كان مشهد فرار الجنود الأمريكيين من كابول الأسبوع الماضي، تمامًا كما حدث في سايغون (عاصمة فيتنام) في عام 1975، مؤشرًا واضحًا على هزيمة واشنطن في أطول حرب في تاريخ البلاد. إن هذه الهزيمة بدت بوادرها منذ زمن بعيد، ولكن بخداع الحكومات المتعاقبة لإخفاء حقائق الحرب عن الرأي العام الأمريكي والعالمي، خلفت هذه الحرب غير المثمرة آلاف القتلى وأنفقت واشنطن مئات المليارات من الدولارات على جنودها ومرتزقتها في أفغانستان. ولكن الان فر الجنود الأمريكيين وانتهى الأمر بأبشع طريقة ممكنة للبيت الأبيض حيث سار مقاتلو طالبان منتصرين بالدبابات والطائرات المنهوبة التي دفع ثمنها “العم سام” إلى قلب العاصمة كابول. وتظهر مقاطع الفيديو التي تم التقاطها من مطار كابول أن 6000 جندي أمريكي كانوا متمركزين هناك، لم يتمكنوا حتى من تأمين الأفراد والمواطنين الأمريكيين الذين كانوا يريدون مغادرة المدرج. ولقد نقلت طائرة عسكرية 640 مواطنا أمريكيا على متنها، بينما يقال إن أكثر من 10 آلاف أمريكي ما زالوا ينتظرون دورهم. ولهذا فقد أصبحت السلطات الأمريكية مرتبكة لدرجة أنها لا تستطيع حتى تقديم العدد الدقيق لمواطنيها في أفغانستان إلى وسائل الإعلام.
وفي السنوات العشرين الماضية منذ 11 سبتمبر 2001، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 2 تريليون دولار لخوض الحرب في أفغانستان، يعني تقريبا 300 مليون دولار في اليوم. بشكل عام، لقد أنفق “العم سام” أكثر من صافي ثروة “جيف بيزوس، وايلان موسك، وبيل جيتس”، و 30 مليارديرًا أمريكيًا على الشعار العبثي لهزيمة طالبان. وتشمل العناوين 800 مليار دولار تكاليف حرب مباشرة و 85 مليار دولار لتدريب الجيش الأفغاني المهزوم، والذي انهار في الأسابيع التالية للإغلاق المفاجئ لقاعدة “باجرام” الجوية في أوائل يوليو الماضي. ووفقًا لمجلة “فوربس”، شنت الولايات المتحدة حربًا في أفغانستان بأموال مقترضة. ويقدر الباحثون في جامعة “براون” أنه تم دفع أكثر من 500 مليار دولار من أقساط القروض (بما في ذلك ما مجموعه 2.26 تريليون دولار)، ويقدرون أنه بحلول عام 2050 يمكن أن تصل تكلفة ديون الحرب في أفغانستان إلى 6.5 تريليون دولار.
كما أن تكلفة المعيشة للجنود الأمريكيين جعلت الهزيمة أكثر أهمية. حيث قُتل 2500 جندي أمريكي في أفغانستان، وكان من بين القتلى ما يقرب من 4000 متعاقد مدني أمريكي آخر. إن المجتمع الأمريكي يسأل الآن من أجل ماذا وصل عدد القتلى ألفان ونصف ألف أمريكي، وجرح عشرين ألفاً، وإنفاق تريليوني دولار أو أكثر؟. يبدو الآن أن طالبان قد عادت إلى السلطة. لذلك، يجب تسجيل ذلك على أنه فشل كبير في التاريخ الأمريكي. ولطالما اتهمت الإدارة الأمريكية الجيش الأفغاني بتبرير هزيمته وانسحابه من أفغانستان بذريعة الجيش الأفغاني. حيث قال “باراك أوباما ودونالد ترامب” والرئيس الحالي “جو بايدن”: “حلفاؤنا لا يقاتلون. في الواقع، قُتل عشرات الآلاف من الأفغان في الحرب، بما في ذلك 69000 من الشرطة العسكرية الأفغانية و 47000 مدني. وهنا تجدر الاشارة إلى أن التصريحات القائلة: “إن معركتنا انتهت بعد اغتيال أسامة بن لادن و لم نذهب إلى أفغانستان لإرساء الديمقراطية”، هي مبررات أخرى لتخفيف عبء الهزيمة على المجتمع الأمريكي.
