كلمة السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي بمناسبـــة يـوم الولايـــة الاثنين 18 ذو الحجة 1445هـ 24 يونيو 2024م( نص + وفيديو )
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
في هذا اليوم المبارك، اليوم الذي أعلن فيه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” ولاية أمير المؤمنين عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، اليوم الذي أتم الله فيه النعمة، وأكمل فيه الدين، نتوجه في هذه المناسبة المباركة، وذكرى هذا اليوم الأغر، بالمباركة والتهاني لشعبنا اليمني المسلم العزيز، ولكل المؤمنين والمؤمنات في أرجاء الدنيا.
وشعبنا العزيز احتفل بهذا اليوم المبارك في أغلب المحافظات التي هي حُرَّة، وكان هناك حضورٌ جماهيريٌ واسعٌ وشعبنا العزيز احتفل في هذا العام كما في كل الأعوام الماضية؛ لأن هذا جزءاً من موروثه الإيماني المبارك، فهو على مدى قرونٍ من الزمن، كان يحيي هذا اليوم، ويحتفل بهذه المناسبة؛ لأنه يمن الإيمان، ويمن الحكمة.
وإحياء هذه المناسبة له فوائد مهمة:
- في مقدمتها: الاعتراف بالمِنَّة والفضل لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أنه أكمل الدين، وأتم النعمة، كما قال “جلَّ شأنه”: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: من الآية3]،
- ثانياً: التخليد للبلاغ التاريخي العظيم، الذي بلغه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، في الثامن عشر من شهر ذي الحجة، في السنة العاشرة للهجرة النبوية، أثناء عودته “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” من حجة الوداع، وأيضاً الشهادة للنبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” بالبلاغ.
- ثالثاً: ترسيخ الوعي والإيمان بولاية الله تعالى، والكفر بالطاغوت، وهذا من أهم المبادئ الإيمانية.
والبداية هي بحديث الولاية، المعروف بحديث الغدير، المتواتر بين المسلمين بمختلف مذاهبهم:
في السنة العاشرة للهجرة النبوية، أتى الإشعار للنبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” من الله تعالى بقرب رحيله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” من هذه الدنيا الفانية إلى جوار الله تعالى، وفي إطار التدبير الإلهي والتوجيه الإلهي، قرر النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” أن يحج حَجَةً سُميَّت بحجة الوداع، ليتيح له ذلك اللقاء بأمته على أوسع نطاقٍ ممكن، وتقديم التعليمات والتوصيات المهمة، والوداع للمسلمين، ولذلك سُميَّت تلك الحجة بحجة الوداع؛ لأنه ودَّع فيها المسلمين، وقال لهم في خطابه في تلك الحَجة، قال لهم: ((ولعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)).
والرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” حث المسلمين، عبر الرسل والرسائل إلى مختلف المناطق، على الحج في ذلك العام بشكلٍ كبيرٍ وواسع، بل استنفرهم نفيراً عاماً للحج في ذلك العام؛ لأهمية ما سيقدمه لهم، ولعل ذلك الحج كان الأكبر من حيث الحضور، منذ أن أعاد نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وابنه نبي الله إسماعيل “عَلَيْهِ السَّلَامُ” بناء الكعبة، وقام بإحياء فريضة الحج، من ذلك الزمن إلى زمن رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” إلى ذلك الحج، في ذلك الموسم، يظهر أنه الموسم الأكثر حضوراً، يعني: على مدى آلاف الأعوام كان له هذه الميزة؛ وذلك يعود إلى مدى اهتمام النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” وحرصه، وسعيه لأن يكون حضور المسلمين على نحوٍ واسعٍ جداً في ذلك الموسم المهم.
في حجة الوداع قدَّم النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” للمسلمين التعليمات الكاملة، المتعلقة بفريضة الحج، وكيفية أداء مناسك الحج، وألقى خطاباً مهماً في الحج نفسه، كان فيه نقاط مهمة لمستقبل الأُمَّة:
- الحث لها على الاستقامة على الإسلام، وعلى الأخوَّة.
- والاعتصام بحبل الله.
- والتحذير لها من الفرقة، ومن التظالم… وغير ذلك.
- وترسيخ التوجه الأخلاقي والديني على أساس الإسلام.
خطابٌ معروف، وهناك مقتطفاتٌ منه نقلها المسلمون في كتبهم وتراثهم.
ثم انصرف النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” بعد إكمال الحج قافلاً باتجاه المدينة، ومعه الحجيج، يستمرون معه إلى مرحلة معينة من الطريق، ثم يبدأ تفرق الوفود باتجاه المناطق، ووصل إلى الجُحْفَة، وَالجُحْفَة منطقة لا زالت قريباً من مكة، هي أقرب إلى مكة منها إلى المدينة، في وادٍ هناك فيه غدير ماء، الوادي يسمَّى بوادي خم، والغدير يسمى بغدير خم.
في ذلك الموطن، في ذلك الموقع نفسه، كان هناك أهمية كبيرة جداً لذلك الموقع؛ باعتبار أن ما بعد ذلك الموقع ستبدأ الوفود (وفود الحجيج) بالتفرق باتجاه مناطقها المختلفة، في ذلك الموقع، وقبل أن يتفرق الحجيج باتجاه بلدانهم ومناطقهم، نزل قول الله “تَبَارَكَ وَتَعَالَى” مخاطباً لرسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة: الآية67]، هذه الآية المباركة تتضمن بوضوح، وتفيد بشكلٍ واضح:
- عن الأهمية القصوى للبلاغ الذي أمره الله بأن يقدِّمه، أن يبلغه للناس، وتبيَّن أن محتوى ومضمون ذلك البلاغ له علاقةٌ تامة بحيوية الدين، وإقامته، وثمرته، وأثره في الحياة، إلى هذه الدرجة التي قال عنها: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.
- وأيضاً أن له حساسية كبيرة جداً لدى الناس، كما يفيده قوله تعالى في نفس الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، أنه موضوع حساس لدى الناس، ومثير لديهم، وفيه تعقيدات بالنسبة للناس وحساسية كبيرة.
من المعروف أنه ما قبل ذلك، ما قبل تلك المرحلة ونزول هذه الآية، في المراحل الماضية، قد تم البلاغ من النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” بالمبادئ الكبرى للإسلام:
- في مقدمتها: مبدأ التوحيد لله، ومحاربة الشرك، الذي كان أول المبادئ الإسلامية، وكان أيضاً حساساً جداً في واقع العرب، ودخل في صراع كبير معهم حول هذا المبدأ المهم والأساس.
- كذلك ما يتعلق بمعرفة الله، والإيمان به، والإيمان باليوم الآخر، والمعاد الذي كان العرب يكفرون به أيضاً… غير ذلك من المبادئ المهمة.
- وأيضاً كان قد بلغ الأُمَّة بأركان الإسلام، وما يتعلق بها.
- بلغهم أيضاً بأخلاق الإسلام، بالشرائع التي قد أوحى الله بها إليه.
- بلغهم أيضاً بالمواقف، واتخذ المواقف على ضوء تعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، التي تتعلق بأعداء الإسلام والمسلمين: الموقف من مشركي العرب، والموقف من اليهود، الموقف من النصارى، الموقف من المنافقين، مواقف قد بلغت وتحرَّك النبي على أساسها، وأدى ما عليه فيها قولاً وفعلاً.
