مآلات “سوء التقدير” والعدوان الأميركي-البريطاني على اليمن

 

ما يمكن حسمه والرهان عليه أننا دخلنا مرحلة جديدة بالانتقال من مواجهة “قرن الشيطان” إلى مواجهة “الشيطان الأكبر” مباشرة، وأن المرحلة القريبة المقبلة حبلى بمفاجآت لا يحتملها الأميركي والبريطاني.

ليل الثاني عشر من كانون الثاني/يناير، وفي التوقيت ذاته الذي بدأ فيه العدوان الأميركي – السعودي على اليمن عام 2015، شنّت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا عدواناً غير مبرر وغير مشروع على العاصمة اليمنية صنعاء ومحافظات الحُدَيْدة وتعز وحجة وصعدة وذمار، فاتحتين مرحلة جديدة وخطيرة من التصعيد تهدد السلم والأمن الإقليميين، والملاحة البحرية، بل وتهدد الأمن والسلم الدوليين باعتبار حساسية البحر الأحمر وباب المندب في ما يتعلق بالتجارة العالمية وإمدادات الطاقة، ما يؤكد حقيقة أن واشنطن ولندن و “تل أبيب” هي المهدد الأساسي لأمن الملاحة البحرية وسلامتها، والجهة التي تدفع المنطقة إلى فوهة بركان قد ينفجر في أي لحظة.

لم يكن العدوان الأميركي -البريطاني على اليمن، أمراً مفاجئاً بالنسبة إلى كثير من المراقبين اليمنيين ونحن من بينهم، إذ سبق العدوان موجة من التسريبات والتصريحات والتسويق له كجزء من إدارة المعركة على مستوى الحرب النفسية، وكجزء من دفاعهما المشترك عن كيان العدو الإسرائيلي وتوفيرهما المظلة العسكرية لضمان استمرارية العدوان الإسرائيلي وجرائم الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة والضفة، وللشهر الرابع على التوالي.

لماذا اليمن، وفي هذا التوقيت؟ 

أما لماذا اليمن وفي هذا التوقيت؟ فهناك اعتبارات كثيرة قد تشكل تفسيراً لهذه الحماقة الاستراتيجية والهستيريا الأميركية-البريطانية تحديداً، أولها أن هاتين الدولتين (أميركا وبريطانيا) هما الراعيتان الأساسيتان تاريخياً لكيان العدو الإسرائيلي منذ زرعه في فلسطين المحتلة، بمعنى أن هناك دوراً عضوياً بين أميركا وبريطانيا من جهة وكيان العدو من جهة أخرى. 

الأمر الآخر أن هناك علاقة وظيفية لكيان العدو منذ خمسة وسبعين عاماً خلت بهاتين الدولتين الاستعماريتين، إذ ترى واشنطن ولندن أن هذا الكيان المؤقت قلعة وجبهة عسكرية أمنية متقدمة في منطقتنا، ويعزز ذلك ما أعلنه الصهيوني بايدن، من أنه ” لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها”.

والأهم من ذلك، فاعلية الموقف اليمني الذي وظّف موقعه الجيوستراتيجي على باب المندب وثلاث واجهات بحرية لمناصرة فلسطين، والضغط لإنهاء العدوان والحصار المفروضين على غزة منذ قرابة أربعة أشهر، من خلال منع مرور السفن التجارية الإسرائيلية وتلك المتجهة إلى “إسرائيل”، وفرض حظر بحري على الكيان في البحر الأحمر وخليج عدن، والبحر العربي. 

يجب أن نميّز بين الميداني والسياسي، فأميركا ومعها الذيل البريطاني تدّعيان ميدانياً أنهما نفّذتا “ضربة قاسية” للبنية التحتية الصناعية للصواريخ والمسيّرات، واستهدفتا المنشآت التي تصنع الطائرات والمسيّرات، وبالتالي ادعاء أنهما نجحتا في نسج صورة انتصار ” لإنهاء التهديد” من وجهة نظرهما، لكن هذا الادعاء وهذا الزيف سينكشفان سريعاً مع بداية الرد اليمني المزلزل على هذا العدوان وهذه الحماقة، سواء من خلال استهداف القطع العسكرية الأميركية والبريطانية المهددة لأمن المنطقة واستقرارها، وأمن الملاحة وأمن اليمن، أو من خلال استمرار معادلة الحظر البحري على “إسرائيل” في البحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي.

