كلمة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي بعنوان “الإيمان يمان” في لقاء مع شخصيات علمائية واجتماعية ومسؤولين في الدولة بالجامع الكبير 2019
حياكم الله، أهلاً وسهلاً ومرحباً…
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّداً عبدُه ورَسُوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، وبارِك على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأخيارِ المنتجبين، وعن سائرِ عِبَادِك الصالحين.
أيُّها الحضور الكرام، الآباء العلماء الإخوة الحاضرون جميعاً:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في هذا الاجتماع المبارك بحضوره المبارك منكم أنتم أيها الأعزاء، وفي مقدِّمتكم العلماء الكرام، والشخصيات الاجتماعية، والبعض من المسؤولين في الدولة… من كل فئات مجتمعنا اليمني، في هذا الاجتماع المبارك في موضوعه المبارك المهم أيضاً: موضوع الهوية الإيمانية لشعبنا اليمني المسلم، في هذا المكان المبارك أيضاً، في الجامع الكبير، الذي هو من المعالم الإسلامية البارزة، والآثار المهمة المرتبطة بالإيمان وبالانتماء للإسلام العظيم، أحييكم جميعاً في الاجتماع، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا في هذا الاجتماع؛ حتى نخرج منه- إن شاء الله- بزيادةٍ في إيماننا ووعينا.
نحن في هذه الكلمة نذكِّر كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات: الآية55]، بحمد الله سبحانه وتعالى، بعظيم فضله، فإنَّ أعظم نعمةٍ أنعم الله بها علينا هي: نعمة الإيمان، نعمةٌ عظيمة فوق كل النعم، شعبنا اليمني المسلم العزيز نال وسام الشرف العظيم، عندما قال النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- فيما روي عنه: (الإيمان يمان، والحكمة يمانية)، هذا أعظم وسام شرف، وهذا النص المبارك هو يحدد لنا هوية شعبنا اليمني، التي يجب أن نحافظ عليها، وأن نرسِّخها، هذه الهوية المباركة: هوية الإيمان.
كل المجتمعات البشرية والأمم على هذه الأرض من بني آدم لها هوية، لها انتماء، لها موروث من الأفكار، والعقائد، والعادات، والتقاليد، والسلوكيات، لها نمط معين في حياتها، وطريقة معينة في حياتها، تختلف هذه باختلاف الأمم من أمةٍ إلى أمة، حتى في الوقت الراهن، مثلاً: ما عليه الحال في الصين، ما عليه الحال في اليابان، ما عليه الحال في الهند، ما عليه الحال في أوروبا بشكلٍ عام، أو في أوروبا الشرقية وروسيا، ما عليه الحال في أمريكا، ما عليه الحال في أمريكا اللاتينية… في مختلف أمم الأرض وبلدانها، هناك هوية لكل أمة من الأمم، وكما قلنا: موروث معين من العقائد، من الأفكار، من العادات، من التقاليد، من السلوكيات، من طريقة معينة تسير عليها في حياتها، فما هو موروثنا نحن كشعبٍ يمني؟ وما هي هويتنا؟ وما هو انتماؤنا الذي نبني عليه مسيرة حياتنا وطريقة حياتنا؟ هذا الموروث وهذه الهوية هو ما ورد في النص النبوي الشريف: (الإيمان يمان، والحكمة يمانية)، هذا ما يجب أن نعيه، أن نفهمه، أن نعي دلالاته الواسعة، وأن نرسِّخه في واقع حياتنا؛ حتى نبني مسيرة حياتنا على أساسه، مسيرة حياتنا في كل المجالات؛ لأن الهوية، والانتماء، والموروث الفكري والسلوكي والأخلاقي، هو يمتد في أثره وفي طابعه إلى واقع الحياة في كل مجالاتها، في كل أنحائها.
على مدى الأجيال الماضية كان شعبنا اليمني المسلم العزيز يمتاز بهذه الميزة: كان للإيمان أثره المباشر في الروحية، في الأخلاق، في المواقف، في العمل، في السلوكيات، في العادات، في التقاليد، حضر هذا الإيمان وتُرجِم في الواقع العملي لآبائنا وأجدادنا الكرام جيلاً بعد جيل إلى عهد رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وعلى نحوٍ مترسخٍ ومتميز، ولأنه متميز أتى هذا النص المعبِّر عن هذا التميز: (الإيمان يمان)، هذه العبارة عبارة عظيمة، عبارة كبيرة، عبارة مهمة، عبارة جليلة؛ لأنه لو قال مثلاً: [الشعب اليماني شعبٌ مؤمن]. لم تكن هذه العبارة لتصل في عمقها ودلالتها إلى مستوى عبارة: (الإيمان يمان)، وكأنَّ هذا الشعب منبعٌ يتدفق منه الإيمان، وكأنَّ هذا الشعب بيئةٌ ينبت فيها الإيمان، ينمو فيها الإيمان، وهذا شرفٌ كبير؛ لأن الإيمان- أيها الإخوة، أيها الآباء الكرام- هو الانتماء الراقي والعظيم للبشرية الذي يمثِّل صلةً بينها وبين الله سبحانه وتعالى، وهو أعظم شرف بين كل الانتماءات، بين كل الموروثات في المجتمع البشري من العادات، والتقاليد، والعقائد، والأخلاق، الانتماء: هو صلة بين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى، وهو شرفٌ عظيم، ويترتب عليه في الدنيا والآخرة النتائج العظيمة والمهمة.