فما هو الموضوع المتبقي في تلك المرحلة، التي لم تكن إلا مدة زمنية بسيطة، المتبقي له أقل من ثلاثة أشهر من عمره الشريف، على مدى ثلاثةٍ وعشرين عاماً قد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأُمَّة، وجاهد في سبيل الله، ما هو الموضوع المتبقي، والذي له تلك الأهمية الواضحة في الآية المباركة، أهميته في علاقته بإقامة الدين، وثمرة الدين، وثمرة الرسالة الإلهية، {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، وهو في نفس الوقت حساس جداً لدى الناس، إلى درجة أن الله يعصم نبيه، ويحفظه من ردة الفعل السيئة والقاسية من جانب الناس، والخطرة من جانب الناس، فيقول له: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}؟! يتضح ذلك بكله من خلال البلاغ الذي أعلنه النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” في ذلك المقام.
رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” بعد نزول الآية المباركة، وعلى الفور اتخذ جملةً من الترتيبات والإجراءات، هي أيضاً تفيد أهمية ما سيقدمه، وتنسجم بشكلٍ تام مع منطق الآية المباركة، في أهمية الموضوع، فهو “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” أمر بعودة من قد تقدم من الحجيج، من كانوا قبله أن يعودوا فوراً، هم لم يبتعدوا كثيراً، وكذلك أمر المتأخرين أن يلحقوا، ونودي فيهم: (الصلاة جامعة)؛ لجمعهم، وكان ذلك في وقت الظهيرة، والوقت حارٌ جداً، الحرارة ساخنة، في ذلك الوقت الحار جداً، في موقع ليس فيه ظل يتفيأ الناس به؛ إنما كان موقعاً مكشوفاً، فيه بعض الدوحات، شجرات قليلة مشوكة، يمكن أن تكون مفيدةً في موقع النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، حيث نُظِّف ما تحتهن، وَقُمَّ ما تحتهن من الشوك؛ ليجلس فيه النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” في ذلك الموقع، واجتمع المسلمون بعشرات الآلاف، بجمعهم الكبير جداً، بناءً على ذلك الأمر من النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، اجتماعاً طارئاً يستحق هذا التوصيف؛ لأهميته الكبيرة: أثناء الظهيرة، والحرُّ على أشده.
ثم أمر النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” بأن تُرَصَّ أقتاب الإبل؛ لتكون مِنبراً، يصعد من فوقه ليوجه للمسلمين خطابه، ويقدم الإعلان والبلاغ الذي أمره الله بإبلاغه، وصلَّى بالناس صلاة الظهر، دخل وقت الظهر، فصلَّى بهم صلاة الظهر، وبعد صلاة الظهر أخبرهم أن الله قد أمره بأن يبلغ أمراً مهماً، وقرأ عليهم الآية المباركة، وصعد فوق أقتاب الإبل، وأخذ معه عليّاً “عَلَيْهِ السَّلَامُ” ليصعد معه فوق أقتاب الإبل، ثم خطب خطاباً موجهاً إلى الناس، والناس ينصتون؛ لأنهم قد أدركوا بطبيعة الترتيبات والإجراءات والاستدعاء الطارئ، والاجتماع الطارئ، أن الموضوع مهم، ثم من خلال إبلاغه لهم بالآية المباركة، وأن الله قد أمره أن يبلِّغ أمراً مهماً.
فخطب “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” خطابه، فحمِد الله، وأثنى عليه، وذكَّر المسلمين أيضاً بقرب رحيله من هذه الدنيا الفانية، وبعبارة: ((إِنِّي أُوْشِكُ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبُ))، يعني: على وشك الرحيل من هذه الحياة الدنيا، وأيضاً استشهدهم على إبلاغه الرسالة والدين، ونصحه لهم، وجهاده في سبيل الله، وما بذله من جهدٍ لهدايتهم، وشهدوا له بكل ذلك، أخبرهم في سياق خطابه: أنه قد ترك فيهم الثقلين، ثم وصل إلى صُلب الموضوع، وهم في حالة إصغاء تام، والمشهد أمامهم واضحٌ في غاية الوضوح، الوقت هو وسط النهار، الشمس مشرقة، ليس هناك ضباب، ولا غبار… ولا أي عوائق، ولا أي مؤثرات سلبية تحول دون أن تكون الصورة واضحة لهم، أو الصوت ليس كذلك بمسمعهم، هم يسمعون وهم مصغون.
وصل إلى صلب الموضوع، ثم قال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ مَوْلَايَ، وَأَنَا مَولَى المُؤمِنِين، أَوْلَى بِهِم مِنْ أَنفُسِهِم، فَمَن كُنتُ مَولَاهُ، فَهَذَا– وأخذ بيد عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” ورفعها بيده ومع يده- فَهَذَا عَلِيٌّ مَولَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَانْصُر مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُل مَنْ خَذَلَهُ))، واستشهدهم على البلاغ وأنه قد بلغهم، وأمرهم أن يبلِّغ الشاهد منهم الغائب، أن ينقلوا بلاغه إلى الناس.
فالبلاغ كان- البلاغ الذي أمره الله بإبلاغه في الآية المباركة، كما يتَّضح جلياً من خطابه، ومن تنفيذه لأمر الله له في تلك الآية المباركة- كان عن ولاية أمير المؤمنين عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”؛ باعتبارها امتداد لولاية النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” بالعبارة الواضحة: ((فَمَن كُنتُ مَولَاهُ، فَهَذَا عَلِيٌّ مَولَاهُ))، كما أن أجواء الموقف بكله، من نزول الآية المباركة، التي فيها الأمر بالبلاغ، والترتيبات التي عملها النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، والإعلان بنفسه، ومحتواه، والمضمون، كل ذلك يُبيّن أهمية الموضوع بالنسبة لنا كمسلمين، وأهمية الموضوع للأُمَّة فيما بعد رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”.
في واقع الحال، فإن الأُمَّة بحاجة إلى فهم واستيعاب ما تعنيه الولاية، ما هو معناها وفق المفهوم القرآني، وفق ما ورد في كتاب الله تعالى، وعن نبي الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، ونحن في هذا الزمن بالذات من أحوج الناس إلى استيعاب هذا المبدأ العظيم والمهم؛ لأنَّه مبدأٌ يحفظ الأُمَّة، ويصونها، ويحافظ عليها من ولاية الطاغوت؛ لأنَّه إمَّا أن نكون في إطار ولاية الله “تَبَارَكَ وَتَعَالَى”، وإلَّا كان البديل عنها هو ولاية الطاغوت.
