كيف كانت بداية الشهيد القائد :المشروع.. ولحظات الاستشهاد؟
كتب /د/أحمد الشامي
تمُرُّ علينا هذه الأيّامَ ذكرى استشهادِ الرَّجُلِ العظيمِ السيد حسين بدر الدين الحوثي، والذي أطلَق مشروعَه، ورفع ذلك الشعارَ الذي كان عنواناً لهذا المشروع وبدايةً موفّقةً.
لم تكن هذه الانطلاقة والتحَرُّكُ مسألةَ ترفيه، بل كان الواقعُ يفرضُها في تلك المرحلة، وكان العالَمُ العربي والإسلامي متَّجهاً لأَنْ يستباحَ من الأمريكي والصهيوني، وكانت الأولويةُ للأمريكيين هي لاستباحة اليمن واحتلاله، وكانت الترتيبات كثيرة لاحتلال اليمن، حتى أن الأمريكيين فعلوا حادثة السفينة “كول”، كمبرِّرٍ وذريعةٍ لاحتلال اليمن في تلك الفترة، ولكن تدابيرَ الله في الأخير هي الغالبة.
السيد حسينُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- عندما شاهد المؤامرات، ابتداءً بمسرحية البرجين في أمريكا قال: “والله ِإن هذه مؤامرة على الأُمَّــة، وسيأتي بعدها خطورةٌ كبيرةٌ على الأُمَّــة”، ولم تمر سوى أيامٍ قليلة حتى خرج الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش بتصريح قال فيه: “إنها حربٌ صليبية”، وعاد ليقول إنها زلة لسان، لكن الله فضحه (والله مخرج ما كنتم تكتمون)، وبعدها قال وزير الخارجية الأمريكي إنه يجبُ أن نبدأ باحتلال اليمن”.
لقد خاطب السيد حسين الجماهيرَ اليمنية، وألّف “ملزمة” حول الموضوع، وشخّص الواقعَ تشخيصاً كاملاً، وأدرك بأن الأمريكي سيحتلُّ اليمن، ولا بد من اتّخاذ خطوات وتدابير لمواجهة هذا الخطر، وإفشال هذا الاحتلال.
وخطابُ السيد حسين للجماهير اليمنية بدأ من المنطقة التي كان فيها، مناطق في صعدة، وبدأ يهيئ المجتمع، ويوعّيهم ليستعدّوا لمواجهة هذا الخطر الداهم، وكان السيد حسين يعتقدُ أن أهمَّ خطوة هي كسر الهيمنة الثقافية؛ لأَنَّ الهيمنةَ للثقافة والولاء للأمريكي، والهيمنة للطواغيت كانت مؤثرةً بشكل كبير داخل البلد.
كان السيدُ القائدُ يقولُ إنه “ضروري نوعي الجماهير”، والوعي بالدرجة الأولى يكون بكسر حالة الهيمنة الثقافية وإقناع المجتمع بأن أمريكا عدو، وَإذَا لم نبدأ بكسر حالة الهيمنة الثقافية، فمن سيقاتل أمريكا أصلاً ويفهم مؤامراتها؟ وَإذَا لم يكن هناك حالة توعوية وتبيين للناس بخطورة الأمريكي، فإنَّ شرائح المجتمع سيتعاملون مع الأمريكي مثلما حدث في العراق، حيث فرشوا للأمريكي الورود، عندما جاء ليحتل بلدهم العراق.
في تلك الأثناء، بدأ السيد حسين بترتيب الأمور، وأحدث ثورةً، فكان يريدُ أن تكونَ هناك ثورةٌ ثقافيةٌ وأن تُرفع الشعاراتُ وأن يعرفَ الناس العدوَّ الحقيقي الأمريكي والصهيوني، وحتى يعلمَ الأمريكي أنه إذَا حاول احتلال اليمن، فإنَّ اليمنيين سيفرشون له سكاكين، ولن يفرشوا له الورود، كما تم بالعراق، فكان لا بُــدَّ من الخطوة الأولى التي هي كسر الهيمنة الثقافية، بتوعية الجماهير، وأن يكون هناك رفع للشعار، الذي كان عنواناً وبوابة هذا المشروع “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل”.
وعندما بدأ السيد حسين بشعار: “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل”، هي كانت بداية موفقة وَبداية اقتدى فيها بالأنبياء والأولياء، وفي تاريخ وأَعلام الهداية على مراحل التاريخ كانت الخطوة الأولى في مواجهة الطواغيت والمجرمين، قبل مسألة الصراع المسلح هي كسر الهيمنة الثقافية، وعلى رأس كسر الهيمنة الثقافية، كسر الحالة “الصنمية”.
ويخبرنا القرآنُ الكريم عن بني الله إبراهيم -عليه السلام-، فيقول: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، فلاحظوا هنا (إذ قالوا) إنها معركة ثقافية (وبدا بيننا وبينكم) ما هو إلّا “في القلب” كما يقول البعض إنه يكفي بالقلب، ولا داعي اننا نصرخ، “وبدا”، لا بُــدَّ أن يظهر.
