ماذا بقي للعرب في سوق البيع والتطبيع؟
الحقيقة/محمد الحسيني
منذ أن بدأت شرارات ما سمّي بـ “الربيع العربي” تعصف بالدول العربية دخلت المنطقة الاستراتيجية في الحسابات الدولية مرحلة جديدة من رسم التحوّلات الجيوسياسية، فانهارت أنظمة، وتغيّر رؤساء، وتفكّكت مجالس إقليمية وتشرذمت اتحادات قارّية، وانقسمت شعوب البلاد بعضها على بعض في عصابات متناحرة تتقاتل بدعم أحلاف عربية متناقضة، واندلعت حروب داخلية، وأضحت حدود الدول المصابة بجرثومة “الشعب يريد إسقاط النظام” مفتوحة أمام استقدام مجموعات القتال المرتزقة وشحنات الأسلحة التقليدية والحسّاسة، وانقلبت المفاهيم والمبادئ واهتزت مرتكزات القضايا الأساسية، وتحوّل العرب من منظومة الحلف الجامع والدفاع المشترك إلى معادلة النأي بالنفس، فتقزّمت القضية من صراع عربي – صهيوني إلى نزاع فلسطيني – إسرائيلي، وصارت “إسرائيل” – العدو بالأمس- حليفاً أول اليوم، وعلى رأس طاولة الضيافة العربية، ورأس حربة المواجهة العربية ضد إيران .. وبقيت فلسطين يتيمة.
مبادرة بيروت
في العام 2002 أطلق العاهل السعودي عبد الله خلال قمة بيروت العربية، مبادرة “للسلام في منطقة الشرق الأوسط” تهدف في ما تهدف إليه إلى قيام دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من حزيران 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين والانسحاب الإسرائيلي من هضبة الجولان المحتلة، مقابل الاعتراف الكامل بـ “إسرائيل” وتطبيع العلاقات بينها وبين الدول العربية، وشكّلت هذه المبادرة في ذلك الوقت انكساراً جوهرياً لمعادلة الصراع وتنازلاً مباشراً وواضحاً عن اللاءات الثلاثة المشهورة “لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف”، وبدا أن هذه المبادرة العربية الجامعة في طريقها إلى التطبيق بعدما حظيت بموافقة دولية وأوروبية على وجه الخصوص، ولكن “إسرائيل” رفضتها واعتبرت أنها لا تساوي الحبر الذي كُتبت به، وردّت عليها بمزيد من قضم الأراضي المحتلة وبناء المستوطنات في رسالة واضحة بأن ما يعرضه العرب ليس كافياً، ما لم يتم إعلان الاستسلام والخضوع الكامل.
تنازل بالمجان
أسقطت “إسرائيل” ومن خلفها الولايات المتحدة مبادرة بيروت، على الرغم مما تتضمن من اعتراف سياسي ودبلوماسي مباشر بالكيان الصهيوني، وتقزيم للقضية الفلسطينية، فضلاً عما كانت تستبطنه من مشروع مقنّع لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في بلاد الشتات، في حين لم يكن قد مضى عامان على الانتصار الكبير الذي حققته المقاومة عام 2000 على الاحتلال الإسرائيلي بتحرير الأراضي اللبنانية المحتلة باستثناء مزارع شبعا، والذي انعكس حالة استنهاض عربية وإسلامية عارمة لدى الشعوب العربية والإسلامية، وهو الذي كان من المفترض أن يعطي زخماً يرفع فيه العرب سقف شروطهم ويقووا فيه مواقفهم من القضية الفلسطينية، ولكن الذي جرى هو خلاف المنطق الواقعي في السياسة والميدان، وبدل أن يستثمر العرب انتصار لبنان جاؤوا إلى بيروت عاصمة الانتصار ليعرضوا على “إسرائيل” التنازل أكثر في مسعى خبيث لإسقاط مفاعيل الانتصار بمبادرة لم تجد طريقها للتطبيق، فاندفع العرب إلى خيارات أكثر إيغالاً في الانحدار وأكثر تنازلاً وأكثر انقساماً، لأن بعض الأطراف العربية، وفي مقدمتها لبنان وسوريا، كانت لا تزال تقف حجر عثرة أمام الإجماع العربي على إتمام صفقات البيع المجاني.
الضفة: الهدف القادم
اليوم وبعد 17 عاماً، وما احتضنته هذه الأعوام من تنازلات مستمرة للعرب، يأتي السعي الأمريكي – الإسرائيلي لتنفيذ صفقة القرن التي مهّد لها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعلانه القدس عاصمة أبدية لـ”إسرائيل” وافتتاح مقر للسفارة الأمريكية فيها، وتوقيعه قرار منح الجولان للكيان الصهيوني، وبالتزامن مع تنظيم مؤتمر البحرين الاقتصادي وتخصيصه خمسين مليار دولار لشراء قضايا العرب بثمن بخس، يبرز الموقف الصريح للسفير الأمريكي في الكيان الصهيوني ديفيد فريدمان بأن “إسرائيل تملك الحق في الاحتفاظ بجزء من الضفة الغربية”، وبالتالي ماذا بقي للعرب لكي يعرضوه للبيع في قضية فلسطين وأرضها وحقوقها، وهي القضية التي تسقط معها كل القضايا؟ وماذا يستطيع العرب فعله وهم الذين يقفون اليوم على حدود العداوة فيما بينهم ويموّلون الحروب في أرض العرب من اليمن إلى سوريا إلى ليبيا والسودان وقبلها في مصر والجزائر؟ وما هو الثمن الذي سيتقاضاه عرّابو صفقة البيع في ظل استنزاف إدارة ترامب للأموال العربية ولا سيما السعودية والإماراتية منها؟
العرب ووهم السراب
لم يبقِ العرب أي ورقة تستر عوراتهم، لا بل عمدوا – بعد سنوات من التستّر الخبيث – إلى تعرية أنفسهم ومواقفهم بشكل فاضح وصريح، وها هم يوظّفون ثروات دولهم وأموال شعوبهم ويجنّدون قدراتهم لتكون بخدمة الولايات المتحدة و”إسرائيل” لضرب الجمهورية الإسلامية في إيران ودول الممانعة، ومعها حركات المقاومة من لبنان وفلسطين إلى سوريا واليمن، التي أثبتت قدرتها على الصمود وصنع الانتصار، ولم تعد القضية متعلّقة بتحرير فلسطين والقدس الشريف بقدر ما هي متصّلة بسعي عرب التسوية إلى تدجين شعوبهم وإسقاط إراداتهم، فالفلسطيني المقاوم اليوم أصبح في الاقتباس العربي مخرّب – وفق الاعتبار الصهيوني – واللبناني المقاوم يقف حجر عثرة أمام تحقيق “السلام”، وسوريا التي رفضت الانصياع في ركب التسوية أُخرجت من جامعة الدول العربية وتعرّضت للتدمير والتخريب، أما إيران التي ناصرت قضية فلسطين منذ اليوم الأول لانتصار ثورتها الإسلامية فقد أصبحت هي العدو الأول للعرب، وعلى الرغم من كل ذلك لا يزال العرب يراهنون على سراب، ولم يعد لديهم ما يعرضونه للبيع أو يطرحونه في سوق التطبيع، فهم اليوم كمن يلحس المبرد ولا ينفعه ذلك سوى اجترار الألم والخيبة.
محمد الحسيني