كيف ربحت غزة حرب الصورة؟ بقلم / صلاح الرمام
هي الحرب، وليس هُناك من يُنكر دور الذراع الإعلامية وفن “دعاية الحرب” فيها، هذا الفن الذي استقرّت قواعده في الغرب خاصة بريطانيا وأميركا منذ الحربين العالميتين وما زالت تتطوّر وتتجدّد، خاصة بعد أن جاءت الصورة لتُشكّل خطاباً أشد قوة من الكلمة كما يُقال(الصورة تُعادل الف رصاصة)،وإذا كان هذا الغرب قد أرسل إلى الصهاينة والأنظمة العميلة والجماعات المُسلّحة خُبراء عسكريين لإدارة معاركهم فلا بُدّ من أنه أرسل – أو وظّف- خُبراء إعلام لإدارة إعلامهم. لقد
شكّل التصوير جٌزءاً مُهماً من عملية “طوفان الأقصى”. فكيف كسبت غزة معركة الصورة ضد “الكيان الصهيوني الغاصب”؟.
لقد شكَّلت عملية “طوفان الأقصى” التي قام بها المُجاهدون الفلسطينيون اختراقاً غير مسبوق، وصدمة لآلة الحرب الصهيونية، بكامل عتادها ومنظومة قُبّتها الحديدية واستخباراتها وكبار ضُبّاطها وسياسييها، فإن إعلام حركات المُقاومة استطاع اختراق الصورة النمطية في وعينا عن فلسطيني أعزل في مواجهة دبابات العدو وجنوده، لا يملك في يده سوى علم فلسطين وفي الأخرى مقلاع.
إذ إن ذاك الإعلام أستوعب ما نظَّر له رولان بارت عن “الصورة المؤثِّرة”، جاعلاً من صوره وفيديوهاته لا تُدخِل الإسرائيليين في مشهد الرعب فحسب بل في الرعب نفسه.
أختار المُجاهدون الفلسطينيون بداية عملية ” طوفان الأقصى “في يوم السبت برمزيته لدى الصهاينة وسُبات الناس في عُطلتهم الأسبوعية، في يوم الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023م، ليري العالم كيف يكون نصره.
في البداية بدأ الإعلام المُقاوم طوفانه في توثيق وابل من الصواريخ قاربت الـ 5 آلاف صاروخ سقطت على رؤوس الصهاينة، ثم ليرصُد معالم الخوف على وجوه جنودهم، بعدما تمكَّن المُجاهدون الفلسطينيون من انتزاعهم من دباباتهم وأبراج الرقابة وسحبهم كالخرق البالية أمام مرأى العالم، في صورة إيحائية وبعيدة عن التقريرية التي تحدث عنها بارت.
ولإضافة نكهة من السُخرية على قُدرات الصهاينة الواهية، قام الإعلام المُقاوم بتصوير أسر بعض جنرالات العدو وجنود نُخبته في مخابئهم وثكناتهم، والتي لم يستخدموا في اختراقها مُدَرَّعات وآلات حربية هائلة، والآلاف من الجنود وإنما بعض الطائرات الشراعية، وزوارق بسيطة، وقليلاً من الدراجات النارية، والأهم، قلوب مؤمنة بالحق وبأن الظُلم لن يدوم ما دام هُناك من يُطالب بالحقوق المسلوبة.