إنَّ الله -جلَّ شأنه- في كتابه المبارك في سورة الصافات، وهو يتحدث عن بعض من أنبيائه العظماء والكرام، عن نبيه نوح -عليه السلام- ونبي الله نوح هو من عظماء الأنبياء، من سادة الأنبياء، من أولي العزم من الرسل، ويتحدث عن نبيه إبراهيم، ونبي الله إبراهيم هو الذي نال وساماً عظيماً بقول الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء: من الآية125]، بهذه المنزلة، هذه المرتبة العالية في علاقته بالله ومنزلته عند الله سبحانه وتعالى، {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، ثم عن نبيه إبراهيم، ونبيه وموسى… وعدد من أنبيائه، فتحدث في سورة الصافات عن هذه المجموعة من الأنبياء العظماء الكرام، وتحدث عن بعض ما كانوا عليه، عن معالم بارزة في حياتهم، في علاقتهم بالله سبحانه وتعالى، في روحيتهم، في أخلاقهم، وتحدث أيضاً عن رعاية الله العظيمة لهم، عن رحمة الله بهم، عن تأييد الله لهم، عن عون الله لهم، ثم كان يعمِّد هذا كله- فيما كانوا عليه، وفيما أولاهم الله به من نعمته ومن رحمته- بعبارة مهمة، تأمَّلوها معي جيداً، ركِّزوا على هذه العبارة، يقول عن نوح ماذا؟ {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}[الصافات: الآية81]، يقول عن إبراهيم، خليله إبراهيم، ونبيه إبراهيم -عليه السلام- ماذا؟ في نهاية المطاف يختم كل ما أولاه به من رعاية، من نعمة، من رحمة، من فضل، وما كان عليه هو من روحية، من عطاء، من تسليم لأمر الله لدرجة استعداده أن يذبح ابنه إسماعيل إذا أتى الامر الإلهي بذلك، يختم ذلك بختامٍ مهم: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}[الصافات: الآية111]، يقول كذلك في حديثه عن موسى وهارون، وتأييده لهما بالنصر في مواجهة طاغوت من أكبر وأسوأ طواغيت الأرض، هو فرعون، {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}[الصافات: الآية122]، هذا يبيِّن لنا شرف الإيمان، ومنزلته العالية، مهما بلغ الإنسان في مراتب العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، فلا يزال السمو والارتقاء في درجات الإيمان، وفي سلم الكمال الإيماني، لا يزال مفتوحاً نحو الأعلى، نحو الأعلى، يعني: قد هو نبي، نبي بكله، وهذا النبي على درجة عالية في علاقته بالله، في إيمانه، في تحركه وفق التعاليم الإلهية، في التزامه بها. مع ذلك يقول في نهاية المطاف مثنياً عليه: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}، هذا يدل على شرف الإيمان، شرف الإيمان وسلم كمال الإيمان الذي يمكن أن يرتقي فيه الإنسان درجات عالية.
عندما نعود إلى القرآن الكريم نجد أنَّ كثيراً من الوعود الإلهية العظيمة ارتبطت بالإيمان، الوعد الشامل الذي يجمع في ثناياه كل الخير وكل الفوز، عندما قال الله سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون: الآية1]، الفلاح، الفلاح: عنوانٌ واسع يجمع في ثناياه كل الخير الذي يمكن أن يسعى الإنسان للوصول إليه، كل الفوز، النجاح الحقيقي، الوصول إلى مبتغى الإنسان من الخيرات والسعادة يدخل في عنوان الفلاح، الله -جلَّ شأنه- يقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}.
الوعد بالنصر، الله -جلَّ شأنه- يقدِّم وعداً بالنصر، وعداً مؤكَّداً بصيغةٍ عجيبة، فيقول -جلَّ شأنه-: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: من الآية47]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، هذا وعد عجيب، بصيغة عجيبة، فيها تأكيد عجيب، يجعل الإنسان يثق ثقة مطلقة أنَّ الإيمان صلة عظيمة بالله يترتب عليها النصر.
أيضاً في آيةٍ أخرى يقول الله -جلَّ شأنه-: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}[الحج: من الآية38]، رعاية عجيبة يحظى بها عباد الله المؤمنون بإيمانهم، رعاية عجيبة، يتدخل الله سبحانه وتعالى للدفاع عنهم في مواجهة كل التحديات والأخطار والأعداء، ومن كان الله سيدافع عنه ألن يكون في أعظم حماية، وأعز موقع، وأمنع حصن؟ بلى، بلى، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.
