كيف صور القرآن معركة بدر كيوم فارق ومفصلي في تاريخ الإسلام؟
عندما نستعرض حياة رسول الله صلوات الله عليه وآله نجد ها حياة جهادية ملؤها الصبر والمعاناة واجه فيه المخاطر وعانى المشاكل والدعايات بكافة أنواعها فقد تكالب ضده الأعداء من كل جانب منذ أن كان لايزال طفلا صغيرا لكنهم زادوا وتيرة عداوتهم بعد أن جهر بالدعوة وصار له أتباع ولكن رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله كان كلما وصل الضغط النفسي والعملي أوجه ازداد صبرا وتحمل لأنه يعلم عظمة وأهمية المشروع الذي يقدمه فيقتدي به أصحابه وتمر الأيام والسنوات ورسول الله يتنقل من دار إلى دار ومن عشيرة إلى عشيرة عله يفوز بذي عقل راجح يوحد الله فينقذ نفسه من عذابه وقريش تلاحقه أينما ذهب فتسمعه من سيء القول وفحش السباب ما هو كفيل بأن تنهار معه أي نفس لا تحتسب لله ما تفعله، ولكنه الشفيق عليهم {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً }[الكهف آية6 ].
ويزداد تعنت قريش وتفرض حصارها المطبق على بني هاشم عل ذلك يفت من عضد رسول الله ولكنه وأسرته يواجهون ذلك الحصار بصبر أشد منه حتى فك الله حصارهم وبعده يحل عليه عام الحزن ويجتازه رسول الله بصبره واعتماده على الله وتشتد المعاناة أكثر وتزداد المضايقات ثم يأتي يسر بعد العسر ويسلم نفر من يثرب ويعقد معهم بيعة العقبة الأولى ثم بيعة العقبة الثانية بعد عام وقد تضاعف عددهم ويدعون رسول الله للهجرة وتعلم قريشا بالأمر فيشتد حنقها وغيضها{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال آية 30] ويجمع الكل على اغتياله بضربة واحدة بأربعين سيفا تفرق دمه بينهم فيعجز بنو هاشم عن الثأر له.
ويأذن الله لرسوله بالهجرة {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ}[الأنعام من آية 58] وفي يثرب يستقبل المؤمنون نبيهم فرحين كل الفرح بقدومه ويبدأ أول أعماله بإرساء أول قاعدة للدولة الإسلامية مسجد قباء ثم يشرع ببناء نفوس المؤمنين الذين يعيشون في بحبوحة من الاستضعاف النفسي والمعنوي فيفتح معسكر للتدريب ويرسل السرايا ويبعث الرسائل لمن حوله من الأعراب يدعوهم لدين الله ويبث في مجتمعه الصغير روح الحياة وينعشه بهدى الله ويعلمه أن الإيمان عملي وأن العمل الصالح إيمان بحد ذاته يفعل كل ذلك وغيره وقريش تراقبه أولا بأول فيغيظها ما يصلها من أخبار محمد وصحبه وعندها تقرر الاعداد لحربه والقضاء عليه على أن تكون أولى خطواتها في هذا المشروع قافلة كبيرة تخصص أرباحها لتمويل الجيش الجرار الذي سيقضي على يثرب ومن حل في يثرب.
ويعلم رسول الله بما خططت له قريش فيقرر مباغتتها باعتراض تلك القافلة التي ترأسها كبير دهاة قريش أبو سفيان بن حرب وعندها يجمع رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله أصحابه ويتقدم لاعتراض القافلة أثناء عودتها ولكن عيون قريش تنقل الخبر إلي ذلك الثعلب الماكر فيغير طريق القافلة ويبعث رسلا تستثير قريش لحرب محمد وعندها هاج طغيان قريش وفار استكبارها فحشدت ألف فارس من أشدها حقدا على محمد وأصحابه مزود بأجود ما تملكه من سلاح وعتاد وخرج الجيش يتقدمه سادة قريش وفرسانها وحين بلغهم نجاة القافلة أشار عليهم أحد سادتهم بالرجوع لكن أبا جهل أبى إلا أن ينهي أمر محمد وأصحابه فقريش متى عزمت على أمر لا يمكن أن ترجع عنه.