طالما سيطر الإعلام الغربي لفترات طويلة على الصورة خلال الحروب التي خاضها نظراً لما تمتلكه هذه الدول وفي مُقدمتها أمريكا من إمكانيات ضخمة وعشرات المؤسسات الإعلامية التي أوكل إليها مُهمة صناعة إعلام يخدم المؤسسة العسكرية لهذه الدولة أو تلك،يُدار من غُرفة عمليات واحدة مع الجانب العسكري فيقوم فقط بنشر الأخبار والتقارير والصورة التي تخدم سير العمليات العسكرية في الميدان ويقوم بتزييف وفبركة أخبار وهمية وكاذبة تتنافى تماماً مع الواقع على الأرض خصوصاً إذا كان ما يحدُث في أرض المعركة ليس في صالح تلك الدول الاستعمارية واستطاعت إلى حد كبير جداً من خلال الحرب الإعلامية إلى قلب الصورة لصالحها وصناعة انتصارات وهمية لا أساس لها إطلاقاً في الواقع إضافة إلى تفنيد الصورة الحقيقية التي ينشُرها الطرف الآخر إلا أننا وفي بادرة قد تكون نادرة وغير مسبوقة في عالمناً الإسلامي ومع الانتصار الكبير الذي حققه المُجاهدون في غزة عسكرياً والذي ألحق هزيمة نكراء وغير مسبوقة للكيان الصهيوني فقد استطاع الإعلام المُقاوم في غزة من توجيه ضربة قاضية لا يقل تأثيرها على الكيان الصهيوني وداعميه من الضربة العسكرية من خلال قدرة المُقاومة في غزة من إدارة المعركة بشقيها العسكري والإعلامي فقد استطاعت أن توجد أزمة ثقة كبيرة جداً بين الحكومة الصهيونية وبين الجيش من ناحية وبين الجيش وبين المُجتمع الصهيوني من ناحية آخري.
في هذه المرة قلب الإعلام المُقاوم المُعادلة رأساً على عقب، مُسلطاً الضوء على جبروت المظلُوم في مُجابهة أساطين الظُلم، وجعل من صورة الفلسطيني آمِرَة وذات أبعاد عجائبية، فهو وحده القادر على اختراق أعتى التحصينات الصهيونية في وضح النهار، وتقويض الهالة المُحيطة بقوة “الجيش” الصهيوني وذكاء إستخباراته وأجهزة استشعاره وتسليح جنوده العالي والفريد من نوعه ليس على مُستوى المنطقة وحسب بل على مُستوى العالم إذ استطاع الإعلام المُقاوم في غزة من تحطيم الوهم والتَّحرُّر من جبروته، مُقدِّماً مشهديات بليغة بثَّت الرُّعب عند الصهاينة وأجبرتهم على الرضوخ لشروطه في الحرب، فجزاء التَّسلُّط والعنجهية المديدة للاحتلال هو ردود قاصمة توقف مطاراته،وتُخلخل حياة المستوطنين الصهاينة وتدفعهم إلى الملاجئ، وتُغرز فيهم الخوف تلو الخوف مع كل صفارة إنذار تُطلَق هُنا أو هُناك داخل المناطق الفلسطينية المحتلة وإلى جانب الحرب بعديدها وعتادها، هُناك حرب الصور التي تُشكِّل إحدى التمثُّلات المُهمة للمعركة في عالم اليوم، بشبكات تواصله الاجتماعية، وفضائياته، وأقماره الصناعية،… وبما أن العدو لا يتخلى عن بربريته فإن أقصى ما باستطاعة كان الرد على المدنيين في غزة وتدمير مُجمعاتهم السكنية، وتزييف الحقائق لإظهار نفسه، كما دائماً، كضحية، وإلباس الصهاينة ثوب الحملان.
لكن مشاهد الدمار الهائل لبيوت الفلسطينيين الغزاويين، وإحالة أماكن عيشهم إلى خرابات شاسعة، ما هي إلا تأكيد على الجُبن والخوف حتى من أطفال فلسطين ونسائها وشيبها، ولعل أبلغ رد هو استمرار المُقاومة بطوفانها، ومواصلة إعلامها التوثيق للدمار وجثامين الشُهداء الفلسطينيين وجرحى البربرية الصهيونية، وبالتوازي مع تصوير نجاة بعض الأطفال الغزاويين وإصرارهم على الحياة، فهم من سيكمل المسيرة حتى التحرير والانتصار الذي يراه الصهاينة بعيداً ونراه قريباً وكما خسر الكيان الصهيوني الغاصب حرب الميدان فهو بلا شك قد خسر حرب الصورة والمُقاومة هي من تتحكم في المعركة عسكرياً وإعلامياً.