الوعد بالعزة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: من الآية8]، {وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، عزةٌ من الله سبحانه وتعالى يهبها لعباده المؤمنين بما يمنحهم به من نصر، وتأييد، ويدفع عنهم، ويمكِّن لهم، ويؤيِّدهم، فيستنقدهم من حالة الإذلال، والقهر، والاضطهاد، والامتهان، فيكونون في موقع العزة والقوة والمنعة.
يأتي الوعد أيضاً في القرآن الكريم بالجنة، {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: الآية72]، تأمَّلوا في هذه الآية المباركة، وعد ممن لا يخلف الوعد، من الله سبحانه وتعالى، ووعدٌ بماذا؟ بهذا النعيم العظيم الأبدي، الذي لا مثيل له ولا نهاية له، أعظم نعيم، وأرقى سعادة، وأطيب حياة، ولا نهاية لها في نفس الوقت، {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، يأتي هذا الوعد مرتبطاً بماذا؟ بهذا العنوان المهم: عنوان الإيمان، الإيمان، {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، جنات يعيشون فيها في مستقبلهم الأبدي والدائم في الآخرة، هذه الدنيا حياة مؤقتة، حياة لها نهاية، الإنسان يولد فيها وله أجله المرسوم، أجله المحدد، إلى حين يصل إلى ذلك الأجل تنتهي هذه الحياة، لكنَّ ذلك المستقبل الأبدي والدائم والعظيم الذي لا نهاية له، فيه أرقى نعيم، {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، بكل ما أعدَّه الله في تلك الجنات من المأكولات، من المشروبات، من الفواكه، من المطاعم، من القصور، أتى قوله تعالى أيضاً بعد قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}، مساكن في الجنة، ليس هناك في الدنيا في كل مساكن الدنيا، عندما تأتي مثلاً لتتأمل في ناطحات السحاب، في قصور الملوك والأمراء والأثرياء الكبار في هذه الدنيا، كيفما كانت قصورهم، كيفما كانت ناطحات السحاب التي يمتلكونها، كيفما كانت الفيلات والمباني التي يقطنون فيها، لا شيء منها يساوي مسكناً من تلك المساكن التي أعدَّها الله في الجنة، هذا النعيم، هذا التكريم، والذي هو أبديٌ لا ينقطع، مليارات السنين لا تعتبر حساباً له؛ لأنه هناك لا زمن يحسب، الحياة أبدية، العنوان هو الخلود، {خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}، حيث البقاء الدائم في النعيم الدائم، البقاء الدائم الأبدي، ولكن في النعيم الدائم المتجدد المبارك الذي لا ينقطع، وإنما يزيدهم الله من فضله.
مع كل هذا النعيم المادي: الجنات، البساتين، الفواكه، المأكولات، المشروبات، الحور الحين، القصور…إلخ. مع كل هذا النعيم المادي، هناك أيضاً ما يجعل لهذا النعيم المادي اعتباراً مهماً، وما هو حتى أعظم من هذا النعيم المادي: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}، {أَكْبَرُ} تأملوا هذه، وبالفعل رضوان الله هو أكبر من النعيم المادي، بل إنه الذي يجعل للجنة قيمتها، ولذلك النعيم فيها قيمته؛ لأنه نعيمٌ وعطاءٌ من محبة الله، ومن رحمة الله، ومن فضل الله سبحانه وتعالى، وبتكريمٍ من الله -جلَّ شأنه- {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، هو الفوز الذي لا يماثله فوز، ولا أعظم منه فوز، ولا يمكن للإنسان في هذه الحياة في أيِّ اتجاه، وبأيِّ عمل، وبأيِّ جهد، أن يصل إلى نعيمٍ، وإلى فوزٍ، وإلى مكاسب، وإلى ربح، من مثل هذا الفوز، وهذا الربح، وهذه المكاسب العظيمة والمهمة، كل ذلك يرتبط بماذا؟ بعنوان الإيمان، الإيمان.
ولهذا يأتي في القرآن الكريم الحديث الواسع جداً عن الإيمان، على مستوى المئات من الآيات، المئات من الآيات المباركة في القرآن الكريم التي تتحدث عن الإيمان من كل الجوانب: عن فضل الإيمان وشرفه، وما يترتب عليه في الدنيا، وما يترتب عليه في الآخرة، الآيات التي تأمر الناس وتدعوهم إلى الإيمان؛ لأن به نجاتهم، وبه فلاحهم، وفيه الخير لهم في الدنيا وفي الآخرة أيضاً، وهو الذي يرتقي بالإنسان لتتحقق له إنسانيته الكاملة، بدون الإيمان ينحط الإنسان، ينحط في روحيته، ينحط في أخلاقه، ينحط في سلوكه، يتحول في مسيرة حياته إلى حيوان لا يختلف عن سائر الحيوانات، إلَّا أنه قد يكون هو الأسوأ مقارنةً بما منحه الله من كمالات ومؤهلات، وما أعطاه من فرص للارتقاء والكمال، فخسر كل ذلك، فيكون الحال كما في بعض الآيات المباركة: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}[الأعراف: من الآية179]، الإيمان له أثره العظيم على الإنسان في روحيته، في زكاء نفسه، في أخلاقه، في أهدافه، في اهتماماته، في فهمه للحياة؛ وبالتالي في مسيرته العملية في هذه الحياة، وهذا الذي يريده الله لنا بانتمائنا للإيمان، ولذلك يعتبر هذا الانتماء انتماء مسؤولية، انتماء مسؤولية، والله يذكِّرنا بهذا عندما يقول في كتابه المبارك: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}[المائدة: من الآية7]، هذا الانتماء نبني عليه- كما قلنا- مسيرة حياتنا في واقعنا العملي، في التزاماتنا العملية، في سلوكياتنا، في مواقفنا، في أعمالنا، في تصرفاتنا، في علاقتنا، في مواقفنا، وهذا مهمٌ جداً.
