لو أن محمَّد بن سلمان يقرأ التاريخ بقلم/ عزالدين بن عطية
لو راجَعَ محمَّد بن سلمان دروسه، وقرأ التاريخ القريب جيِّداً، لأدركَ أنَّ اليمني، وإنْ شَابَه السعوديَّ في السُّمْرة، فإنه يختلف معه في الطِباع والمزاج.
تفصلنا أيامٌ قليلة عن إتمام العدوان السعودي الظالِم على الشعب اليمني الشقيق عامه الخامس، وهو عدوان يُسمَّى تَجنِّياً وتزويراً “التحالف العربي”، ولم تشارك فيه الأركان الأساسية للنظام العربي، فهل يُعقَل أن نُطلِق وصْفَ “عربي” على عملٍ، من دون أن يضمّ العراق الحضارة وسوريا العروبة والجزائر الثورة!؟
أن تعتدي على أخيك، فذلك قِلّةُ مروءة وجُرمٌ مُدانٌ بكلّ المعاني وفي كلّ الحالات، ولكن أن تعتدي على اليمن بالذات، فتلك خطيئة كُبرى لا تُغتَفر، ستدفع ثمنها غالياً من دمائك، وستنكسر على أبوابها جميع خططك، وتتلاشى مع كل يومٍ يمرّ على عدوانك فُرِص نجاتك وعودتك إلى بيتك سالِماً، فإن لم تمت هناك بالضربة القاضية، فستموت حتماً مُتأثّراً بجراحك الغائِرة وخدوشك التي لا يمكن أن يمحوها الزمن.
لو راجع محمَّد بن سلمان دروسه، وقرأ التاريخ القريب جيِّداً، لأدركَ أنَّ اليمني، وإن شَابَه السعوديَّ في السُّمرة، فإنه يختلف معه في الطِباع والمزاج، فاليمني يموت ولا يركع. تكفيه حُفنة تمرٍ لينصب لعدوه كميناً يمتدّ لأشهر من دون أن يملّ أو يتذمَّر. هو عنيد وشُجاع لا يهاب الموت. طيِّب، ولكن كرامته تسبق حاجته إلى طعامٍ أو مال.
يحاول النظام السعودي عَبَثاً أن يقنعنا بأن حربه الجائِرة على اليمن تهدف إلى خدمة الأمَّة واليمنيين أنفسهم وحمايتهم من “شرّ” الحوثيين الهاشميين العرب الأقحاح، ليجد في الفتنة الطائفية والمذهبية سنداً يتّكئ عليه في تبرير هذا الخطر، وهو ليس أمراً جديداً على حُكَّام السعودية، الذين استعملوا الدين من خلال تحالفهم مع الشاه (الشيعي) – ولكنه مَلِكٌ وعميل لأميركا والصهاينة – في ستينيات القرن الماضي، ضدّ المدّ القومي بزعامة جمال عبدالناصر، فألصقوا به صفة الشيوعية والإلحاد التي بقيت تُطارده حتى اليوم.
وما زالت هذه التهمة تُردَّد في العديد من خطب التيار الوهّابي، ما ساهم لاحقاً في إثارة موجة التشكيك التي طالت دعوة عبدالناصر والأزهر الشريف من أجل التقريب بين المذاهب، على اعتبار أنها صادرة عن “مُلحِد” يريد أن يستبدل الشيوعية بالشيعة.
لم يُشكِّل الخلاف الطائفي أيّة مشكلة أو عائق أمام تحالف السعودية مع الملكية الزيدية (الشيعية) في الستينيات، فلم تتردَّد المملكة في دعم الملك المعزول بالمال والسلاح، ما دام النظام مَلكياً ومُتماهياً مع نظامها القائم، لأنّ الخطر الحقيقيّ الذي تخشاه السعودية هو المدّ الثوري، أياً كان مصدره، وليس الطائفي، وهو بالضبط ما تخشاه من إيران الثورة ذات النظام الجمهوري، التي تقع في قلب مَلَكِيَّات تقليدية تخاف على اهتزاز عروشها أكثر من خوفها على ضياع أوطانها.
اختارت السعودية العنوان الخطأ عندما اعتقدت أن اليمن هو الحلقة الأضعف، حيث يمكن أن تُسوِّق لمشروعها التفتيتي الذي يعتمد على استغلال مكانتها الدينية، عبر رعايتها الأماكن الإسلامية المُقدَّسة من أجل تأجيج الصِراع الطائفي، مُستعينةً بالعدو الصهيوني وداعميه الأميركيين والغربيين، ابتغاء شراء واقع سياسي عربي جديد يضع المملكة على عرش الأمَّتين العربية والإسلامية، مقابل أن تبيعه ما لا تملك مما تبقّى من كرامة الأمَّة ومُقدَّراتها.