المكان: وادي بدر
قال تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}
طرفي المواجهة: المسلمون بقيادة الرسول الأكرم محمد بن عبدالله قريش بقيادة أبو جهل لعنه الله
التمهيد الإلهي لمعركة بدر
حديث القرآن الكريم عن معركة بدر يبدأ بإبراز المشهد الذي سبق معركة بدر، حيث كان المسلمون في مواجهة مصيرية مع قوى الكفر، لكن الله كان يُهيّئهم نفسيًا وروحيًا لهذه المعركة الحاسمة.
يعدهم الله بأن إحدى الطائفتين ستكون لهم، فيميلون بطبيعتهم البشرية إلى الطائفة الأقل خطرًا، وهي قافلة قريش التجارية، لكن الله يريد لهم المواجهة الحقيقية مع جيش الكفر ليحق الحق ويبطل الباطل، فيكون نصرهم انتصارًا استراتيجيًا يقطع دابر الكافرين. وهنا يظهر الفرق بين إرادة البشر التي تميل إلى السهولة، وإرادة الله التي تختار ما فيه العزة والتمكين.
ثم تأتي الآيات لتصف كيف أدار الله المعركة حتى قبل أن تبدأ، حيث جعل النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) يرى في منامه عدوّه قليل العدد، ولو رآهم كثيرين لضعفت قلوب المؤمنين ووقع التردد بينهم. كذلك، عند اللقاء، جعل الله المشركين يظهرون في أعين المسلمين أقل عددًا، وفي أعين المشركين يظهر المسلمون قلةً لا تستحق القلق، حتى لا يستعدوا بكامل قوتهم، وليتم أمر الله بالنصر الحاسم.
يقول الله سبحانه و تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ(*) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}
وقال سبحانه: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(*) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ}
إن هذه الآيات تذكير بأن الله هو المدبّر الحقيقي للمعارك، يهيئ النفوس، ويزيل الخوف، ويمهد الطريق للنصر، مهما كانت التحديات والظروف.
المعية الإلهية
يصور القرآن الكريم حالة المسلمين وهم في وادي بدر قبيل المعركة الفاصلة، قلة في العدد والعدة، قلوبهم بين الخوف والرجاء، وأبصارهم تترقب زحف العدو المدجج بالسلاح والغرور. لكنهم كانوا يحملون سلاحًا لا يدركه خصومهم، سلاح الإيمان والاستغاثة بالله، فتضرعوا إلى ربهم بقلوب خاشعة، فجاءهم الرد الإلهي بالمدد، وأمدهم بملائكة مردفين، وبث في نفوسهم السكينة، وألقى في قلوب أعدائهم الرعب.
قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ(*) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(*) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ(*) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ(*) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(*) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}
وقال جل شأنه: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(*) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} إنها لحظة فارقة، حيث يتدخل الغيب ليقلب موازين القوى، ويعلم المؤمنون أن النصر ليس بكثرة السيوف، بل بيد الله، الذي يثبت الأقدام، ويوهن كيد الكافرين، ليكون النصر شاهدًا على أن القوة الحقيقية ليست إلا لمن نصره الله.
توجيهات قرآنية في معركة بدر: الثبات، الوحدة، والاستعداد
وفي معركة بدر التي سماها الله بيوم الفرقان، و التي شكلت نقطة تحول في مسيرة الإسلام، تتجلى التوجيهات الإلهية التي أرست مبادئ المواجهة في ميادين الجهاد. في هذه الآيات المباركة، يضع الله سبحانه وتعالى للمؤمنين قواعد حاسمة في الحرب، قواعد لا تتعلق بالسيف والرمح فحسب، بل تمتد إلى أعماق العقيدة وأسس النصر الحقيقي.