أمريكا ومن معها في هذا العصر، أمريكا تسعى لفرض ولايتها على المسلمين، وهذا شيءٌ واضحٌ تماماً، هي تجعل نفسها- أمريكا- في موقع الآمر، والناهي، والمقرر، والموجِّه، والذي يفرض السياسات، وتتدخل في شؤون أُمَّتنا الإسلامية بمختلف بلدانها وشعوبها في كل المجالات، فهي تسعى لفرض ولايتها على المسلمين، ومعها إسرائيل، ومعها اللوبي اليهودي من خلفها، ومعها من يقف معها من قوى الكفر والنفاق، وأمريكا هي طاغوت هذا العصر، أمريكا هي طاغوت هذا العصر، الطاغوت المستكبر، فهي تسعى لفرض ولاية الطاغوت على المسلمين، وأن تكون هي في موقع الأمر والنهي والقرار، والمتحكمة على المسلمين في كل أمورهم، وفي كل شؤونهم، وفق سياساتها، وتوجيهاتها، وما تملي عليهم، هذا أمرٌ يُشَكِّل خطورةً بالغة على المسلمين في هويتهم الإسلامية، وفي دينهم، وفي كل شؤونهم، خطراً عليهم في الدين والدنيا.
ولذلك في مقابل ما تسعى له أمريكا، وأن هناك استجابة واسعة من كثيرٍ من الحكومات والأنظمة، لتقبُّل ذلك، وللتفاعل مع ذلك كشيءٍ مقبول ومستساغ، بل وحتى محاربة من لا يقبل بذلك، هذا أمرٌ خطيرٌ جداً، يعني: هناك حكومات من المسلمين، زعماء وقادة، ملوك وأمراء، لديهم تَقبُّلٌ تام لولاية أمريكا، ولسعيها لفرض ولايتها على الأُمَّة، وهم يتعاملون معها من منطلق أنها هي المعنية بالأمر والنهي، وفرض السياسات، والقرارات، والتوجهات، وحتى الولاء والعداء، والتفاعل معها بناءً على ذلك، يطيعونها، يخضعون لها، يستجيبون لها، يأتمرون بأمرها، ينتهون بنهيها، يوالون من تأمر هي بموالاته، ويعادون من تأمر هي بمعاداته، تحدد هي من هو العدو ومن هو الصديق، تقول لهم: [تحالفوا مع إسرائيل وطبِّعوا]، فيتقبلون ويأتمرون، [عادوا هذه الجهة، أو هذا البلد الإسلامي، وهذه الجهة الإسلامية]، فيعادونها بأشد حالات العداء؛ فولاية أمريكا هي ولاية الطاغوت، التي هي امتداد للتولي للشيطان، فنجد أهمية المسألة لنا في هذا العصر، في هذا الزمن، بعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة.
عندما نعود إلى القرآن الكريم، يتبين لنا أهمية الموضوع من خلال الآيات المباركة، وهذا ما ينبغي علينا: أن يكون المعيار عندنا، الذي نقيس به أهمية الأمور، وأهمية المبادئ، وأهمية المفاهيم، من خلال موقعها في القرآن الكريم، وما يتجلى من خلال القرآن الكريم لها من أهمية.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة : 256-257]، فهذه الآياتان المباركتان من (سورة البقرة) يتضح من خلالهما أنه إمَّا أن يكون الإنسان في إطار ولاية الله تعالى، أو إذا خرج عنها، ولم يقبل بها، سيكون تلقائياً في إطار ولاية الطاغوت والعياذ بالله، الطاغوت الذي يخرج الناس من النور إلى الظلمات، وليس هذا فحسب، ومن بعد ذلك: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}؛ لأن دورنا في هذه الحياة كبشر هو دورٌ مهم، ومسؤوليتنا كبيرة في إطار الاستخلاف في الأرض، وما يتعلق بذلك من مسؤوليات مهمة ومقدسة، كيف نتحرك على أساس هدى الله وتعليماته، ثم هناك الوجهة التي نصل إليها في الأخير، التي هي دار الجزاء، المستقبل الأبدي المهم في الآخرة، لا تنتهي الأمور فيما يحدث هنا في الدنيا، بل هناك المنتهى المهم جداً، إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في إطار الحساب والجزاء: إَّما الجنة، وإمَّا النار؛ إمَّا رحمة الله، وإمَّا عذاب الله والعياذ بالله. فالمسألة لها هذه الأهمية الواضحة في هذه الآية المباركة.
في ولاية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، عندما قال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، نجد أن الامتداد لهذه الولاية هو في دورٍ مهمٍ جداً للرسول، للرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” في أداء هذه المهمة نفسها؛ ولهذا يقول الله للرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، في إطار الحديث عن الولاية في (سورة المائدة): {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” يُقَدَّم في هذه الآية المباركة؛ لأن ولايته هي امتداد لولاية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: الآية55]، ومن المعروف في كتب التفسير عند المسلمين أن المعني بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، هو أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، حيث أتى الحديث عنه بمؤهلاته ومواصفاته الإيمانية الكاملة، {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة: الآية56].
فنجد أن مما يرتبط بولاية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهو الربُّ، والملك، والإله الحق، ولايته في إطار ربوبيته، وملكه، وألوهيته، هو ربُّ العالمين جميعاً، ربُّ الخلائق أجمعين، له في عباده حق الأمر والنهي، وليس فقط مجال الخلق والتكوين، بل مع الخلق والتكوين، والتدبير والتسيير لشؤون الكون، والتصريف لشؤون الكون في كل ما فيه، له أيضاً “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” حق الأمر والنهي في عباده، وهو الذي يهديهم إلى الصراط المستقيم، فيهديهم إلى ما فيه الخير لهم، إلى ما فيه فلاحهم، ونجاتهم، وفوزهم، وإلى ما يرتبط بالهدف المقدَّس من وجودهم في هذه الحياة، وهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الذي خلقهم واستخلفهم في الأرض، هو القائل: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}[الليل: الآية12].
أمَّا ولاية الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” فهي امتداد لولاية الله، ولكن من موقع الرسالة، في مهمته كرسول، وفي إطار عبوديته لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو عبدٌ لله “جَلَّ شَأنُهُ”، ويقرُّ بعبوديته لله، ويؤمن بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومهمته في إطار ذلك الدور كبيرة ومهمة، ولايته قال عنها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[الأحزاب: من الآية6]، له هذه الولاية على المؤمنين، امتداداً لولاية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.
