لبنان :الضاحية تستعيد مشاهد تموز 2006: قصف وشهداء وأبنية مدمّرة ..تجاوز كبير وحادّ للقواعد – المقاومة للعالم: لا كلام خارج الميدان ..
الضاحية تستعيد مشاهد تموز 2006: قصف وشهداء وأبنية مدمّرة – تجاوز كبير وحادّ للقواعد – المقاومة للعالم: لا كلام خارج الميدان
الضاحية تستعيد مشاهد تموز 2006: قصف وشهداء وأبنية مدمّرة
في تمام السابعة وأربعين دقيقة، وقع ما كان أهل الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت ينتظرونه منذ أيام، ودوّى انفجار وصلت أصداؤه إلى حدود منطقة خلدة والجبل وبيروت. سريعاً، يمّمت الضاحية وجهها ناحية حارة حريك مع تصاعد أعمدة الدخان، وتحديداً إلى المنطقة المحيطة بمستشفى بهمن، حيث يوجد عدد غير قليل من المراكز الحزبية المعروفة، مثل مبنى كتلة الوفاء للمقاومة، وعدد من مكاتب المساعدات الاجتماعية الخاصة التي تعجّ بالمراجعين، فضلاً عن مسجد ومكتبة الحسنين، في وقت كان فيه مئات المصلّين يتدفقون على المسجد لتأدية صلاة المغرب.مع توالي الدقائق، تدفق سيل الدراجات النارية صوب المستشفى، وبدأت الصور بالتوالي. المستهدف هو مبنى الربيع المحاذي لمدخل الطوارئ في مستشفى بهمن، حيث يقع في شارع ضيق لا يكاد يتسع لسيارتين ذهاباً وإياباً، والنتيجة انهيار الجزء الغربي من المبنى بشكل شبه تام، وتضرر عدد كبير من البيوت والمحال والسيارات، فضلاً عن انهيار جزء من سور المستشفى وبوابة الطوارئ فيها. لم تتمكن سيارات الإسعاف، من كلّ أنحاء الضاحية، من الوصول خلال اللحظات الأولى من الاستهداف، وقد ملأ الغبار الأجواء. ومع ساعات الغروب، غرق الشارع المستهدف في ظلام دامس، والسيارات التي خرجت من الشوارع في لحظات حلّت مكانها مئات الدراجات النارية التي أقفلت كلّ السبل، ولولا قيام عناصر الحماية الحزبية بإطلاق النار في الهواء، لما تمكنت سيارات فوج إطفاء الضاحية من الوصول للمباشرة برفع الأنقاض. في الحصيلة الأولية، وصل عدّاد الجرحى إلى 60 توزعوا على مستشفيات المنطقة: بهمن والساحل والرسول الأعظم، أما عدد الشهداء، فوصل إلى 3، هم: الشهيدة وسيلة بيضون التي كانت تجلس على شرفة منزلها، والطفلان: حسن وأميرة فضل الله اللذان تردّد أنهما فُقدا خارج المبنى قبل أن تجدهما فرق الإنقاذ تحت الأنقاض.
لا تزال ذاكرة سكان المنطقة غضّة، إذ يذكر معظم الذين تجمهروا في شوارع حارة حريك وبئر العبد أمس حرب تموز عام 2006، ومشاهد الدمار المرافقة لها. لم يستغرب أهل الضاحية دفع هذا الثمن، وهم منذ أيام ينتظرون تنفيذ العدو تهديداته، من دون أن يستبعدوا ضرب الضاحية. لكنهم، وحتى ساعة متأخرة من الليل، حبسوا أنفاسهم على وقع الأخبار الآتية عبر وسائل التواصل حول هوية المستهدف بالضربة، وفي انتظار «بيان صادر عن المقاومة الإسلامية»، يعلن النبأ اليقين، بعدما تجرّأ العدوّ على ما لم يفعله منذ 18 عاماً.
المقاومة للعالم: لا كلام خارج الميدان
حتى الثانية من فجر اليوم، لم يكن حزب الله قد أصدر أيّ بيان حول العدوان الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية، مساء أمس. ولم يعلّق على إعلان العدوّ تنفيذه عملية اغتيال القائد الجهادي الكبير في الحزب فؤاد شكر (السيد محسن). وصمت حزب الله لا يجب إعطاؤه أيّ تفسيرات سياسية أو أمنية، ذلك أنه حتى هذه اللحظة (الثانية صباحاً)، لم يكن الفريق المعني في الحزب قد حصل على دليل يجزم باستشهاد شكر، وهو دليل يحتاج إليه الحزب لأسباب عديدة تخصّه، وهو أسلوب سبق أن اعتمده في حالات مشابهة. وتكفي الإشارة الى أن الحزب لم يعلن عن استشهاد القائدَين عماد مغنية ومصطفى بدر الدين حتى تيقّن بالدليل العلمي من حصول الاستشهاد. وبالتالي، فإن موقف الحزب أو بيانه لن يصدرا قبل ذلك.وبانتظار الموقف الرسمي لحزب الله، انشغل العالم كله طوال ليل أمس بتقصّي الحقائق حول ما جرى، علماً أن مؤسسات إعلامية عربية ودولية تبنّت الرواية الإسرائيلية حول الهدف والنتيجة، كما صدرت مجموعة مواقف غربية، أبرزها عن مسؤولين في الإدارة الأميركية، كشفت تورط الولايات المتحدة في العدوان الذي استهدف مبنى سكنياً في منطقة حارة حريك المكتظّة بالسكان، وأدى الى سقوط ثلاثة شهداء (امرأة وطفلان) وأكثر من ستين جريحاً من المدنيين، بينهم أطفال ونساء، إضافة الى تدمير المبنى المستهدف وتضرر المباني المجاورة.
