ماذا يجري في فيينا؟ نظام إقليميّ جديد يبني النظام العالميّ
ناصر قنديل
ثبت من المواجهات الدائرة في العالم بين القطبين الأكبر اللذين يختزلان عناصر القوّة في محورَي الغرب والشرق، أنها تنتهي عموماً بنسبة من التعادل السلبيّ. فمن جهة يفشل محور واشنطن في فرض شروطه، ومن جهة مقابلة لا ينجح محور موسكو في تحقيق نصر حاسم. فيسجّل لمحور الشرق منذ فشل الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان نقاط ناتجة عن هذا الفشل لمشاريع الهيمنة الغربية، ورسم جغرافيا جديدة للعالم ما بعد سقوط جدار برلين، بعدما سقط نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية بسقوط الجدار، والفشل الغربي المتلاحق والمتكرر من غزو العراق وأفغانستان إلى حرب تموز2006 على لبنان وحروب غزة، ومحالاوت إخضاع إيران، وترويض الصين، وكسر كوريا الشمالية، كانت كل الجولات تنتهي بنجاح محور الشرق في منع محور الغرب من النصر. لكن نصراً حاسماً لأيّ من المحورَين لم يُسجَّل.
مع «الربيع العربي»، جرت المحاولة الحاسمة من محور الغرب باستنهاض قوّة إقليمية شابة، هي القوّة المختزنة بحكم «الأخوان المسلمين» في تركيا ضمن صفقة تاريخية، لمشروع عثمنة جديدة مدنية ولا مركزية وفدرالية افتراضية، يصل فيها الأخوان إلى الحكم في غالبية البلاد الإسلامية، غير النفطية، ويؤمنون أمن «إسرائيل» وبقاءها، ويشكلون سدّاً في وجه تدفّق عناصر قوّة عمالقة البرّ الآسيوي روسيا والصين وإيران. وكان معلوما منذ البداية أن سورية هي العقدة التي يجب أن ينجح معها المشروع ليولد نظام إقليميّ يثبت نظاماً عالمياً تتعذّر ولادته، يتحكم فيه محور الغرب بمقدرات العالم ويرسم السياسة فيه.
مع سقوط مشروع الأخونة عند أسوار دمشق بقوّة صمود سورية عام 2012، خصوصا بعد معركة القصير، واضطرار محور الغرب للتفكير بالغزو العسكري مجدّداً عام 2013، دارت المواجهة الأولى بين محورّي الشرق والغرب، انتهت بتسوية سياسية للسلاح الكيماوي السوري كمخرج يحفظ ماء الوجه ويضمن لمحور الغرب التراجع. وتتالت التسويات من التفاهم على الملف النووي الإيراني، إلى رسم معالم التسوية الأوكرانية، ونصب منصّة التسوية لحرب اليمن، والتسليم بالفشل في إسقاط سورية، وبروز المحاولات المتلاحقة للبحث عن تسوية فيها.
أربعة عناصر حاسمة ستفرض استيلاد نظام إقليمي جديد، هي الاندفاعة الاستراتيجية الروسية نحو البحر الأبيض المتوسط لفرض واقع عسكري وسياسي جديد يعبّر عنه الهجوم المعاكس في البرّ السوري، بصورة تضع العدّ التنازلي للتحدّي العسكري في سورية مفتوحاً على فرصة عامة يكون فيها تقريباً كل شيء قد انتهى. وثانياً تحوّل الإرهاب إلى همّ كبير للغرب بعدما استجلبه لحسم سورية وفقد السيطرة على قواه بعدئذ، وفشلت الرهانات على معادلة «ترحيل المتطرّفين إلى سورية ينهي وجودهم في الغرب، فثبت أن فتح باب الرحيل ينشئ مدارس للتعبئة تنتج أضعاف المهاجرين»، و«أن إقفال ساحة الجذب شرط لإقفال مدراس التعبئة». وثالثاً، مستقبل حزب «الأخوان المسلمين» في مركز القلعة التي تمثلها تركيا والذي يبدو أنه مهما كانت توقعات نتائج الانتخابات يوم الأحد، قد فقد قوة الدفع، ودخل مرحلة الأفول التاريخي، ورابعا خطر تحول الجغرافيا التي تسيطر عليها التنظيمات الإرهابية في ظلّ التفتّت المذهبي والتوتر العالي الذي يتجذر بمثابة حروب أهلية وفتن مذهبية مع الصحوة الكردية إلى تبلور التقسيم الجغرافي وأخذ كيانات المنطقة إلى مكان لا رجعة منه، تصبح فيه الكيانات الناشئة على ضفاف المتوسط والخليج بفعل التوزيع الديمغرافي إلى امتداد للنفوذ الإيراني، بعد تقسيم تركيا والسعودية وسورية والعراق.
إيقاع هذه التداعيات المتسارعة، سينتج حكماً نظاماً إقليمياً جديداً. فإما أن تترك روسيا وإيران ترسمان هذا النظام بقوة وقائع فائض القوة المُسال في الميدان، في ظلّ انحسار الاندفاعة التركية التي تستهلكها القوة الكردية الصاعدة، والسعودية التي تستنزفها القوة اليمنية الصامدة، و«الإسرائيلية» التي تقابلها الانتفاضة الفلسطينية الواعدة، وبالتالي يصير التعويض بالسياسة وعرض خفض تكاليف النصر على محور الشرق هو الطريق الوحيد لنظام تشاركيّ في الشرق الأوسط، ومساهمة محور الغرب وحلفائه في تقديم الغطاء وإزالة العقبات من طريق فرض الاستقرار كشرط لقيام أيّ نظام إقليمي جديد ومدخله هذه المرة استقرار سورية.
شكل النظام الجديد في سورية ونسبة شراكة الغرب وحلفائه فيه سيعكسان نسبة القوى الجديدة الناشئة في المنطقة في ضوء تداعيات المتغيّرات منذ التموضع الروسي الجديد. وهو كما تقول وقائع التحدّيات الأربعة ليس في مصلحة الغرب وحلفائه، ويبدو أكيداً كما تقول بكائيات متطرّفي الكونغرس الأميركي على أفول زمن الغزو العسكري، أن الرئيس بشار الأسد يشكّل رمز النظام الإقليمي الجديد، والجيش العربي السوري، يشكّل القوّة العسكرية الصاعدة في الشرق الأوسط الجديد، وأنّ سقف طموحات المعكسر الغربي وحلفائه شراكة الديكور الذي يمنح الشرعية التشاركية للحرب وبالتالي للنصر، وأن الخاسر الأكبر من النظام الإقليمي الجديد هو المستثمر الأكبر في النظام الذي ولد جهيضاً وما عرف الحياة، لذلك يسعى الخاسرون إلى التعويض عن ضعف موارد القوّة بالصراخ.
هذا ما تُجرى محاولات إنتاجه في فيينا. ولهذا، يبدو الصراخ السعودي مرتفعاً..