دوره في ولايته هو امتداد لذلك الشيء العظيم، امتداد لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، مثلما قال الله هناك: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[البقرة: من الآية257]، فرسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” هو يتحرك في إطار هذا الدور: لإخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ ولهذا يقول الله له: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم: من الآية1]، فهو يؤدِّي هذا الدور في واقع الناس، يسعى لإخراجهم بما منَّ الله به عليه من الهدى، ذلك الكتاب العظيم (القرآن الكريم)، وما أوحى الله به إليه، يسعى لإخراج الناس من موقع الهداية، والتربية، والتزكية، والقيادة، وهو يسعى في الواقع العملي، وبالتعليم والتزكية، لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
ما بعد وفاة النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، ليس القرار الإلهي بأن تقفل منافذ النور، وأن يعود الواقع البشري إلى الظلام، فلا يكون هناك استمراريةٌ للنور الإلهي في واقع البشر؛ ولذلك كانت ولاية أمير المؤمنين “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، التي عبَّرت عنها الآية المباركة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا}[المائدة: من الآية55]، من موقع الامتداد الإيماني، هو ليس في موقع الرسالة، هو في موقع الولاية، في إطار كمال الإيمان، ليسير بالمؤمنين في إطار النهج الإلهي، الذي هو للنور والهداية، امتداداً لولاية رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” في تعبير النبي: ((فَمَن كُنتُ مَولَاهُ، فَهَذَا عَلِيٌّ مَولَاهُ))، حتى يبقى امتداد النور في الأمة في مواجهة ظلمات الطاغوت، التي يسعى لإخراج الناس إليها، الطاغوت يسعى دائماً لإخراج الناس إلى الظلمات، إخراجهم من النور إلى الظلمات، من الذي يواجه ذلك الدور الظلامي للطاغوت؟
رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” تحدث كثيراً ما قبل ذلك- ما قبل حديث الولاية، وحديث الغدير، ومقام يوم الغدير- تحدث كثيراً عن أمير المؤمنين عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” بعبارات مهمة، وأوصاف مهمة، من ضمنها: قوله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” مخاطباً لعليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وهذا الحديث أيضاً مما تواتر عند المسلمين بمختلف مذاهبهم: ((أَنتَ مِنِّي بِمَنزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي))، يعني: دور النبوة هو الذي انتهى؛ لأن رسول الله هو خاتم النبيين “صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامهُ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، وقوله عنه: ((عَلِيٌّ مَعَ القُرْآنُ، وَالقُرْآنُ مَعَ عَلِي))، وهذا حديثٌ معروفٌ عند المسلمين بمختلف مذاهبهم، في تراثهم.
هذه النصوص هي تبيِّن لنا امتداد هذا الدور ما بعد وفاة النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” في مسيرة الأمة، وفعلاً أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” واصل مسيرة النور، والامتداد الأصيل للإسلام في كماله، ونقائه، وكان ذلك الامتداد الأصيل النقي واضحاً في جهد عليٍّ وجهاده، وما قدَّمه للأمة، وهو يقدِّم معارف الإسلام، وهو بذلك يمثِّل حلقة الوصل الآمنة، والموثوقة، التي تضمن الامتداد الأصيل للإسلام ما بعد وفاة النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”.
ثم فيما يتعلَّق أيضاً بدوره في إدارة شؤون الأمة، والعمل على هدايتها، من يتأمل في سيرة أمير المؤمنين عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وما بذله من جهد، وما عاناه، وكيف كان تعامله بجدٍ؛ يجد بوضوح الصورة الأرقى والأسمى، التي تُعبِّر عن ذلك الدور، الذي هو معنيٌ به ما بعد رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، فهو تحرك في إطار المهمة الجامعة، في تبليغ الإسلام، في الحفاظ على نقائه، وأصالته، وامتداده، وتقديم معارفه، والهداية به، وأيضاً في موقع أداء المسؤولية، تحرَّك تحركاً يعبِّر عن مقام الولاية، السعي لهداية الأمة، لتزكيتها، لإصلاحها، والسعي لإقامة دين الله في واقعها، بنقائه، وصفائه، بدون شوائب، ثم كان في رحمته، وحكمته، وعلمه، وعدله، بما يعبِّر عن ذلك المقام العظيم، ويشهد له، ويجسِّد معاني الإسلام ومبادئه في صورةٍ راقية، لم يكن فيها نقصٌ، أو خللٌ، أو شوائب من جهته “عَلَيْهِ السَّلَامُ”؛ ولذلك تبقى سيرته وتاريخه مدرسةً راقيةً للأمة، وما قدِّمه أيضاً، مثل عهده لمالك الأشتر… وغيره من رسائله، وكتبه، وقراراته، ومواقفه، وأعماله، كلها مدرسة متكاملة، شكَّلت امتداداً نقياً، ونموذجاً رائداً، ملهماً، معلِّماً للأمة إلى قيام الساعة، فإلى جانب تقديمه لمعارف الإسلام، وسعيه الدؤوب لتطبيقها، ومن واقع المعرفة، والعلم، والاهتداء، والاقتران مع القرآن الكريم، يتجلى ما قدَّمه في أدائه للمسؤولية من موقع الحاكم الإسلامي، بعد أن تمكَّن من ذلك، وهو جانبٌ واسعٌ جداً، حفلت به كتب التاريخ والمناقب في تراث المسلمين، من يقرأ ويتعلَّم؛ يدرك ذلك، ولأن المقام هنا لا يتَّسع للحديث عن هذه التفاصيل بشكلٍ واسع، المقام مقام كلمة بوقتها المحدود، نذكر نماذج من ذلك، وفيها ما يفيد كثيراً.
عندما نعود إلى موضوع من أهم المواضيع في الإسلام، وهو: موضوع العدل، وكيف يجسِّد العدل من موقعه في إدارة شؤون الأمة، وموقع المسؤولية، فهو قدَّم أرقى نموذج لتطبيق العدل، وتجسيد قيم العدل في أدائه للمسؤولية في إدارة شؤون الأمة، وهناك الكثير جداً مما يجسِّد ذلك في تصرفاته، في قراراته، في مواقفه، في سيرته العملية.
من ضمن ما يبيِّن لنا ذلك قوله “عَلَيْهِ السَّلَامُ”: ((وَاللهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلقَى اللهَ وَرَسُوْلَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ظَالِماً لِبَعْضِ العِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيءٍ مِنَ الحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى البِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا؟! وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً)): عقيل بن أبي طالب، أخو الإمام علي “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، ((وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أَمْلَقَ))، يعني: افتقر، يعاني من الفقر الشديد المدقع، ((حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الأَلوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالعِضْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً، وَكَرَّرَ عَلَيَّ القَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغِيْتُ إِلَيْهِ سَمعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتْبَعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ؛ لِيَعْتَبِرَ بِهَا))، يعني: قرَّبها منه، لِيحُس كم هي حارة جداً، قبل حتى أن تمسَّ جسده؛ إنما الحرارة التي يشعر بها من اقترابها، ((فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسِانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَّرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ! أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى، وَلَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى))، يعني: لاحظوا هذا الدرس العجيب جداً.
ذلك هو أخوه عقيل بن أبي طالب، ويعاني من الفقر الشديد، ويريد صاعاً من البر؛ لأجل أطفاله، وهم يعانون من الفقر المدقع، لكن أمير المؤمنين يمتنع عن أن يزيده شيئاً من المال العام، يعني: أرقى مستوى من النزاهة والحفاظ على المال العام، كم هو الفارق بين من يستبيح المال العام، ويتصرف فيه كما يشاء ويريد، ومن يرعى فيه هذا الحق إلى هذه الدرجة، والنزاهة العالية جداً؟ كم هي حال الكثير من المسؤولين، من الموظفين، من الزعماء، من الملوك والأمراء، الذين يستأثرون بالمال العام، والمصالح العامة للأمة، ويستغلونها، وينهبونها، ويكونون فيها في عيش الترف، عيش الترف، والبذخ، والاستباحة.
((وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ، طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِي وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا، كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ))، شخص أتى بهدية، هي عبارة عن حلوى قد أعدَّها إعداداً خاصاً، ((كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ))، نظرة الإمام إليها بهذه النظرة، ((أَوْ قَيْئِهَا، فَقُلْتُ: أَصِلَةٌ، أَمْ زَكَاةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ البَيْتِ! فَقَالَ: لَا ذَا وَلَا ذَاك، وَلَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ))، وذلك الشخص هو شخص منحرف، وهو يتصور أنَّه إذا قدَّم الهدية إلى أمير المؤمنين “عَلَيْهِ السَّلَامُ”؛ سيؤثر عليه، ويستعطفه ويستميله، كما هي الحالة السائدة عند كثير من المسؤولين، أنهم قد يستمالون بالهدايا، والصلات، والإحسان إليهم، وتقديم المعروف إليهم، بهدف الاستغلال لهم، والتقرب منهم؛ للاستفادة منهم في أمور خاصة، ومخالفة، ((فَقَالَ: لَا ذَا وَلَا ذَاك، وَلَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ. فَقُلْتُ: هَبِلَتْكَ الهَبُولُ، أَعَنْ دِينِ اللهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي؟!))، ((أَعَنْ دِينِ اللهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي؟! أَمُخْتَبِطٌ أَنْتَ، أَمْ ذُو جِنَّة، أَمْ تَهْجُرُ؟!))، هل أنت مجنون؟! ماذا بك يعني؟! ((وَاللهِ لُوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ)).
نجد هذه النزاهة العالية جداً، هذا العدل، هذا الورع العظيم جداً، على هذا المستوى: لو كان المكسب هو الأقاليم السبعة، كل الأرض، بما فيها من ثروات، وإمكانات، ومكاسب، في مقابل ماذا؟ الظلم لنملة، تحمل جلب شعيرة، فيؤخذ عليها هذا المقدار البسيط الضئيل جداً، ((مَا فَعَلْتُهُ))، هذا درس عظيم لكل المسؤولين، لكل الموظفين، لكل منهم في مواقع المسؤولية، بل لكل مسلم، درسٌ في الورع، في التقوى، في الحذر من الظلم، درسٌ في العدل، وقيم العدل، والالتزام بالعدل، والحذر من الظلم.
((وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى، وَلَذَةٍ لَا تَبْقَى))، يحمل هذا الإيمان، هذا الوعي، ما حصل عليه الإنسان في هذه الدنيا مهما كان، سيفنى وينتهي، لكن إذا كان من الحرام، تبقى تبعاته، وآثامه، والعذاب الدائم الأبدي نتيجةً له.
يقول “عَلَيْهِ السَّلَامُ” أيضاً وهو كان يخاطب الناس، وهو يدعوهم إلى أن يقفوا معه لإقامة الحق، في دعوته، في مسعاه للاتِّجاه بالأمة هذا الاتجاه، الذي يجسِّد مبادئ الإسلام، وقيمه، وأخلاقه، وتعليماته، كان يقول: ((اللَّهُمَّ أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِكَ سَمِعَ مَقَالَتَنَا العَادِلَةَ غَيْرَ الجَائِرَةِ، وَالمُصْلِحَةَ غَيْرَ المُفْسِدَةِ، فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلَّا النُّكُوصَ عَنْ نُصْرَتِكَ، وَالإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِينِكَ، فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ عَلَيْهِ، يَا أَكْبَرَ الشَّاهِدِينَ شَهَادَةٌ، وَنَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا أَسْكَنْتَهُ أَرَضَكَ وَسَمَاوَاتِكَ، ثُمَّ أَنْتَ بَعْدُ المُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ، وَالآخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ))؛ لأنَّ اتجاه أمير المؤمنين هو لإعزاز الدين، لنصرة الحق، لإقامة دين الله، لتجسيد قيم الإسلام، وربط الأمة بها؛ وبالتالي كان يعاني من تخاذل الكثير من الناس، ومن نفورهم من ذلك.
في درسٍ آخر: في كتاب كان يكتبه لمن يستعمله على الصَّدقات، يعني: لجباية الزكاة، لجمع أموال الزكاة، وفيما يتعلق بالتحديد بالمواشي، زكاة المواشي: زكاة الأبقار، والأغنام، والإبل، والماعز، فقدَّم هذه التعليمات التي يندهش الإنسان ويتعجب، وتقدِّم صورةً عظيمةً جداً عن قيم الإسلام، وتعليماته الراقية، فكانت هي نظاماً على أساس الالتزام به، ممن يجمعون زكاة المواشي، هذا الكتاب يقول فيه كتعليمات مُلزِمة لمن سيتحرك لجمع زكاة المواشي: ((انْطَلِقْ عَلَى تَقْوَى اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً))، يرسم طريقة التعامل مع الناس، مع المسلمين، أثناء أداء هذه المهمة: في جمع زكاة المواشي منهم، لا تكن بطريقة مخيفة، مزعجة، ((وَلَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً)): تخيفه، تفزعه، تقلقه، ((وَلَا تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً، وَلَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكثَرَ مِنْ حَقِّ اللهِ فِي مَالِهِ. فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ))، كان العرب وبالذات أصحاب المواشي، عادةً ما يكونون قريباً من الوديان والمناطق والواحات التي فيها مياه، فيستقرون بجانبها؛ لرعي مواشيهم، كان لهم ثروة حيوانية جيدة في الماضي، البعض يمتلك المئات من الإبل، البعض من الأبقار، البعض من الأغنام… وهكذا.
((فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ))، يعني: بجوار المياه، ((مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، حَتَّى تَقوُمَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ، وَلَا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ))، يعني: سلِّم عليهم وأدِّ التحية كاملة، كيف يوجهه حتى في طريقة إلقاء التحية، وحتى في الحركة: فامش ((إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ))، يعني: ليس بالأسلوب الذي فيه تكبر، وغطرسة، وعنف، وما يعبِّر عن حالة التكبر على الناس، واللامبالاة بهم، بل بطريقة محترمة، ولائقة، وراقية، ((بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ))، التحية كذلك كيف تقدَّم بشكلٍ كامل، وعادةً ما تغيب هذه الأمور عن كثيرٍ من المسؤولين، والموظَّفين، وأصحاب السلطة، سلوكهم في حركتهم، الحركة الاستعراضية، المتغطرسة، المتباهية، وأحياناً المتعجرفة، وكذلك طريقتهم في الحديث مع الناس تختلف تماماً.
((وَلَا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ، ثُمَّ تَقُولَ: عِبَادَ اللهِ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللهِ وَخَلِيفَتُهُ، لآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لاَ، فَلاَ تُرَاجِعْهُ، وَإِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ، فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ، أَوْ تُوعِدَهُ، أَوْ تَعْسِفَهُ، أَوْ تُرْهِقَهُ، فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّة))، بالنسبة لزكاة النقد، ((فَإنْ كَانَتْ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ، فَلاَ تَدْخُلْهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ))، يعني: وإن كان فيها حقٌّ للزكاة، فهو الشيء الأقل، والأكثر هو ملكه، ((فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلاَ تَدْخُلْ عَلَيهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ، وَلَا عَنِيفٍ بِهِ))، الدخول إليها برفق، باحترام، بهدوء، ((وَلَا تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً))، حتى في التعامل مع المواشي تلك التي يدخل إليها لأخذ الزكاة، وجمع الزكاة منها، ((وَلَا تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً، وَلَا تُفْزِعَنَّهَا، وَلَا تَسُوءَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا، وَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ))، هكذا التعامل حتى مع المواشي، هذا هو أرقى تجسيد لقيم الإسلام، كيف هو التعامل مع البشر من المسؤولين والموظفين، من أغلبهم؟!
((وَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ، ثُمَّ خَيِّرْهُ، فَإِذَا اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ، ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقيَ صَدْعَيْنِ، ثُمَّ خَيِّرْهُ، فَإِذَا اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَ، فَلاَ تَزَالُ كَذلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللهِ فِي مَالِهِ، فَاقْبِضْ حَقَّ اللهِ مِنْهُ، فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ))، يعني: إذا أراد أن تعيد من جديد القسمة والاختيار، فأعطه المجال، ((ثُمَّ اخْلِطْهُمَا، ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلاً حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللهِ فِي مَالِهِ. وَلَا تَأْخُذَنَّ عَوْداً، وَلَا هَرِمَةً، وَلَا مَكْسُورَةً، وَلَا مَهْلُوسَةً، وَلَا ذَاتَ عَوَار، وَلَا تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلاَّ مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ، رَافِقاً بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُوصِلَهُ إِلَى وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ))، يعني: حتى الإرسال لها بعد جمعها، إنما يكون عبر من هو موثوقٌ في أنه سيرفق بمال المسلمين، ليس إنساناً مهملاً، أو مستهتراً، أو عنيفاً، سيتعامل معها بدون رفق.
((وَلَا تُوَكِّلْ بِهَا إِلاَّ نَاصِحاً شَفِيقاً، وَأَمِيناً حَفِيظاً، غَيْرَ مُعَنِّفٍ وَلَا مُجْحِفٍ، وَلَا مُلْغِبٍ، وَلَا مُتْعِبٍ. ثُمَّ احْدُرْ إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ، نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللهُ بِهِ. فَإِذَا أَخذَهَا أَمِينُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ: أَلاَّ يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَبَيْنَ فَصِيلِهَا))، رفق حتى بهذه المواشي والحيوانات، ألَّا يفصل بين ناقةٍ وبين فصيلها؛ لأنه سيحتاج إلى الرضاعة منها، ((وَلَا يَمْصُرَ لَبَنَهَا فَيَضُرَّ ذلِكَ بِوَلَدِهَا))، رفق حتى بالحيوانات، ((وَلَا يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً، وَلْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذلِكَ وَبَيْنَهَا، وَلْيُرَفِّهْ عَلَى اللاَّغِبِ، وَلْيَسْتَأْنِ بِالنَّقِبِ وَالظَّالِعِ، وَلْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ))، من أماكن المياه حتى تشرب، ((وَلَا يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الأرْضِ))، حتى يتحصَّل لها المرعى والنبات، ((إِلَى جَوَادِّ الطُّرُقِ، وَلْيُرَوِّحْهَا فِي السَّاعَاتِ))، يعني: لتستريح؛ حتى لا يرهقها ويتعبها، ((وَلْـيُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ وَالأعْشَابِ، حَتَّى تَأْتِيَنَا- بِإِذْنِ اللهِ- بُدَّناً مُنْقِيَات، غَيْرَ مُتْعَبَات وَلَا مَجْهُودَات، لِنَقْسِمَهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، فَإِنَّ ذلِكَ أَعْظَمُ لأجْرِكَ، وَأَقْرَبُ لِرُشْدِكَ، إِنْ شَاءَ اللهُ))، فنجد هذه التعليمات التي ليس لها مثيل في واقع الناس في مختلف الأنظمة، في مختلف- كذلك- ما يُعتمد عليه من قوانين أو غير ذلك.
يقول “عَلَيْهِ السَّلَامُ” أيضاً في نموذج آخر كذلك، وهو إلى بعض عمَّاله، وقد بعثه على الصدقة: ((أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ فِي سَرَائِرِ أَمْرِهِ، وَخَفِيَّاتِ عَمَلِهِ، حَيْثُ لَا شَهِيدَ غَيْرُهُ، وَلَا وَكِيلَ دُونَهُ))، وهكذا كانت تتصدر كتبه وتوجيهاته: الأمر بتقوى الله، والتذكير برقابة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والعقوبة الإلهية، وهذا من أهم ما كان يربي الأمة عليه: على استشعار رقابة الله تعالى.
((وَأَمَرَهُ أَلَّا يَعْمَلَ بِشَيءٍ مِنْ طَاعَةِ اللهِ فِيمَا ظَهَرَ، فَيُخَالِفَ إِلَى غَيْرِهِ فِيمَا أَسَرَّ))، يعني: أمره بأن تكون سريرته وعلانيته، وما خفي من حاله، كمثل ما ظهر في تقوى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ((وَمَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ سِرُّهُ، وَعَلَانِيَتُهُ، وَفِعْلُهُ، وَمَقَالَتُهُ، فَقَدْ أَدَّى الأَمَانَةَ، وَأَخْلَصَ العِبَادَةَ))؛ لأن هذه هي المصداقية مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
((وَأَمَرَهُ أَلَّا يَجْبَهَهُمْ، وَلَا يَعْضَهَهُمْ، وَلَا يَرْغَبَ عَنْهُمْ تَفَضُّلاً بِالإِمَارَةِ عَلَيْهِمْ))، الرفق مع الناس، التعامل، التواضع، القرب من الناس، الاحسان إليهم، ((فَإِنَّهُمُ الإِخْوَانُ فِي الدِّينِ، وَالأَعْوَانُ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الحُقُوقِ. وَإنَّ لَكَ فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً))، يعني: باعتباره من العاملين، يخاطب هذا الذي بعثه لجمع الصدقة، ((وَحَقاً مَعْلُوماً، وَشُرَكَاءَ أَهْلَ مَسْكَنَة، وَضُعَفَاءَ ذَوِي فَاقَةٍ، وَإِنَّا مُوَفُّوكَ حَقَّكَ، فُوفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ))؛ لأن البعض من العاملين لجمع الصدقات، لجمع الزكاة، إذا لم يكن متقياً لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قد يخون، ويأخذ أكثر من الحق، فيكون ذلك نقصاً على بقية تلك الفئات، التي هي محتاجة، وشرع الله لها نصيباً مفروضاً، ((وَإِنَّا مُوَفُّوكَ حَقَّكَ، فُوفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ، وَإِلَّا تَفْعَلْ، فَإِنَّكَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ خُصُوماً يُوْمَ القِيَامَةِ، وَبُؤْسَى لِمَنْ خَصْمُهُ عِنْدَ اللهِ الفُقَرَاءُ، وَالمَسَاكِينُ، وَالسَّائِلُونَ، وَالمَدْفُوعُونَ، وَالغَارِمُونَ، وَابْنُ السَّبِيلِ! وَمَنِ اسْتَهَانَ بِالأَمَانَةِ، وَرَتَعَ فِي الخِيَانَةِ، وَلَمْ يُنَزِّهَ نَفْسَهُ وَدِينَهُ عَنْهَا، فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ الذُّلَّ وَالخِزْيَ فِي الدُّنْيَا))؛ لأن الخيانة في أداء المسؤولية مشينة، ومخزية، ومعيبة، وفي نفس الوقت تترتب عليها عقوبات، ((وَهَوَ فِي الآخِرَةِ أَذَلُّ وَأَخْزَى، وَإِنَّ أَعْظَمَ الخِيَانَةِ: خِيَانَةُ الأُمَّةِ، وَأَفْظَعُ الغِشِّ: غِشُّ الأَئِمَّةِ، وَالسَّلَام))، أعظم الخيانة خيانة الأمة لمن هو في موقع مسؤولية، وهذه نجد فيها تعليمات مهمة جداً، تعليمات مُلزِمة، ونظام يعتمده.