عندما نتأمل في القرآن الكريم نجد معظم التوجيهات التي تأتي من الله، وأيُّ توجيهات أعظم من توجيهات وأوامر وتعليمات مصدرها مَنْ؟ مصدرها مَنْ؟ مصدرها الله سبحانه وتعالى.
أيُّها الأعزاء: قد تجد الصيني مثلاً، والصين مثلاً أمة كبيرة من الأمم، أكثر من مليار إنسان، وفي بعض الإحصائيات أكثر من مليار ونصف، نسبة المسلمين بينهم نسبة ضئيلة، محدودة، قليلة، ومضطهدون، المسلمون بينهم يعيشون حالة الاضطهاد، والظلم، والعناء الشديد، قد تجد أولئك الوثنيون في الصين مثلاً، أو تجد أمثالهم في الهند، أو أمثالهم في اليابان… أو تجد في بقية أمم الأرض من يحرص- تأمَّلوا جيداً، ركِّزوا جيداً، أصغوا جيداً- من يحرص على أن يطبِّق تعليمات معينة في حياته، وهي تعليمات شاقة، وتعليمات صعبة، وتعليمات مؤسفة وسيئة ومأساوية وكارثة في الحياة، لا تصلح بها الحياة، يطبقها بشكلٍ التزاميٍ عجيب، بشكلٍ حرفي في مستوى الالتزام، يُعنَى ويهتم ويجد في الالتزام بها أشد الالتزام، وهي تعليمات ليس مصدرها الله، توجيهات ليس مصدرها الله، قد يكون مصدرها شخص معين، جاهل، طاغوت من طواغيت الأرض، قد يكون جباراً، قد يكون جاهلاً، قد يكون متفلسفاً، إنما هي رؤية وفكرة حتى خاطئة انطلقت من جانبه، لكنها أصبحت ضمن موروثهم، ضمن هويتهم، في حسابات انتماءاتهم، فأصبحوا يلتزمون بها، ويطبِّقونها، وأصبحت حاضرةً في حياتهم في موقع الالتزام الدقيق.
أمَّا نحن في حضن الإيمان، في جو الإيمان، في بيئة الإيمان، في واقع الانتماء للإيمان، فنحن نتعامل مع ماذا؟ مع تعليمات مع توجيهات مصدرها مَنْ؟ الله ربنا العظيم، رب السماوات والأرض، ملك السماوات والأرض، أحكم الحاكمين، الرحمن الرحيم، عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم السر في السماوات والأرض، الذي كل تعليماته وتوجيهاته وأوامره من منطلق رحمته، في كل كتابه الكريم من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، يفتتح السور المباركة بآية عظيمة، آية مهمة، ما عدا سورة واحدة من كل سور القرآن، ما عدا سورة واحدة، كل السور في القرآن الكريم تفتتح بقوله -جلَّ شأنه-: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، يأتي الحديث عن رحمته هنا بماذا؟ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ليقول لنا، ليهدينا، ليبين لنا أنَّ كل تعليماته، وتوجيهاته، وأوامره، وما شرعه لنا، وما قدَّمه لنا هو من منطلق رحمته بنا، الرحمة العظيمة الواسعة؛ لأنه أرحم الراحمين، يعني: ما هي ما بلا رحمة كذيه رحمة عادية، أو رحمة بسيطة. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، رحمته وسعت كل شيء، هو أرحم الراحمين، أرحم بك من كل من يمكن أن يرحموك، أفلا نثق بتوجيهاته؟! نجد معظم تلك التوجيهات يتصدرها نداء، ماذا يقول في هذا النداء؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، هكذا يخاطبنا، هكذا ينادينا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فيصدِّر معظم توجيهاته في كتابه الكريم، معظم آياته التي يخاطبنا بها في كتابه الكريم بهذا النداء المبارك، ليذكِّرنا بماذا؟ بهذه الهوية، وبهذا الانتماء، بهذا الانتماء، إنه ينادينا باعتبار انتمائنا للإيمان؛ لأن الإيمان صلةٌ بيننا وبينه، لأن الانتماء الإيماني هو ميثاقٌ بيننا وبين ربنا سبحانه وتعالى على السمع والطاعة، لأنه دخولٌ في ولاية الله ورحمته الواسعة، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}، هكذا يقول: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[البقرة: من الآية 257]، دخولٌ في رعايته الواسعة، في ولايته ورحمته التي وسعت كل شيء، ما أحرانا وما أولانا أن نهتم بتنفيذ توجيهاته وتعليماته.