في بداية الحرب، كان الأمريكيون الفرحين بنهاية الحرب الباردة ودخول العصر الأحادي القطب، يرون في أنفسهم صليبيين دوليين مؤهلين أخلاقياً للترويج للديمقراطية مثل الحروب الصليبية، ولقد رددوا شعارات ديماغوجية خلال تلك الفترة مصحوبة بتهديدات بالعقاب. وبعد ذلك انتشر الإرهاب في جميع أنحاء العالم، وعقب قيام بعض الجماعات الارهابية بقتل مدنيين أمريكيين في الحادي عشر من سبتمبر، قامت الولايات المتحدة بغزو دولة مثل أفغانستان تحت شعارات سيف العدالة الناري والمثالية والأخلاق المزعومة. ولقد قال “دومينيك تيرني” في مقابلة له مع مجلة “تايم” في كتابته لكتاب “امريكا في أعقاب الصراع الذي لا يقهر”: إن “إحدى الكوارث الكبرى للحرب الأفغانية هي أن الولايات المتحدة كان بإمكانها أن تفعل أفضل بكثير في عام 2002 من خلال التفاوض على اتفاقية مع طالبان. وفي عام 2002، اتصلت طالبان بالولايات المتحدة وقالت بشكل أساسي، “انتظر ، لقد هُزمنا. وإذا عرضت علينا مكانًا في أفغانستان الجديدة، فنحن نريد أن نصبح حزبًا سياسيًا. ولم تفكر إدارة بوش في ذلك في هذا العرض، لأنه في ذلك الوقت كانت القاعدة وطالبان تقريبًا ضمن هذه المجموعة من الأشرار. ولذا لم نكن مستعدين للتفاوض بأي شكل من الأشكال”. لقد أعلنت الولايات المتحدة وحلفاؤها في هام 2001 أنها ستحرر كابول من طالبان في غضون شهرين فقط، لكن الأمر لم ينته على الإطلاق واستمرت الحرب نحو 20 عاماً.
لقد خدعت الحكومات الأمريكية المتعاقبة الشعب الأمريكي عن عمد، متخيلة أن كل شيء على جبهة الحرب في أفغانستان مدهش، بينما في الواقع لم يكن كذلك – كما كان الحال في مثل مستنقع فيتنام من قبل. عندما بدأت الولايات المتحدة تدخلها العسكري في أفغانستان عام 2001، لم يكن لديها حتى خطط لأفغانستان. حيث كتب “دونالد رامسفيلد” في مذكراته أن الولايات المتحدة كانت تستخدم الخطط القديمة للإمبراطورية البريطانية في أفغانستان. وهذا يتماشى مع نمط الحروب الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية. حيث تظهر الأبحاث بشكل مقنع أن الولايات المتحدة لم تفز بأي حروب منذ الحرب العالمية الثانية، فهل هذا واقع أمريكي جديد؟. لقد كانت الحرب الكورية طريقًا مسدودًا حقيقيًا للولايات المتحدة. ومنذ الحرب الكورية، اصبحت فيتنام – أسوأ هزيمة لأمريكا – واصبحت العراق احدى الهزائم الأمريكية الكبرى الأخرى. لكن أفغانستان الآن ستكون بلا شك أكبر هزيمة عسكرية أمريكية في تاريخها. هذا درس تعلمته معظم القوى الاستعمارية في القرن العشرين بصعوبة. لقد كانت أفغانستان “مقبرة الإمبراطوريات”، سواء كانت الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر أو الإمبراطورية السوفيتية في القرن العشرين.
وتواجه الولايات المتحدة حاليا هزيمة تاريخية على يد حركة طالبان. ولقد انتهت أطول حرب أمريكية، والتي بدأت عام 2001، بإذلال كامل للجيش الأمريكي. ويُنظر إلى الولايات المتحدة الآن على نطاق واسع على أنها قوة عظمى مهزومة. وهذا بدوره يقوض بشدة كفاءة القيادة السياسية والعسكرية الأمريكية في العمليات المستقبلية، والاستعداد للمشاركة بشكل أكبر في النزاعات الدولية، ومصداقيتها والتزامها كحليف دولي. إن ارتكاب الولايات المتحدة مثل هذا التقدير الخاطئ الكبير ومُنيها بهذه الهزيمة الكارثية في أفغانستان، سوف يستتب في فقدان مصداقيتها في العالم، فمن ذا الذي يمكن أن يثق بوعود واشنطن الداعمة في شرق آسيا أو بحر الصين الجنوبي أو الشرق الأوسط؟
وهنا نرى أن المنطقة الأولى، وربما الأكثر أهمية، التي تم فيها تقويض الثقة بالولايات المتحدة، والتي توليها واشنطن أهمية خاصة في عقيدتها الشرق أوسطية الجديدة، هي منطقة شرق آسيا. في الواقع، على مدى العقد الماضي، أصبح احتواء الصين في منطقة شرق آسيا من أولويات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، لكن دول المنطقة تشك الآن في مستقبل الثقة بواشنطن. وفي الوقت نفسه، فإن دولًا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان ومنطقة هونغ كونغ المتمتعة بالحكم الذاتي وحتى فيتنام، أصبحت أكثر قلقًا بشأن آفاق التعاون والثقة في دعم واشنطن لها في مواجهة التهديدات القائمة. لقد أدت مخاوف الجهات الفاعلة المختلفة الآن إلى حدوث تحركات خاصة من قبل السياسيين في البيت الأبيض. وعلى سبيل المثال، في مقابلة مع ABCNews في 19 أغسطس 2021، صرح الرئيس الأمريكي “جو بايدن” أن الوضع في تايوان مختلف عن الوضع في أفغانستان، كما لو أن واشنطن قد وقعت علانية اتفاقية تعاون عسكري مع تايوان. ولهذا نرى نائب الرئيس الأمريكي “كامالا هاريس” أعلنت بأنها سوف تسافر إلى آسيا الأسبوع المقبل وخلال هذه الرحلة، سيسافر نائب الرئيس الأمريكي إلى فيتنام وسنغافورة.