نجد أيضاً في رسالةٍ له “عَلَيْهِ السَّلَامُ” إلى أحد ولاته، وكان من أقاربه، وكان قد أخذ مالاً من المنطقة التي هو والٍ عليها، من المال العام، وذهب به إلى بلده، فكيف تخاطب معه؟ وكيف كان تعامله معه بعد ذلك؟ كيف موقفه من الفساد المالي، وشدته في ذلك؟
يقول “عَلَيْهِ السَّلَامُ”: ((أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي، وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَكُنْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِي، لِمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ إِلَيَّ))، يقول: كنت أثق بك، وأعتمد عليك، أنك ستكون عوناً لي في أداء هذه المسؤولية، ((فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ، وَالعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ، وَأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ، وَهَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ فُتِنَتْ، وَشَغَرَتْ، قَلَبْتَ لِابْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ المِجَنِّ، فَفَارَقْتَهُ مَعَ المُفَارِقِينَ، وَخَذَلْتَهُ مَعَ الخَاذِلِينَ، وَخُنْتَهُ مَعَ الخَائِنِينَ، فَلَا ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ، وَلَا الأَمَانَةَ أَدَّيتَ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنِ اللهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَكَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هَذِهِ الأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَتَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ! فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الأُمَّةِ، أَسْرَعْتَ الكَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الوَثْبَةَ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ المَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الأَزَلِّ، دَامِيَةَ المِعْزَى الكَسِيرَةَ، فَحَمَلْتَهُ إِلَى الحِجَازِ، رَحِيبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ، غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ، كَأَنَّكَ لَا أَباً لِغَيْرِكَ حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَسُبْحَانَ اللهِ! أَمَا تُؤْمِنُ بِالمَعَادِ؟ أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الحِسَابِ؟!، أَيُّهَا المَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِي الأَلْبَابَ، كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأكُلُ حَرَاماً، وَتَشْرَبُ حَرَاماً، وَتَبْتَاعُ الإِمَاءَ، وَتَنْكِحُ النِّسَاءَ، مِنْ أَمْوَالِ اليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ، وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُجَاهِدِينَ، الَّذِينَ أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأَمْوَالَ، وَأَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ البِلَادَ! فَاتَّقِ اللهَ، وَارْدُدْ إِلَى هَؤُلَاءِ القَوْمِ أَمْوَالَهُمْ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ، ثُمَ أَمْكَنَنِي اللهُ مِنْكَ، لَأُعْذِرَنَّ إِلَى اللهِ فِيكَ، وَلَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحْداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ! وَوَاللهِ لَوْ أَنَّ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ، وَلَا ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَة، حَتَّى آخُذَ الحَقَّ مِنْهُمَا، وَأُزِيحَ البَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا، وَأُقْسِمُ بِاللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ لِي أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي، فَصَحِّ رُوَيْداً، فَكَأَنَّكَ))– وفي بعض الكتب: ((فَضَحّ رُوَيْداً))– ((فَكَأَنَّكَ قَدْ بَلَغتَ المَدَى، وُدُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى، وَعُرِضَتْ عَلِيكَ أَعْمَالُكَ بِالمَحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيْهِ بِالحَسْرَةِ، وَيَتَمَنَّى المُضَيِّعُ فِيْهِ الرَّجْعَةَ))، يعني: الرجعة إلى الدنيا، ((وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ! وَالسَّلَامُ)).
بعد هذه الرسالة، وهذا التحذير، وهذا التذكير، أُعيد ذلك المال، فكتب رسالةً أخرى إلى قريبه ذلك، يقول له فيها: ((أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ المَرْءَ لَيَفْرَحُ بِالشَّيءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ، وَيَحْزَنُ عَلَى الشَّيءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، فَلَا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ، بُلُوْغِ لَذَّةٍ، أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ، وَلَكِن إِطْفَاءُ بَاطِلٍ، أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ))، يعني: ليكن هذا أهم عندك من كل شيء في هذه الدنيا، أهم من أن تبلغ أي لذة، أو شفاء أي غيظ، ((إِطْفَاءُ بَاطِلٍ، أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ، وَلْيَكُنْ سُرُورِكَ بِمَا قَدَّمْتَ، وَأَسَفُكَ عَلَى مَا خَلَّفْتَ، وَهَمُّكَ فِيْمَا بَعْدَ المَوتِ)).
نجد أيضاً في نموذجٍ آخر، نموذج أيضاً راقٍ، ومؤثر، ومفيد، في كتابٍ له “عَلَيْهِ السَّلَامُ” إلى عثمان بن حُنَيف الأنصاري، من الأنصار، وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دُعِيَ إلى وليمة قومٍ من أهلها، من أهل البصرة، وليمة الطعام استضافوه فيها، فمضى إليها، أمير المؤمنين “عَلَيْهِ السَّلَامُ” كان لديه جهاز رقابي سرِّي، يبلِّغه عن أحوال الولاة؛ ولذلك وصل إليه الخبر بقصة عثمان بن حُنَيف عندما استُضِيف إلى وليمة طعام، فمضى إليها، فكتب له أمير المؤمنين “عَلَيْهِ السَّلَامُ” هذه الرسالة يقول فيها: ((أَمَّا بَعْدُ، يَابْنَ حُنَيْف، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأْدُبَة، فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا))، يعلِّق عليه أنه أسرع في الاستجابة إلى تلك الضيافة، ((تُسْتَطَابُ لَكَ الأَلْوَانُ))، يعني: من الطعام، ((وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ))، يعني قال: لم أكن أتوقع منك أن تستجيب للاستضافة عند ناس هذا هو حالهم: يستضيفون الأغنياء، ويتركون الفقراء، لا يستضيفونهم، ولا يهتمون بهم، ((فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هذَ الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ)): اتركه وانبذه، ((وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ))، يعني: لا تقبل شيئاً إلَّا وأنت على يقين من طيب وجهه، أنه ليس من حرام، وليس فيه شبهة.
((أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى))، يعني: أمير المؤمنين علي “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، ((قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ))، يعني: الثوبين الباليين، ((وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلَا وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ))؛ لأن المستوى الذي قدَّمه أمير المؤمنين “عَلَيْهِ السَّلَامُ” في موقع المسؤولية من تقشفه، وزهده، هو مستوى يفوق تحمل أي إنسان آخر، مستوى عالٍ جداً، فقال: ((أَلَا وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُوني بِوَرَعٍ وَاجْتِهَاد، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ))، فهذا هو المطلوب، المطلوب من كل من يقتدي بأمير المؤمنين، من ينتمي إلى هذه المدرسة، من يعتبر نفسه من الموالين لأمير المؤمنين عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، فليلتزم بهذا: ((أَعِينُوني بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ))، ورع: ترك للمحرمات، وكل ما فيه شبهة أيضاً، وحذر من ذلك، نزاهة صادقة، ((وَاجْتِهَادٍ)): بذل الجهد في الاستقامة والالتزام، وتجنب للمحرمات، والورع من الحرام، ((وَعِفَّةٍ وَسَدَاد، فَوَاللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، وَلَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً. بَلَى! كَانَتْ في أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّماءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ))، يعني: أخذوها وصادروها، ((وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قومٍ آخَرِينَ، وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ. وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَك))، فَدَك: كانت مجموعة قرى فيها مزارع كثيرة، كان رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” قد أعطى فاطمة الزهراء، أُخِذَت فيما بعد عليها، ((وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَغَيْرِ فَدَك، وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ))، يعني: القبر، ((تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا، وَتَغِيبُ أَخْبَارُهَا، وَحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا، وَأَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا، لاَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ، وَسَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ، وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ، أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي))، يعني: يوم القيامة يوم الخوف، ((أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: هذا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ! فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا))، يعني: ليس لها همّ إلَّا ما تأكله، حال بعض الناس، كل همه من هذه الحياة ما يأكله، ما يأخذه، ((تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا)): البهيمة همها أن تأكل، وأن تكترش، ولا تدرك ما هي عاقبتها، وأنها معدة للذبح والأكل، ((أَوْ أُتْرَكَ سُدىً، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ))، يعني: أنا أُنزِّه نفسي وأُبعد نفسي عن كل ذلك، ((وَكَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ: إِذَا كَانَ هذَا قُوتُ ابْنِ أَبِي طَالِب، فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الأَقْرَانِ، وَمُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً، وَالْرَّوَاتعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً، وَالنَّابِتَاتِ العِديَةَ أَقْوَى وَقُوداً، وَأَبْطَأُ خُمُوداً، وَأَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ كَالضوء مِنَ الضوء، وَالذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ. وَاللهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي، لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا، وَلَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا، لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا، وسَأَجْهَد فِي أَنْ أُطَهِّرَ الأَرضَ مِنْ هذَا الشَّخْصِ الْمَعْكُوسِ، وَالْجِسْمِ الْمَرْكُوسِ، حَتَّى تَخْرُجَ الْمَدَرَةُ مِنْ بَيْنِ حَبِّ الْحَصِيدِ، إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا))، ليس متَّجهاً اتِّجاه الأطماع، حال الكثير من الناس، إذا كان في موقع مسؤولية، إذا كان في منصب، همه وحساباته مادية: مصالح، ومكاسب، وأطماع، ((إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا، فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ، وَأَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ، وَاجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ))، يعني: المزالق، ((أَيْنَ الْقُرُونُ الَّذِينَ غَرَرْتِهِمْ بَمَدَاعِبِكَ؟! أَيْنَ الأمَمُ الَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِكِ؟! فهَاهُمْ رَهَائِنُ الْقُبُورِ، وَمَضَامِينُ اللُّحُودِ. وَاللهِ لَوْ كُنْتِ شَخْصاً مَرْئِيّاً، وَقَالَباً حِسِّيّاً، لأقَمْتُ عَلَيْكِ حُدُودَ اللهِ فِي عِبَادٍ غَرَرْتِهِمْ بِالأمَانِي، وَأُمَمٍ أَلْقَيْتِهِمْ فِي الْمَهَاوِي، وَمُلُوكٍ أَسْلَمْتِهِمْ إِلَى التَّلَفِ، وَأَوْرَدْتِهِمْ مَوَارِدَ الْبَلاَءِ، إِذْ لاَ وِرْدَ وَلَا صَدَرَ! هَيْهَاتَ! مَنْ وَطِىءَ دَحْضَكِ زَلِقَ، وَمَنْ رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ، وَمَنِ ازْوَرَّ عَنْ حَبَائِلِكِ وُفِّقَ، وَالسَّالِمُ مِنْكِ لاَيُبَالِي إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ))، السالم من فتنة هذه الدنيا، من أطماعها، من محرماتها، من أن تنزلق به الأهواء والرغبات إلى المحرمات، حتى لو كان هناك معاناة في واقعه لا يبالي؛ لأنَّ عاقبة ذلك الفوز بما وعد الله، ((وَالدُّنْيَا عِنْدَهُ كَيَوْم حَانَ انْسِلاَخُهُ. اعْزُبِي عَنِّي! فَوَاللهِ لاَ أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي، وَلَا أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي، وَايْمُ اللهِ- يَمِيناً أسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ- لأرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهشُّ مَعَها إِلَى الْقُرْصِ إِذَا قَدَرتْ عَلَيْهِ مَطْعُوماً، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً، وَلأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا، مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا، أَتَمْتَلِىءُ السَّائِمَةُ)): البقرة أو من كان من المواشي، بقرة أو إبل، تمتلئ ((مِنْ رِعْيِهَا فَتَبْرُكَ؟ وَتَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ؟ وَيَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَعَ؟ قَرَّتْ إِذاً عَيْنُهُ إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ، وَالسَّائِمَةِ الْمَرْعِيَّةِ! طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا، وَعَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا، وَهَجَرَتْ فِي اللَّيْلِ غُمْضَهَا، حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْكَرَى عَلَيْهَا))، يعني: النوم، ((افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا، وَتَوَسَّدَتْ كَفَّهَا، فِي مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ، تَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ، وَهَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِم شِفَاهُهُمْ، وَتَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِم ذُنُوبُهُمْ، {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، فَاتَّقِ اللهَ يَابْنَ حُنَيْف، وَلْتَكْفِكَ أَقْرَاصُكَ، لِيَكُونَ مِنْ النَّارِ خَلاَصُكَ)).
هذه نماذج كالقطرة من المطرة، ما أوسع ما كان هناك من رسائله، من مواقفه، من إجراءاته، من أعماله، التي جسَّدت معالم العدل، وقيم الإسلام، ومبادئ الإسلام على أرقى مستوى، وهي مدرسة، من واجب كلِّ من ينتمي إلى هذه المدرسة، أن يسعى إلى الاقتداء، إلى الاتِّباع، إلى التولي العملي، أن يكون متولياً تولياً ثمرته: التزام، اتِّباع، اقتداء، اهتداء، كمسلم، ومن كان في موقع المسؤولية.
كأمة نسعى للخلاص من ولاية الطاغوت، نقف في موقف التحدي والمواجهة لأولياء الشيطان، نحن معنيون بترسيخ هذه المبادئ، هذه القيم، أن يكون هذا الانتماء انتماءً صادقاً عملياً، ثمرته النصر من الله، والغلبة، والتأييد، لنكون- فعلاً- متولين لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في إطار امتداد هذه الولاية، التي هي ولايةٌ تخرجنا من الظلمات إلى النور.
أَنَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيه عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