أصحابُ الكهف لهم نفسُ القضية، حيث كان معهم خياراتٌ كثيرةٌ في مواجهة الامبراطور الطاغوتي، وفي الأخير وصلوا إلى الخطوة الأولى التي هي رفعُ شعارات مضادة وكسر حالة الهيمنة الثقافية، “إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا”، (فقالوا) لاحظوا معركة الأفواه، معركة الشعارات، معركة المفاهيم، معركة المصطلحات، “إذ قاموا فقالوا ربُّنا ربُّ السماوات والأرض لن ندعوَ من دونه إلهاً لقد قلنا إذَا شططا”.
وكذلك كان النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- في بداية المعركة مع المشركين، لم يبدأ معركة مسلّحة، وبدأ بكسر الهيمنة الثقافية وعلى رأسها كسر الحالة “الصنمية”، التي يدور حولها الحراك الثقافي، فحرّك أصحابه، وكان يقول لهم أن يردّدوا “أحدٌ أحد”.
وفي مرحلة الشهيد القائد، نلاحظ أن “الحالةَ الصنمية” تغيّرت، وهذه الحالة تختلف من مرحلة لأُخرى، وليس المفترض أن تكون الحالة هذه عبارة عن أصنام تُعبد أَو امبراطور معيّن، بل قد تكون هذه الحالة “أهواء”، (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه”)، الحالة الصنمية عندما تخافُ من شيء أكثرَ من خوفِك من الله وترجو منه أكثرَ مما ترجوه من الله، وتتبعُه أكثرَ مما تتبعُ الله.
السيد حسين -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- وجد بأن أمريكا وإسرائيل أصبحت آلهةً من دون الله، وأصبح العرب والمسلمون يخافون منهم أكثر مما يخافون من الله، ويرجون منهم أكثر مما يرجون من الله، ووجد بأن الأنظمة العربية أصبحت تدورُ في فلك هذه الحالة الصنمية، فكان لا بُــدَّ من كسر الحالة هذه، فشدد على ضرورة أن يرفع الناس شعار (الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام)؛ وذلك بهدف كسر حالة الهيبة الأمريكية والصهيونية في نفوس المسلمين، ولإزاحة الولاءات والعبودية لغير الله رب العالمين، واستجابةً لقول الله تعالى (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وَإذَا لقوكم قالوا آمنّا وَإذَا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم)، هكذا قال الله (قل موتوا بغيظكم)، والسيد حسين قال “ونحن نقول الموت لأمريكا استجابةً لله رب العالمين”؛ لأَنَّ الله يعلم نقاط الضعف لدى أهل الكتاب (ولتجدنّهم أحرص الناس على حياة)، ويقول في آية أُخرى (فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين).
إن اللهَ -سُبْحَــانَهُ وَتَعَالَى- لما قال: (قل موتوا)، فهو يأمر النبي -صلوات الله عليه وعلى آله -أن يقول لهم هكذا؛ لأَنَّ الله يعلم نقاط الضعف لديهم، ويعلم ما الذي يؤثر فيهم، ولذلك الشهيد القائد قام فقال: “الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”، وكان هذا الشعار بمثابة تحصين، والمفترض أن يُردّدَ في المدارس والمساجد والجامعات، والتجمعات، والمظاهرات الجماهيرية، يُصبح ثقافةً مثل الحليب نُشرّب أطفالنا، نربي أبناءَنا نُربي الأجيال بكلها، نُعرّف الناس من هو العدوّ الحقيقي للأُمَّــة، نُذكّر الناس بقول الله رب العالمين (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم) وبقوله تعالى (ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل علكم من خير من ربكم)، وضروري أن نذكّر الناس بهذا الموضوع، برفع شعارات تؤكّـد هذه الحقيقة.
لقد قام الشهيد القائد بدوره على أكمل وجه وانطلقت الصرخات مدوّية في “مرّان” وفي عدّة مناطق في صعدة، ولكن -للأسف- فإنَّ القوى التقليدية بقيادة علي عبدالله صالح شنّت ستة حروب، وشنّت الحرب الأولى على السيد حسين وأتباعه، وحركت عشرات آلاف المقاتلين من الجيش ومن “البشمركة” الذين كان يسميهم المجاهدون (البشمرقة) المتفيّدين والمتقطعين، وبأوامر السفير الأمريكي الذي تحَرّك وكان يُدير الحرب من داخل قصر الرئاسة وكان يوجّه علي عبدالله صالح بكل صغيرة وكبيرة، وقبلها كان يقوم بسحب السلاح من الأسواق في صعدة وعمران وصنعاء للترتيب لهذه المعركة.
وحاصروا الشهيد القائد من كُـلّ مكان وكانت ردّة فعل “وقحة” للسلطة الظالمة عندما تَغْير؛ مِن أجلِ رفع الشعارات، وكانت غيرَ مبرّرة من السلطة وحاصرت مرّان حصاراً خانقاً، ومنعت إيصال الغذاء والدواء، وفرضت حصاراً كاملاً، وقبلها أرسلوا تهديداً للسيد القائد، فأرسل علي عبدالله صالح رُسلاءَ للسيد حسين وقال له “بطّل يا حوثي علينا ضغوطات أمريكية”، وكان جوابُ سليل النبوّة الشهيد القائد السيد حسين بدرالدين الحوثي جواباً قوياً، قال “واحنا علينا ضغوطات من ربّ العالمين”.