وبينما تباهى العدوّ بفعلته، وحاول تصوير عدوانه على أنه ردّ على حادثة مجدل شمس، إلا أن البيانات التي صدرت عن القيادات العسكرية والسياسية، وما نقلته وسائل إعلام العدوّ، ركّزت على دور شكر في إدارة العمليات من الجبهة اللبنانية التي فتحت بعد «طوفان الأقصى». وهو ما يعيد الأمور الى نصابها الحقيقي لجهة أن هدف العدو الفعلي كان ويبقى متمثّلاً بالسعي الى النيل من قادة المقاومة الذين يقودون عمليات الإسناد لقطاع غزة، وأن حادثة مجدل شمس ليست إلا ذريعة لتبرير العدوان على منطقة الضاحية.
وكانت لافتةً مسارعة الجانب الأميركي الى إعلان وقوفه الى جانب إسرائيل، مبرراً العملية، ومعلناً الاستعداد للدفاع عنها في مواجهة أي هجوم من قبل حزب الله، في مواقف تعكس الكذب الأميركي الفاضح، الذي يفرض على المسؤولين الرسميين في لبنان، وعلى كل من يدّعي دور الوسيط، التعلم من الدرس، بأن الوعود الأميركية التي نُقلت بأن العدوّ لن يضرب أهدافاً في بيروت أو الضاحية الجنوبية، لم تكن سوى عملية تضليل لخدمة أهداف العدوّ، علماً أن قيادة المقاومة لم تثق بكل ما نقله مسؤولون أميركيون ووسطاء غربيون سعوا مسبقاً لإقناع حزب الله بعدم الردّ.
عملياً، أقفل حزب الله هواتفه مساء أمس، والعبارة الوحيدة التي سمعها كل من حاول، من لبنان أو خارجه، السؤال عن موقف الحزب من العملية، كانت أن «الجواب في الميدان»، وأن لا مجال لأيّ كلام سياسي بعد هذا العدوان، وهو الموقف الذي دفع بعواصم غربية الى «التحسب من اندلاع مواجهة كبيرة على الجبهة اللبنانية مع العدو».
اليوم، سيكون هناك كلام واضح من حزب الله، وستصدر التوضيحات الكاملة حول حقيقة ما حصل، وحول تقييم الحزب لهذا العدوان، مع إشارة واضحة تشير إلى وجهة الأمور ميدانياً، علماً أن الحزب رفض في كل المداولات التي سبقت الغارة على حارة حريك تقديم أيّ تعهد أو توضيح أو إشارة الى كيفية تعامله مع أيّ عدوان إسرائيلي، وكان يضع في حساباته سعي العدوّ الى اغتيال قادة عسكريين في المقاومة. لكن صمت الحزب كان مردّه كلاماً سمعه كثيرون في لبنان وخارجه، ومفاده أن ما يجري هو مواجهة واضحة، وأن التوسع في دائرة القتال وطبيعته ومستواه يظلّ رهن قرار العدوّ، سواء لناحية وقف الحرب في حال أوقف عدوانه على غزة، أو لناحية شكل المواجهة مع لبنان في حال قرر توسيع دائرة اعتداءاته على المناطق اللبنانية أو على المقاومة نفسها.
الواضح الذي لا يحتاج الى توضيح أو سؤال، هو أن العدوّ فتح الباب أمام مرحلة جديدة في المواجهة، وهي مواجهة ستظل مرتبطة بالعدوان المفتوح والمستمر على قطاع غزة، لكن سيكون لها شكلها الآخر على الجبهة مع لبنان. ولا تحتاج المقاومة في لبنان الى من يمدّها بالمعطيات التي تحتاج إلى أن تكون ضمن حساباتها عندما تقرر شكل التعامل مع العدوّ من الآن فصاعداً. لكن الأكيد أن العدوان على الضاحية، أمس، فتح صفحة جديدة ومختلفة عما كانت عليه الأمور قبل الثلاثين من تموز 2024.