وبالطبع، سيتضح حينها “سوء التقدير” لدى الدولتين الاستعماريتين اللتين لم تتعظا من عدوان أدارتاه على اليمن على مدى تسع سنوات ولا تزالان، إذ كيف يمكن أن تردع اليمن شعبياً وعسكرياً بـ “عملية خاطفة” وبـ 73 ضربة جوية وبحرية، وهي التي خرجت للتو كقوة إقليمية بعد قصفها بأكثر من ربع مليون غارة، بمعنى أن اليمن الذي لم يرتدع ولم يخضع خلال عدوان التسعة أعوام، لن يردعه عدوان سويعات في آخر ليلة الثاني عشر من كانون الثاني/يناير، وكيف ستردع بلداً تمرس على مدى تسع سنوات على امتصاص الصدمات وتحويل التهديدات إلى فرص.

يدرك الأميركي والبريطاني، هذه الحقيقة، وارتداداتها على المستوى السياسي لبايدن وسوناك في الداخل الأميركي والبريطاني، لأنهما خالفا قوانين بلديهما وتجاوزا المؤسسات التشريعية فيهما، كما تجاوزا الشرعية الدولية ومواثيق الأمم المتحدة بالعدوان على بلد ذي سيادة.

هذه الحقيقة انعكست في البيانات المرتبكة وغير المقنعة لبايدن وسوناك عقب العدوان، ومن خلال الانقسام الحاصل في الكونغرس الأميركي ومجلس العموم البريطاني من ناحية، والانتقادات الدولية والإقليمية من ناحية أخرى، وعلى رأس المنتقدين الدوليين روسيا والصين، وفي المنطقة دول وازنة أيضاً وفي مقدمتها إيران وتركيا ومصر والعراق و الجزائر وسلطنة عمان وكثير من الدول، فيما ظهرت السعودية والإمارات كمن يريد أن يقول لليمن بأن لا علاقة لنا بالعدوان الأخير على اليمن، ببساطة لأنهما قد جربتا تبعات التوريط الأميركي في العدوان على اليمن، ولا تزالان تشعران بمرارة الخذلان الأميركي إلى اليوم، مقارنة بـ “إسرائيل” التي تقاتل أميركا وبريطانيا بالنيابة عنها، وتوفران لها الغطاء السياسي والمالي والعسكري، فيما تعرضت السفن السعودية والإماراتية خلال عدوان السنوات التسع للاستهداف في البحر الأحمر، وتلقت منابع الطاقة والعمق الاستراتيجي فيهما الضربات اليمنية الدفاعية من دون أدنى حماية أميركية – بريطانية بخلاف “إسرائيل”.

ومن منطلق التجربة، تدرك أميركا وبريطانيا جيداً أن اليمن ليس ممن يحتفظ بحق الرد، وأن الرد اليمني قادم ومحتوم ومحسوم، ومع ذلك تعرضان مصالحهما للخطر دفاعاً عن الكيان الصهيوني، وتخشيان في الوقت ذاته تبعات الرد، وهذا ما يفسر التهديدات الأميركية – البريطانية يمنة ويسرة بتكرار حماقتهما على اليمن، على أن تكرار هذه الحماقات الاستراتيجية قد يوسع ويؤجج رقعة الصراع في منطقة غرب آسيا برمتها، وهذا لا يخدم أولوياتهما في أوكرانيا وبحر الصين، كما لا يخدم الاستحقاقات السياسية التي هم مقبلون عليها ومن بينها الانتخابات الأميركية الوشيكة، إذ إن الناخب الأميركي قد يجد نفسه أمام محطات فارغة من دون وقود أو بأسعار خيالية لا تخدم بايدن في معركته الانتخابية، وقد بدأت المؤشرات بارتفاع النفط عالمياً بنسبة 2% بعد وقت قصير من العدوان الأميركي – البريطاني على اليمن.