إذا كنا نرى الآخرين من أمم الأرض، من شعوبها، يهتمون بالغ الاهتمام بتعليمات، بتوجيهات، بعادات، بتقاليد ورثوها أو أخذوها بحسب انتماءاتهم المختلفة، وليس مصدرها الله، ولكنها أصبحت عندهم مسألة انتماء وهوية؛ فتمسكوا بها، والتزموا بها، وضبطوا مسيرة حياتهم على أساسها، وحرصوا ألَّا يفرِّطوا بها، وسعوا إلى توريثها لأجيالهم جيلاً بعد جيل، أليس ذلك أولى بنا في انتمائنا للإيمان؟! انتماؤنا الإيماني أليس الأولى بنا أن نحرص عليه، أن نحافظ عليه، أن ننطلق من خلاله، أن نسعى لتربية أجيالنا عليه، وأن نورِّثه لأجيالنا اللاحقة والقادمة، هذا هو المفترض. إذا كان الآخرون في هويتهم وانتماءاتهم المختلفة، والتي لا صلة لها بالله سبحانه وتعالى، يحافظون عليها، يحمونها من كل المؤثرات. في الصين عملوا لهم نظام خاص بمواقع التواصل الاجتماعي، قالوا: [حتى لا تؤثِّر عليهم أمريكا في هوية شعبهم، في ثقافاته، في أفكاره، في عاداته، في تقاليده، في سلوكياته]؛ لأن لهم نمط حياتهم، طريقة حياتهم، أفكارهم، ثقافاتهم، وهم يريدون ألَّا تتأثر بالآخرين. أفلسنا الأولى؟! بلى الأولى.
القرآن الكريم فيه حديثٌ واسع عن الهوية الإيمانية والتعريف بها، كم في الآيات القرآنية من توصيف وتوضيح لمواصفات المؤمنين؟ نكتفي هنا بآية واحدة، آية واحدة، يقول الله -جلَّ شأنه- في كتابه المبارك: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، أمة واحدة متآخية، متعاونة، متظافرة، متكاتفة الجهود، متعاونة، متناصرة، كتلة واحدة، موقف واحد، توجه واحد، للنهوض بمسؤولية واحدة، {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: من الآية71]، آية تقدِّم عناوين عامة ومتكاملة، تشمل كل الجوانب المهمة الإيمانية، تقدِّم لنا الواقع الإيماني للأمة المؤمنة واقعاً مترابطاً، وليس مفككاً، ولا متبايناً، بل ينعمون فيه بأخوة الإيمان، وتجمعهم القضية الواحدة، والهم الواحد، والمسؤولية الواحدة، {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، وهم من أهله، هم أهل المعروف، وهم من يلتزمون به في واقع حياتهم، وهم من يأمرون بعضهم بعضاً به، والمعروف: عنوانٌ واسع يشمل كلما أمرنا الله به، كلما وجَّهنا إليه في خير الدنيا ولخير الآخرة.
{وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، والمنكر: عنوانٌ واسع يشمل كل المفاسد، كل المساوئ، كل الرذائل، كل المعاصي، وهم يعملون على تطهير ساحتهم من المنكر. {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، التي تمثِّل عبادةً روحيةً عظيمة لتزكية الإنسان، ولتعزيز الصلة بينه وبين الله. {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، بما يعنيه من عطاء، بما يعنيه من إخراجٍ لهذا الحق، من إقامةٍ لهذه الفريضة، من التزامٍ بهذا الركن المهم من أركان الإسلام، وما يدل عليه هذا العنوان في واقعهم هم أنهم ليسوا بخلاء، أنهم أهل عطاء، وسخاء، وكرم، وإنفاق، وبذل.
{وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، ليشمل ذلك ميزتهم في الطاعة، الطاعة وما أكثر ما في القرآن من حديث عن الطاعة؛ لأن الكثير من الناس كم يسمعون من آيات القرآن الكريم، من تعليمات الله، من توجيهاته، من أمره ونهيه، ولكنَّ المعيار المهم هو الطاعة، هو الالتزام العملي. أمَّا أن يكون الإنسان منتمياً، ثم بحسب مزاجه الشخصي، وبما تهواه نفسه، قد يلتزم ببعض الأشياء والبعض الآخر لا يريد الالتزام به. لا، الطاعة هي المعيار المهم. {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ}، ورحمة الله واسعة، رحمة الله في الدنيا يدخل تحتها الكثير الكثير من رعايته الواسعة، من عونه، من فضله، من توفيقه، من الخير الواسع، وفي الآخرة أيضاً الجنة، التي هي مستقر رحمة الله ورضوانه الأكبر، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
ولندرك أنَّ الله يختبر عباده في انتمائهم الإيماني، هو -جلَّ شأنه- القائل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت: الآية2]، الإنسان يفتن، يختبر، يختبر في انتمائه الإيماني، هل هو انتماءٌ صادق؟ هل فيه التزام عملي أم لا؟ {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}، تأتي الاختبارات المتنوعة: الاختبارات في المواقف، الاختبارات في الالتزام العملي أمام الحلال والحرام، الاختبار الذي يدخل إلى واقع حياة الإنسان في كثيرٍ من أموره، هل سيلتزم بتوجيهات الله سبحانه وتعالى؟ أم سيتصرف وفق هوى نفسه؟ {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}[العنكبوت: من الآية3]، سنَّة من سنن الله في كل الأمم الماضية، {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت: من الآية3]؛ لأن الله لا يقبل بمجرد الانتماء والكلام الفارغ، لا بدَّ من الصدق مع الله سبحانه وتعالى، صدق الانتماء هو بالالتزام العملي، صدق الانتماء هو بالالتزام العملي، وهذا ما يجب أن نسعى إليه، وأن نرسِّخه في واقعنا.