تجاوز كبير وحادّ للقواعد
يهدف الاعتداء الذي شنّه العدوّ الإسرائيلي في الضاحية الجنوبية، أمس، الى تغيير المعادلات التي تحكم حركة الميدان حتى الآن. ويستند في ذلك الى دعم أميركي صريح ومباشر لهذا الخيار، وإلى إدراكه بأن حزب الله غير معنيّ بنشوب حرب واسعة، حتى لو كان قادراً على إلحاق دمار كبير بالعمق الاستراتيجي الإسرائيلي، ولكون الضربة التي وجّهتها محدودة وموضعية.يشكل هذا الاعتداء ارتقاءً نوعياً في السياسة العدوانية الإسرائيلية بعد فشل الخيارات والرهانات السابقة في ردع حزب الله، وفي تفكيك جبهة لبنان المساندة عن جبهة غزة، وفي إنتاج بيئة عملياتية توفر الأمن للشمال وللمستوطنين. وتعزَّز هذا التوجّه لدى العدوّ مع التطورات السياسية والميدانية في قطاع غزة التي حفَّزته أيضاً من أجل نقل جزء رئيسي من جهوده العدوانية باتجاه لبنان.
قبل هذه المحطة، كانت المعطيات والمؤشرات تشير إلى أن العدوّ يُمهِّد لارتقاء نوعي ما في اتجاه لبنان. فإلى جانب المسار العملياتي التصاعدي، توالت المواقف خلال الأسابيع الماضية حول قرب الانتقال الى المرحلة التالية مع حزب الله، على لسان رئيس أركان جيش العدو هرتسي هليفي، مع إبلاغ المنظومة الأمنية للقيادة السياسية استكمال الاستعدادات في مواجهة لبنان، إضافة الى عدد من التقارير والمواقف التي تحدّد موعد الأول من أيلول باعتباره محطة استحقاق رئيسية بالنسبة إلى إسرائيل.
في كل الأحوال، العدوان الذي شنّه العدوّ في حارة حريك، أمس، شكّل تجاوزاً كبيراً وحادّاً للقواعد التي تحكم حركة الميدان وتضبطها. فهو استهداف للضاحية التي ظلَّلتها معادلة الردع منذ ما بعد حرب 2006، كما أدى هذا الاعتداء الى سقوط إصابات في صفوف المدنيين، إضافة الى كونه استهدف قيادياً كبيراً في حزب الله، بحسب ما أعلنت التقارير الإسرائيلية.
في المقابل، يمكن تقدير بعض ملامح الخيار الذي سينتهجه حزب الله، وهو أن أيّ اعتداء سيُقابله رد حتمي، مهما كان مستوى التهويل والعروض والوساطات في هذا المجال. وليس في فكر حزب الله ونهجه ما يسمح بفرض سابقة تُشجع العدو على تكرارها في محطات لاحقة، وقد تنطوي على رسالة خاطئة تورط العدو والمنطقة في خيارات عدوانية واسعة.
كلّ من يطّلع على تجارب حزب الله في المنعطفات الحساسة، يدرك حقيقة أن قرار رد حزب الله وحجمه وأهدافه تحدده قيادة المقاومة. ولن يكون هناك أيّ أثر للوساطات ولا للوفود والرسائل التي توالت في هذا المجال. ولن يطول الوقت حتى تتجلّى هذه الحقيقة مرة أخرى في الردّ على العدوان الإسرائيلي.
المقاومة لن تسمح بفرض سابقة يعمد العدوّ إلى تكرارها
تُظهر المعركة الدائرة منذ نحو عشرة أشهر أن حزب الله نجح الى حدّ كبير جداً في تحييد المدنيين وتوفير مظلة ردع مكّنتهم من الوجود والتحرك في أغلب الجنوب اللبناني، فضلاً عن العمق اللبناني. والتجربة تؤكد أن الحزب يتعامل بحساسية عالية جداً مع أي استهداف للمدنيين. ويمكن الجزم بأنه مستعد للذهاب الى أبعد مدى في حال تجاوز العدو أي خطوط حمر في هذا المجال. وهو لا يثق بالوعود الغربية، فضلاً عن أن كل التجارب في لبنان وفلسطين والمنطقة تؤكد على صوابية هذا النهج. وكشفت التجارب أيضاً عن أنه لولا قدراته على جبي أثمان كبيرة من الداخل الإسرائيلي لاختلفت المعادلة ولشهدنا تعاملاً أميركياً وغربياً مغايراً بشكل جذري مع لبنان. وغزة خير شاهد على ذلك.
يُضاف الى ذلك، أن الأميركي يتعامل في أي معادلة يكون أحد أطرافها العدو الإسرائيلي كطرف في جبهة العدو، وليس كوسيط. وكل تاريخ الصراع مع إسرائيل يؤكد هذه الحقيقة بما فيها تجربتا فلسطين ولبنان. ولذلك يلاحظ أنه يجاهر بتبني الموقف الإسرائيلي، بل يحاول تثمير تهويله وانتزاع مطالبه بالوسائط الديبلوماسية. وتجلّى هذا الأمر مجدداً في أعقاب دعوة واشنطن الى عدم الرد والتصعيد بعد العدوان الإسرائيلي في الضاحية، في حين أنها لم تبذل جهوداً جدية لكبح إسرائيل.