عقلها»، معتقدةً أن اتّفاقها مع إيران سيكون بمثابة العصا السحرية التي ستُخلّصها من الشاغل اليمني إلى الأبد، أو أن الجدار العازل الذي تسعى لبنائه على امتداد 900 كيلومتر على حدودها مع البلد الجار سيكفل لها راحة سرمدية من «وجع الرأس» الآتي من الجنوب، أو أن المواظبة على محاولة تلبيس المملكة لبوس الوسيط وداعية السلام في ما بين اليمنيين «المجانين» ستمحو ببساطة سجلّات الحرب التي ارتكبت فيها الرياض وحلفاؤها جرائم فظيعة، وأنهكت اقتصاد الشعب اليمني ومعاشه، وشرّعت الأبواب أمام تدخّلات من شتّى الاتّجاهات، ليس التدخّل الإسرائيلي مستثنًى منها. لكن الواقع شيء والتمنّيات شيء آخر؛ وإذا كان ابن سلمان قد استطاع، في إطار اشتغاله على إخضاع الثقافة لدورة الإنتاج الترفيهي والاستهلاكي، الاستيلاء على سُمعة البُنّ اليمني (الخولاني)، وإدخال هذا الأخير في قائمة التراث غير المادّي الخاص بالسعودية، والذي يَجري العمل بدأب على تحويله إلى قيمة يمكن أن تَدخل السوق كأيّ قيمة أخرى، فإن التحايل في أمور السياسة والأمن لن يكون مطلقاً بتلك السهولة نفسها. لا بل إن «الكوابيس» التي خلقتها ثماني سنوات من القتال السعودي غير المفهوم، ستظلّ حاضرة، ما لم تقتنع المملكة، في العمق وعلى طول الخطّ، بأن اليمن دخل زمناً جديداً لم يُعد معه من الممكن القول: «لقد قَرْوشونا باليمن… شو يعني اليمن؟ شو فيها اليمن؟»، على ما يحتوي الهذر الأحمق المتداول منذ زمن في بعض بلاد العُرب.
على الهامش: يروي مؤرّخ الأساطير الجاهلية، وهب بن منبه، أن أهل الجزيرة عندما اتّفقوا على غزو صنعاء، أقبل طائر وألقى من منقاره على جمْعهم كتاباً كان مطلعه يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم. من الله تعالى لا من أحد سواه، من أراد صنعاء بسوء كبّه الله وردّ كيده».