ثم لنعي جيداً أننا أمة لن يحفظ لنا وجودنا إلَّا صدق الانتماء، إلَّا هذه الهوية إذا رسخناها، وعززناها في واقع حياتنا، وربينا عليها أجيالنا جيلاً بعد جيل، نحن- أيها الأعزاء- في عصرٍ اسمه عصر العولمة، نحن في عصر الإنترنت، في عصر الإعلام، في عصر القنوات الفضائية، في عصر الغزو الفكري والحرب الناعمة فيه، والهجمة الثقافية فيه، والتأثيرات المتنوعة فيه، والمؤثرات والعوامل السلبية فيه بأكثر من أيِّ زمنٍ مضى، بأكثر من أيِّ زمنٍ مضى.
اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي يمكن للشاب من شبابنا اليمنيين، أو للشابة من شاباتنا اليمنيات، أن يأتيه من يؤثِّر عليه، سواءً من تأثر بالآخرين، أو من هو منهم، أن تأتيه عوامل مؤثرة من أوروبا، من شرق الأرض ومن غربها… من مختلف الأقوام والفئات، هناك في عملية التأثر بالشيء الخارج عن هويتنا، ما يمكن أن يكون تأثراً تلقائياً، تلقائياً؛ نتيجةً للفراغ، نتيجةً لانعدام المناعة الثقافية، المناعة الإيمانية، إذا كان شبابنا لا يمتلكون من الوعي، ولا يحظون بالتربية اللازمة التي ترسِّخ فيهم مكارم الأخلاق، وتعزز انتماءهم الإيماني، وعاشوا حالة الفراغ، ثم كانوا في حالة تلقي، وحالة ارتباط واسع، تأتيه إليه الأشياء المؤثرة من هنا وهناك، في شبكة الإنترنت، في القنوات الفضائية، في الغزو الفكري والثقافي عبر المناهج المسممة، وغير الصالحة والنظيفة… بكل الوسائل والأساليب التي تأتي من دعاة الضلال أيضاً ودعاة الباطل… بمختلف الفئات التي تتحرك على هذه الأرض للتأثير علينا كأمةٍ مسلمة، وكشعبٍ يمنيٍ له هذه الهوية، وله هذا الانتماء، إذا كان الإنسان وكان الشاب يعيش حالة الفراغ؛ يمكن أن يتأثر، أن تتبدل أفكاره، أن يستقبل ثقافات واردة غير صحيحة، أفكار خاطئة، أفكار ضالة، قد يتأثر بعادات، قد يأتي إليه ما يؤثِّر على زكاء نفسه، على سلوكياته، على أخلاقه، بل يأتي حتى ما يؤثر حتى على العادات والتقاليد، ما يؤثر على طريقة الإنسان في الحياة، حتى لتصمم للشباب والشابات أنماط معينة من الحياة، ومن السلوك، يسعى الأعداء إلى جرِّهم إلى ذلك النمط، إلى تلك الطريقة، تأثيرات- لاحظوا- تمتد حتى على الزي، حتى على الملابس، حتى على قصة الشعر، حتى إلى أبسط التفاصيل، يعني: يريدون أن يؤثِّروا على الإنسان من قرنه إلى قدمه، في فكره، في نفسيته، في سلوكه، في أعماله، في مواقفه، في علاقاته، في نمط حياته حتى زيه، هناك شغل كبير.
فالواقع القائم في واقع الناس اليوم، في الواقع البشري اليوم، هو واقع مؤثِّر بحد ذاته، بمجرد أن يكون الشاب أو الناشئ أو الإنسان لم يحظ بالمناعة الثقافية، والتحصين الثقافي، والوعي اللازم، والتربية الإيمانية اللازمة؛ هو سيتأثر تلقائياً، ما بالك وهناك عمل منظَّم للاستهداف، يعني: يمكن أن يتأثر تلقائياً حتى لو لم يكن مستهدفاً، بمجرد أن يرى ما هناك من مظاهر، من أمور، من أشياء غريبة عليه، مطبوعة بعناوين جذَّابة ومخادعة، ومنها العناوين الحضارية، وليست هي عناوين صادقة، الحضارة ليست في جوهرها تعبيراً عن المياعة، عن الانفلات من الالتزام الأخلاقي، عن انتشار الفساد والمنكرات، عن انتشار الرذائل، عن انفلات الإنسان من الضوابط، من القيم. لا، ليست هذه حضارة، هذه لا تعتبر حضارة أبداً، لكن قد يجد هناك عوامل مؤثِّرة عليه.