يأمر الله المؤمنين بالثبات في وجه العدو، وعدم التراجع إلا لمناورة قتالية أو التحاق بفئة، لأن الفرار من المعركة خيانة تستوجب غضب الله. كما يحذرهم من التنازع، فهو سبب الفشل وذهاب القوة، ويؤكد على ضرورة ذكر الله كثيرًا، لأن في ذلك فلاحًا ونصرًا.
ثم تأتي التوجيهات الاستراتيجية التي تتجاوز ميدان بدر إلى كل مواجهة يخوضها المسلمون: الإعداد المستمر بالقوة والعدة، وبث الرهبة في قلوب الأعداء، وعدم الاغترار بتحركاتهم، لأن الله محيط بمكائدهم. ومع ذلك، يبقى باب السلم مفتوحًا إن كان عن رغبة حقيقية، لا عن خداع ومكر.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ(*) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
وقال سبحانه: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ(*) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(*) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}
وقال تبارك اسمه: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(*) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ(*) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ(*) وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ(*) وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(*) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} إنها ليست مجرد توجيهات آنية لمعركة مضت، بل هي دستور لكل صراع بين الحق والباطل، تضع للمؤمنين منهجًا متكاملًا في الثبات، الوحدة، الإعداد، والتعامل مع السلم والحرب وفق بصيرة إيمانية ورؤية استراتيجية حكيمة.
النقلة التي أحدثتها هذه المعركة
قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
مكر الباطل ونصر الحق في معركة بدر
تمثل معركة بدر نموذجًا واضحًا للصراع بين قوى الإيمان وقوى الكفر، حيث لم يكن القتال مجرد مواجهة عسكرية، بل كان معركة بين منهجين متضادين: منهج الحق الذي يستند إلى الإيمان بالله والتوكل عليه، ومنهج الباطل الذي يعتمد على القوة العددية والتدابير الماكرة.
في هذه الآيات الكريمة، يكشف الله عن سنة كونية ثابتة: مهما بلغ مكر الكافرين ومخططاتهم للقضاء على الحق، فإن تدبير الله هو الأعلى، ومكره هو الأنجع، لأنه مبني على العدل والإرادة الإلهية التي تنصر عباده المؤمنين.
تبدأ الآيات بتوجيه الخطاب إلى المشركين الذين طلبوا النصر لأنفسهم قبل المعركة، فجاءهم الفتح ولكن لصالح المؤمنين، مما يبين أن القوة الحقيقية ليست في العدد والعدة، بل في وقوف الله مع أهل الإيمان. وتحذر الآيات الكفار من العودة إلى العداء، لأن النتيجة ستكون هي نفسها: الهزيمة والخذلان، وأن تجمعهم الكبير لن يغني عنهم شيئًا أمام الإرادة الإلهية.
ثم تعود الآيات لتسرد جانبًا آخر من مكر قريش، حيث تآمروا لاعتقال النبي صلوات الله عليه وعلى آله أو قتله أو نفيه، لكن الله أحبط خططهم وجعل تدبيرهم وبالًا عليهم، لأنهم رغم وضوح الحق أمامهم، لم يتقبلوه بل قابلوه بالاستهزاء والتكذيب، وبلغ بهم العناد أن طلبوا العذاب بدلًا من الهداية، فجاءت بدر لتكون إجابة عملية على تجرؤهم، وليتأكد للجميع أن الله خير الماكرين، وأن الحق هو الذي ينتصر في نهاية المطاف.
قال تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}
قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(*) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ(*) وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
هذه الآيات ليست مجرد سرد لتاريخ مضى، بل هي قانون ثابت في معارك الحق والباطل عبر الزمن، تؤكد أن النصر لا يكون بالعدة وحدها، وإنما بالإيمان والاتكال على الله، وأن مكر الأعداء مهما بلغ، فهو إلى زوال أمام تدبير الله ونصره لعباده المؤمنين.
من سنن الصراع
كما سلط القرآن الكريم الضوء على جانبٍ من الصراع الأزلي بين الحق والباطل، حيث يكشف الله عن طبيعة أعداء الدين في تسخير إمكانياتهم المادية لإطفاء نور الحق وإعاقة انتشاره. فالذين كفروا لا يدخرون جهدًا في إنفاق أموالهم، سواءً في تمويل الحروب ضد المؤمنين، أو دعم الإعلام المضلل، أو نشر الفساد والرذيلة، بهدف صد الناس عن سبيل الله.