ربما يكون الشعب اليمني الأقل تعصّباً للطائفة أو المذهب بين البلدان العربية الأخرى، فالحياة الدينية في اليمن تُمارَس إلى حدٍ كبيرٍ بسلاسةٍ ومرونةٍ من دون مُراعاةٍ للفروق المذهبية التي لم تكن عائِقاً مثلاً أمام الرئيس السابق علي عبدالله صالح (الشيعي) في اعتلاء كرسي السلطة مدعوماً بحاضِنةٍ شعبيةٍ سنيّةٍ بالأساس، إلى درجة أنَّ هناك مَن يجهل إلى اليوم أنه ليس سنّياً.
إنَّ الأهداف الحقيقية للعدوان على اليمن ما زالت نفسها ولم تتغيَّر، فالسعودية لا ترغب في يمنٍ جمهوري قويّ ومُوحَّد على حدودها. لذلك، سعت دائماً إلى إضعافه بكل الوسائل، فدبَّرت مع قوى في الداخل اليمني لاغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي في العام 1977، وهو الشخصية الوطنية الذي لا زال اليمنيون إلى اليوم يُكنِّون لها محبّة واحتراماً خاصين.
عُرِفَ عن الحمدي حرصه على استقلال اليمن، والتصدّي للنفوذ السعودي، وسعيه إلى إعادة رَسْمِ الحدود مع البلدين، بِندِّيةٍ تحفظ حقّ اليمن في أراضيه ومياهه، فقد عمل على إرساء ركائز ليمنٍ حديثٍ، بعيداً من سلطة القبائل – التي تربط شيوخها بالنظام السعودي علاقات وطيدة – وتَحوّلَ اليمن في عهده إلى ورشات للإصلاح والتنمية.
كما سعى إلى توحيد اليمن عبر خطوات مدروسة ومُتدرِّجة من دون تسرُّع أو ارتجاليّة، بما يضمن النجاح والديمومة للوحدة التي ترى فيها السعودية في المقابل تهديداً لها. لذلك، شجَّعت حرب الانفصال في العام 1994 ودعمتها بالمال والسلاح، إلا أنها لم تفلح.
بعد اغتيال أحمد الغشمي (مُتّهم بالمُشارَكة في اغتيال الحمدي)، تولّى عبدالله صالح الرئاسة (متَّهم بالمُشاركة في اغتيال الإثنين)، والذي وإنْ عَرفت علاقته بالنظام السعودي تمايُزاً بين التأييد أحياناً والخصومة أحياناً أخرى، إلا أنه كان من المِنظار السعودي الشخص المناسب الذي يستطيع الإمساك بالسلطة في يده عبر تحالفات داخلية مُعقّدة وغير مُتجانِسة، بل ومُتناقِضة في أحيانٍ كثيرة، بما يضمن بقاء اليمن غارِقاً في الصِراعات الداخلية والفساد والفقر والتخلّف، انطلاقاً من قناعة حُكّام السعودية بأن يَمَناً قوياً يستدعي استقراراً سياسياً، وهو ما يتطلّب بدوره استقراراً اقتصادياً.
جَثَمَ عبدالله صالح على قلوب اليمنيين أكثر من 30 سنة، تحوَّل فيها اليمن الغني بثرواته وطاقاته البشرية إلى دولةٍ فاشلةٍ وفقيرةٍ تستجدي الانتساب إلى مجلس التعاون الخليجي، ليُبقيه الإخوة “الأشقاء” مُعلَّقاً بين اليأس تارة والرجاء تارة أخرى، فبينما يُبرِّر حُكَّام السعودية حربهم على اليمن بأنها حماية لهذا البلد من الارتماء في أحضان إيران، نجدهم يرفضون عضويّته في مجلس التعاون، في حين يُدعى المغرب والأردن إلى الانضمام، والذي، وإن لم يتحقَّق في النهاية، إلا أنه يؤشِّر بوضوحٍ إلى حقيقة ما تُضمره السعودية لليمن.
مرّت 5 سنوات، أو تكاد، على العدوان السعودي على اليمن. وعوَضاً عن أن تكون السعودية أكثر أمْناً، باتت في مرمى صواريخ “أنصار الله” الذين جعلهم العدوان أقوى بدلاً من أن يُضعفهم، وأصبحوا يضربون السعودية في عُمقها بالصوت والصورة، ويقولون لها إن عدتِ عدنا.
وبدلاً من أن يُقوّي محمَّد بن سلمان، الطامِع في مُلك أبيه، موقعه في المملكة – عبر لبس ثوب الرجل القوي الذي يحمي أمن السعودية ويدعم موقعها كدولةٍ إقليميةٍ وازِنة – بات أكثر ضعفاً، بعد أن حَرَمَه “أنصار الله” من مُجرَّد انسحابٍ على شكل انتصارٍ وَهْميّ يحفظ ماء وجهه… ولكنهم لا يتعلَّمون الدرس.