أيضاً هناك استهداف، هناك استهداف، هناك عمل منظَّم، أعداء الأمة الذين تحدث القرآن الكريم عنهم في آياتٍ كثيرة أنهم يريدون لنا الضلال، يريدون لنا الكفر، يريدون لنا الضياع، يريدون لنا الفساد، أنهم يسعون في الأرض كما قال عنهم: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}[المائدة: من الآية33]، (يَسْعَوْنَ): يعملون لنشر الفساد في الأرض، عمل منظَّم، مرتَّب، بخطط، بميزانيات، بوسائل، بأساليب، ببرامج تصل إلى حياة الناس، يسعون لإيصال الفساد ولو إلى كل منزل، ولو إلى كل أسرة، ولو إلى كل حي، ولو إلى كل بلدة، (يَسْعَوْنَ)، يعني: يعملون بشكلٍ مكثف وعلى نحوٍ عمليٍ واسع لنشر هذا الفساد.
يقول عنهم: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}[النساء: من الآية44]، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا}[النساء: من الآية89]، {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران: من الآية100]، عملية مسخ، عملية تضليل، عملية إفساد، لماذا؟ لماذا يحرص الأعداء على ذلك؟ لماذا يحرصون على أن يردونا بعد إيماننا كافرين؟ والذي يخبر بهذه الحقيقة هو الله، لماذا يريدون لنا أن نضل السبيل، وأن نضيع في كل شؤون حياتنا؟ لماذا يريدون لنا المسخ الثقافي والفكري والأخلاقي؟ لماذا يسعون لتجريدنا من هذه الهوية، وإبعادنا عن هذا الانتماء، والتأثير علينا في كل شيء: في أفكارنا، وثقافاتنا، وعلاقاتنا، وواقع حياتنا، وفي عاداتنا وتقاليدنا؟ لأنهم بذلك يضمنون السيطرة التامة علينا، يضمنون السيطرة التامة علينا، إذا هو لم يسيطر على فكرك، ولا على روحك، ولا على ثقافتك، ولا على مواقفك، ولا على إرادتك، ولا على وعيك، فهو لن يستطيع أن يسيطر لا على أرضك، ولا على ثروتك، ولا أن يصادر استقلالك؛ لأنك متماسك، متماسك بثقافتك، بوعيك، بإرادتك، بقيمك، بأخلاقك.
الأمة هي أمة عندما تبقى لها ثقافتها، روحها، أخلاقها، قيمها، هنا يبقى لنا استقلالها، لو فقدت الأمة هذه القيم، وتأثرت بأعدائها، وأعداؤها يأتون لها بأوبئتهم، الغرب هو يصدِّر لنا ليس الحضارة، يصدِّر لنا أوبئته، مفاسده، رذائله، ثم يسميها حضارة، هل هو يصدِّر لنا القدرات العملية؟ هل هو يصدِّر لنا ما يمكننا أن نتفوق؟ أم أنه من لاحق حتى في العراق وفي بلدان أخرى العلماء ليقتلهم؟.
في العراق آلاف العلماء في مختلف العلوم: في الفيزياء، والكيمياء… ومختلف العلوم الحضارية، عندما دخلت أمريكا العراق كان من أولوياتها ملاحقة أولئك العلماء وقتلهم، قتل أولئك العلماء، من لم يتمكَّنوا من استقطابه؛ قتلوه، هم لا يريدون لنا أن نمتلك عناصر القوة وأسباب الحضارة الحقيقية، أن نكون أمة تصنِّع، وتنتج، وتبني لها واقع حياتها على أساسٍ قويٍ ومستقل. لا، هم يريدون أن يصدِّروا إلينا الرذائل، المفاسد، الاختلاط والعلاقة الفوضوية بين الرجال والنساء، كل الأوبئة، أن ينتشر في بلداننا مرض الإيدز، وكل المفاسد والأوبئة والأمراض؛ حتى نكون أمة هزيلة، مائعة، فاسدة، ضائعة، تفقد كل عناصر القوة، وفي مقدمتها: القوة المعنوية، قوة الإرادة، قوة الموقف، ألَّا نكون أمةً غيورة، ألَّا نكون أمة تمتلك العزة والإحساس بالكرامة، لو فسد الإنسان لم يعد في نفسه أي كرامة، لو فسد الإنسان وماع، أصبح إنساناً مائعاً، تافهاً، رذيلاً، يسعى وراء المنكرات والفواحش والرذائل، وأصبح إما مدمناً على الخمر، أو مدمناً على المخدرات، هل يمكن أن يكون عنصراً قوياً في أمته؟ هل يمكن أن يكون عنصراً يمتلك القوة المعنوية، والإرادة القوية، والغيرة، والحمية، والإباء، والعزة، والشعور بالكرامة؟ أم أنه سيكون إنساناً تافهاً؟