لقد قال الرجلُ المؤمن: “واحنا علينا ضغوطات إلهية”، (إذا أنت عليك ضغوطات من الأمريكي، احنا علينا ضغوطات من الباري)، هكذا ردّ السيد حسين، لاحظوا الذي ينضغط من أمريكا والذي ينضغط من ربّ العالمين كم الفارق بين هؤلاء.
اشتد الحصارُ أكثرَ وأكثرَ على الشهيد القائد، واشتد الخناقُ أكثر وأكثر عليه، حتى قيلَ بأن أحد مرافقيه قال “يا سيدي حسين الدنيا محوّطة من كُـلّ مكان”، فردّ عليه السيد القائد وقال “والله من ورائهم محيط، قاتِلوهم لو نسقط شهداء يكفي أن نُهيئ للجيل القادم”، لاحظوا الإيمان العميق الذي كان لدى هذا الرجل العظيم.
واستمر الحصارُ أكثرَ وأكثرَ، ووصل الحالُّ بالمجرمين أذناب أمريكا وإسرائيل، إلى أن يصلوا إلى جرف سلمان، وبدأوا يقصفون هذا الجرف الذي كان مليئاً بالأطفال والنساء والجرحى بالقنابل الحارقة وغيّروا خزّان الماء إلى خزّان بنزين.. قطعوا الماء، وجُرح الشهيد القائد، وسقطت الصخرات عليه، وتكسّرت أجزاءٌ من عظامه وتأثر ظهره وتأثرت عيناه وَيستطيع النظر بالشكل المطلوب حينها وأُغمي عليه، وسالت دماءه وأُثخن بالجراحات ولم يعد قادراً على المشي إلّا بإسناد ابنه وأحد المرافقين له.
إن الشهيدَ القائد كان يدرك جيِّدًا كيف هؤلاء الناس السيئين، وفي الأخير جاءت وساطةٌ وقالوا: “يخرج في وجه علي محسن”، (وأدى وجه علي محسن لكنه وجه خسيس وجه حقير وجه أسود وسيء)، والسيد القائد هو يريد أن يبلغَ الحُجَّة والعذر أمام الناس؛ لأجل أن ينفضحوا أكثر أمام الناس ويعرف الناس حقيقتَهم.
وحُمِلَ هذا الرجلُ العظيم على يد ابنه وأحد المرافقين له، وأخذوه إلى جوار هؤلاء الطواغيت وكانت آخر كلمة قالها “اللهم ثبّتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة”، وبعدها أطلقوا عليه الرصاصَ من كُـلّ مكان.
ولنا هنا أن نتساءل: لماذا أطلقوا الرصاصَ على هذا الرجل العظيم الذي جاء وكلّه أنّاتٌ وآهات؟! وكل صوته كان ألما على هذه الأُمَّــة الإسلامية، وكان خروجُه بشعور بمسؤولية وإيمان صادق وألم على واقع الأُمَّــة العربية والإسلامية.
كان يتألمُ على النساء التي تبكي وتُستبَاحُ في العراق والبوسنة وفي فلسطين وفي أفغانستان وفي كُـلّ مكان، كان يتألم على واقع الأُمَّــة، لماذا تستبيحون دمَ هذا الرجل العظيم يا أذنابَ أمريكا وإسرائيل؟ ما الجرمُ الذي اقترفه، سوى أنه انطلق من ثقافة القرآن ومن هذا المشروع القرآني العظيم.
لقد كانت هذه الشهادة العظيمة لهذا الرَجُل وأخذ علي عبدالله صالح وعلي محسن جُثمانَ هذا الرَّجُل العظيم ودفنوه تسعَ سنوات في السجن المركزي، تسع سنوات وأقاربه وأهله لا يعرفون أين هو.
بعدَ ما عاد جُثمانُ هذا الرَجُل العظيم إلى أخيه السيد عبدالملك وجد في ملابسه ما يقاربُ من ثمانين ثُقباً، من طلقات الرصاص التي أطلقوها عليه، لاحظوا الخبثَ والحقدَ والنجاسة التي وصلوا إليها، كُـلّ هذا؛ لأَنَّه غار على أمته وغار على شرف هذه الأُمَّــة وهذا الشعب وهذا الدين، فسلامُ الله عليه يومَ وُلد ويومَ استُشهد ويوم يُبعث حيّاً، سلامُ الله على هذا الرَّجُل العظيم هذا القائد العظيم، الشهيد العظيم، الذي بفضل الله رب العالمين، مَنّ اللهُ به على هذا الشعب اليمني العظيم.
نسألُ اللهَ -سُبْحَــانَهُ وَتَعَالَى- أن يجعلنا شُهداءَ في دربه ودرب جدّه رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله.
وصلّى اللهُ وسلّم على محمدٍ وعلى آله الطاهرين.