التبعات السياسية والعسكرية للعدوان المشترك

من شأن العدوان الأميركي – البريطاني أن يوسع دائرة السخط الشعبي والسياسي على البلدين المعتديين على مستوى اليمن والإقليم، وقد بدا ذلك ملموساً من خلال البيانات الصادرة عن عدد من دول الإقليم بينها تركيا وعمان والجزائر والعراق وإيران…الخ، وعلى المستوى الداخلي، ظهرت مواقف من المحسوبين على الأطراف المناوئة لأنصار الله مندّدة بهذا العدوان، وهذا من شأنه أن يخلق اصطفافاً وطنياً وبما لا تشتهيه سفن واشنطن ولندن، كما أن مسيرات التحدي المليونية في صنعاء والمحافظات تظهر الإجماع الوطني الداعم لخيارات صنعاء العسكرية ضد هذا العدوان ولمساندة غزة.

أما التبعات العسكرية، فستكون وخيمة جداً على أميركا وبريطانيا، وهذا ما أوحت به التصريحات الحاسمة من مختلف المستويات السياسية والعسكرية في صنعاء، إذ سبق أن أكد السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي أن “أي عدوان أميركي لن يمر من دون رد”، وأن “الرد على أي عدوان جديد سيكون أكبر من الرد السابق على جريمة استهداف منتسبي البحرية”، ما يعني أننا أمام استحقاق عسكري قادم لا محالة.

وبعد ساعات من العدوان الأميركي -البريطاني على اليمن، أكد القائد الأعلى للقوات المسلحة اليمنية الرئيس المشير مهدي المشاط أن “الدم اليمني غال وثأرنا لا يبات”، في إشارة إلى سرعة الرد، إلى جانب “استمرار منع السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى فلسطين المحتلة ” لإثبات أن اليمن ليس مردوعاً ولن يرتدع بالعدوان الأخير.

وفي ترجمة لهذا التهديد، أكد وزير الدفاع في حكومة تصريف الأعمال اللواء الركن محمد ناصر العاطفي ومن الحديدة المشاطئة للبحر الأحمر: ” جهوزية القوات المسلحة للردع والرد، وأن اليد الطولى في البحرين الأحمر والعربي هي لليمن… وأنه كلما طال العدوان على أهلنا في غزة كان لدينا الكثير والكثير من المفاجآت، وستظهر في الوقت المناسب”، المفاجآت التي توعدت بها الدفاع، تعني أن بريطانيا وأميركا “ستدفعان الثمن باهظاً” وفقاً لنائب وزير الخارجية حسين العزي، وبالتالي فإنهما وفقاً لرئيس الوفد الوطني المفاوض محمد عبد السلام “مخطئتان إن فكرتا أنهما ستردعان اليمن عن مساندة فلسطين وغزة”.

لسنا بحاجة إلى خلاصة، فقد تكفل بها عضو المجلس السياسي الأعلى محمد علي الحوثي (الذي أشيع خبر استشهاده خلال العدوان الأميركي -البريطاني)، أن اليمن هو من يحمي الملاحة البحرية، وأن التحالف الأميركي هو من يشعل البحر الأحمر ويعسكره ويهدده، ويعمل جاهداً لرفع أسعار التأمين البحري، وينتهك الدستور الأميركي والقانون الدولي معاً.

ما يمكن حسمه والرهان عليه أننا دخلنا مرحلة جديدة بالانتقال من مواجهة “قرن الشيطان” إلى مواجهة “الشيطان الأكبر” مباشرة، وأن المرحلة القريبة المقبلة حبلى بمفاجآت لا يحتملها الأميركي والبريطاني، ولن ينجيهما من جحيم اليمن ومعهما الإسرائيلي سوى وقف إطلاق النار والعدوان ومجازر الإبادة في غزة، وإدخال ما تحتاجه إنسانياً من وقود وغذاء ودواء، وإلا فإن المرحلة المقبلة أمام سيناريوهات انفجار كبير في المنطقة، إن استمر التصعيد الأميركي -البريطاني -الإسرائيلي، والأيام بيننا.

علي ظافر

كاتب يمني
قد يعجبك ايضا