لكن سنّة الله ماضية: هذه الأموال التي يبذلونها ستتحول إلى حسرة عليهم، لأنهم رغم إنفاقهم الضخم، سيفشلون في تحقيق غاياتهم، وسيُهزمون في نهاية المطاف. وهذا ما شهدته معركة بدر، حيث أنفقت قريش أموالها لحشد الجيوش وإعداد العتاد، لكنها مُنيت بهزيمة ساحقة، لتكون مثالًا حيًا على مصير من يحاربون الله ورسوله.
ولا تقف العاقبة عند حدود الخسارة في الدنيا، بل تتجاوزها إلى المصير الأبدي، حيث يُحشر الكافرون إلى جهنم، في عملية فرز إلهية تفصل بين الخبيث والطيب، ليكون مصير قوى الشر متراكمًا في النار، جزاءً لما أنفقوه في معاداة دين الله.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(*) لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} هذه الآيات تقدم قاعدة قرآنية ثابتة: مهما أنفق الباطل، ومهما استبد بالأرض بجبروته، فإن نهايته الحتمية هي الخسارة والهزيمة، لأن إرادة الله هي التي تحكم، ولأن المال لا يستطيع شراء النصر حين يكون الصراع بين الإيمان والكفر.
الدروس والعبر المستفادة من تلك المعركة
- معركة بدر تدل على ضعف الباطل وهزالته أمام الحق مهما تظاهر ذلك الباطل بالعظمة.
- تدل على مصداقية الوعد الإلهي لعباده بالنصر والغلبة مهما كانت الظروف والامكانات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد آية 7]
- تدل على عظمة المعية الإلهية وأن الله لن يتخلى عن عباده المؤمنين في وقت الشدة {إِذ تَستَغيثونَ رَبَّكُم فَاستَجابَ لَكُم أَنّي مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُردِفينَ * وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلّا بُشرىٰ وَلِتَطمَئِنَّ بِهِ قُلوبُكُم ۚ وَمَا النَّصرُ إِلّا مِن عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ} [الأنفال: 9-10]
- تدل على جدوائية التحرك بالإمكانات المتاحة وفاعليتها.
- تبرهن على أنه في مقدور الأمة أن تنتصر على الاستكبار العالمي إذا ما أنضوت تحت القيادة الحكيمة وسارت على المنهج الصحيح.
- تدل على أن التحرك مطلوب من الجميع فلم يعفى حتى رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله وهو على ما هو عليه من كمال الإيمان.
- قدمت لنا درسا مهما حول الغاية التي رسمها الله من وراء الجهاد وهي إحقاق الحق وقطع دابر الباطل {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}[الأنفال آية7]
- عرفتنا أن الحق لا يأتي بالأماني بل لابد من عمل وتحمل مسؤولية وتضحيات{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}[الأنفال آية 5]
- علمتنا أن محاولة ثني القيادة عن قراراتها المصيرية نابع من رؤية قاصرة وفهم محدود {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال آية 6]
- استفدنا منها أنه لن يسلم أحد من بطش الظالمين مهما كانت صفته ومكانته ونسبه {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال آية 30]
- عرفنا من خلالها وجوب التأسي برسول الله صلوات الله عليه وعلى آله في كل الأحوال {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ}[التوبة من آية120]
- كشفت لنا أن المنافقين هم أكثر الناس تثبيتا وتخذيلا وتشكيكا لأولياء الله {إِذ يَقولُ المُنافِقونَ وَالَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ غَرَّ هٰؤُلاءِ دينُهُم ۗ وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ}[الأنفال:49]
- علمتنا أن لا نفقد الأمل بالله سبحانه وتعالى وبنصره حتى لو حصل ما حصل وأن لا نغتر بأي نتائج نحققها فكل ما يتحقق لصالح المؤمنين فهو منَّة من الله عليهم {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال آية 17]