لماذا صمد شعبنا خلال هذه الخمس السنوات من العدوان، وحجم هذه المعركة بشكل كبير فهي اليوم أكبر معركة قائمة على وجه الأرض، تحالفت فيها قوى الشر من الكافرين والمنافقين، بإمكاناتهم الهائلة، واستخدموا فيها أفتك الأسلحة، واستخدموا فيها الحرب الاقتصادية الشرسة، وكل الوسائل المتاحة التي أمكنهم أن يستخدموها لإذلال شعبنا وتحطيمه؛ بهدف السيطرة عليه، وفشلوا، هم الأثراء، الأكثر مالاً، الأكثر عدداً وعدةً، الأقوى إمكانيات، الأكثر خبراء، وإمكانات متنوعة، وحشدوا لهذه المعركة من أسبابها المادية ما كان سيكفي لحسمها، لماذا فشلوا في السيطرة علينا كشعبٍ يمني؟ هل لأنه كان لدينا مال أكثر من أموالهم، إمكانات أكثر من إمكاناتهم؟ لا؛ لأننا امتلكنا هذا الرصيد الأخلاقي والمعنوي، لهذا الإيمان الذي هو صلة بيننا وبين الله؛ لأننا قومٌ توكلنا على الله، ووثقنا به، والتجأنا إليه، واعتمدنا عليه، ووثقنا بوعده بالنصر، ولذلك كانت مواقفنا قوية بقوة هذا الإيمان، وكان صمود شبابنا ورجالنا في كل الجبهات بهذا الانتماء الإيماني، بهذه الروح المعنوية الإيمانية، يوم كان الرجل منَّا من أبناء شعبنا يقف في الميدان في الجبهة، سواءً في السهل، أو في الجبل، أو في الصحراء، أو في الوادي، أو في البر، أو في البحر، والأعداء يأتون بكل إمكاناتهم الهائلة، بطائراتهم الحديثة، بأحدث الطائرات، بأفتك الأسلحة، فلا يتزحزح، ثابت، وصامد، ومقاتل، ومستبسل، ومتفانٍ، ويصعد رجالنا الأبطال ليعتلوا الدبابات الأمريكية المحطَّمة بأحذيتهم، ويوجهوا إليها ببنادقهم، ويرفعوا عليها رايات الشعار، ورايات التكبير، ورايات الوطن، هذه القوة ما منبعها؟ ما أساسها؟ ما سببها؟ هو الله سبحانه وتعالى، ولماذا؟ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}[الفتح: من الآية4]، هويتنا الإيمانية فلاح، هويتنا الإيمانية قوة، انتماؤنا الإيماني ثبات، وتماسك، وصلابة، وحضارة، وعزة، وكرامة، وهذا ما يجب أن نحافظ عليه، وأن نحميه؛ لأنه مبادئ، ولأنه أخلاق، ولأنه قيم، ولأنه سلوكيات، ولأنه عادات، ولأنه تقاليد يجب أن نحافظ عليها، وأن نربّي عليها، وأن نتحرك في هذا المسار بكلنا: علماؤنا الأفاضل والأبرار، وكذلك مثقفونا، وكذلك الأكاديميون… في كل واقع حياتنا، أن يكون لنا النشاط الواسع الذي يعزز هذا الانتماء، ويحافظ على هذا الانتماء، ويرسِّخ هذا الانتماء؛ حتى نورِّثه لجيلنا القادم؛ لأن جيلنا القادم يواجه الكثير من التحديات والمخاطر على هويته الإيمانية.
وبهذا سنواصل مشوار حياتنا بين كل عواصف الأخطار والتحديات مهما كانت، بكل قوة، بكل صلابة، بكل ثبات؛ لأن قوة الإيمان لا تماثلها قوة، والانتماء الإيماني هو أعظم حصنٍ، وأعز حصنٍ؛ ولذلك سنحرص على ذلك، ونحن نعي الشرف الكبير، لن نتنكر لنعمة الله، لن نتنكر ولن نجحد هذا الوسام العظيم هذا الشرف الكبير: (الإيمان يمان، والحكمة يمانية).
وبإذن الله، وبتوفيق الله سبحانه وتعالى سنلقى الله يوم القيامة، ونلقى رسوله -صلوات الله عليه وعلى آله- في ساحة المحشر ببياض الوجوه، وبهذا الإيمان على الحوض، حيث يُحْلَؤُ الناس؛ ليتقدم أهل اليمن على ذلك الحوض، ليشربوا منه في يوم الظمأ، بإذن الله سنرد هذا المورد بإيماننا.
أكتفي بهذا المقدار…
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقنا وإياكم جميعاً وشعبنا العزيز للانتماء الإيماني الصادق، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، ويؤيدنا بتأييده، إنه سميع الدعاء.
والسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
بارك الله فيكم، ووفَّقنا وإياكم…