كاتب ومحلل وسياسي فلسطيني يكتب عن : المعادلات التي تفرضها جبهة اليمن في طوفان الأقصى
الأزمة الناتجة من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تجاوزت حدود الجغرافيا مع “إسرائيل”، وأصبح عنوانها الأساسي هو الامتداد الدولي في ملامح نشوب أزمة أميركية مع اليمن بفعل موقعها الاستراتيجي.
شكَّلت جبهة اليمن المشاركة في معركة طوفان الأقصى، ومنذ إعلان رئيس أنصار الله عبد الملك الحوثي رفض اليمن المطلق كل أشكال العدوان الإسرائيلي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، مرتكزاً مهماً في معادلة المواجهة الدائرة التي عبر فيها الجيش اليمني وقواته المسلحة عن مشاركة فاعلة في إطلاق سلسلة من العمليات العسكرية في البحر الأحمر، وتحديداً في مضيق باب المندب، ضد السفن وقوافل الشحن المتجهة إلى “إسرائيل”، والقيام باحتجازها والسيطرة عليها، والمطالبة بوقف شامل وكامل للعدوان الإسرائيلي في مقابل وقف هذا النوع من العمليات الذي أحدث تداعيات كبيرة على “إسرائيل” من جهة، وعلى الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، ما جعل هذا النوع من هذه العمليات يشكل معضلة أمنية أمام أميركا ووضعها أمام خيارات صعبة مع تصاعد موجات الضربات وعمليات الاحتجاز.
وفقاً لمجلة “الإيكونوميست”، فقد علّقت شركات”CMA CGM, Hapag-Lloyd, Maersk,MSC” ، وهي أكبر 4 شركات في النقل البحري، خدماتها في منطقة البحر الأحمر بعد الهجمات التي شنتها القوات البحرية في اليمن.
وتشير المجلة إلى أن هذه الشركات تنقل ما يقارب 53% من الحاويات البحرية في العالم، ويمر من باب المندب ما يقارب 12% من التجارة العالمية من حيث الحجم، و30% من حركة الحاويات العالمية.
نجح اليمن في توظيف موقعه الاستراتيجي كقوة في التوازنات العالمية وفرض نفسه كجزء مهم في معادلة المواجهة الدائرة والتعبير بصورة من أشجع صور الدعم والإسناد والنصرة للشعب الفلسطيني الذي يتعرَّض لحرب إبادة وتطهير عرقي من آلة الحرب الإسرائيلية، وشكل خطوة مؤثرة، وأحدث تغييراً في المعادلة وورقة ضغط كبيرة على “إسرائيل” وأميركا في آن واحد.
”إسرائيل” بعد السابع من أكتوبر، وبعدما ورطت أميركا في حرب وحشية على قطاع غزة، وحصلت منها على غطاء دولي، وجلبت دعماً عسكرياً لقتل الشعب الفلسطيني، ستجرها إلى حرب من نوع آخر، لكن هذه الحرب ستكون كلفتها عالية عليها، فقد أصبح الاقتصاد العالمي بفعل ضربات قوات البحرية اليمنية مهدداً بأزمة كبيرة، وهذا يعكس بشكل صريح أهمية باب المندب كموقع استراتيجي وممر لحركة التجارة في المنطقة، ومدى تأثير إغلاقه واحتجاز السفن الإسرائيلية أو السفن المتوجهة إلى “إسرائيل” سيكون أكبر.
اليمن بموقعه يشكل محور ارتكاز في المعادلة الجيوسياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي من جهة، ومفتاحاً أساسياً في تفكيك مسار التصعيد في المنطقة أو التأثير في معادلاته، سواء في الحروب أو في تداول الحلول لإعادة الاستقرار، من جهة أخرى.
المعادلة الأخلاقية والإنسانية التي طرحتها جماعة أنصار الله في اليمن، ومن بعدها الناطق باسم القوات المسلحة اليمنية اللواء يحيى سريع، بوقف العمليات ضد حركة السفن في مضيق باب المندب في مقابل وقف الحرب والعدوان على الشعب الفلسطيني وفتح المعابر وإدخال المساعدات هي معادلة واضحة لا يوجد تفسير كثير فيها ولا تأويل، بل فيها من اختصار الوقت والجهد الكثير، والاستجابة إليها ستوفر كل الأزمات التي يمكن أن تنتج منها مع دول كبرى في المنطقة من جانب، وعلى حركة الاقتصاد العالمي الذي يعاني بالأساس أزمة سابقة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية من جانب آخر.
لكن أمام استمرار تجاهل هذه المطالب، مع توفير الغطاء والدعم لاستمرار الحرب على قطاع غزة، سيسقط القناع الأميركي والغربي الذي لطالما كان ينادي بضرورة حماية المدنيين وحقوق الإنسان، إذ تقف أميركا وكل حلفائها موقف المتفرج أمام قتل وحصار أكثر من 2 مليون فلسطيني من المدنيين الفلسطينيين الأبرياء الذين يعيشون الحصار والعدوان معاً.
في ظل استمرار معاناة الشعب الفلسطيني، وأمام جرائم القتل والإبادة الجماعية التي يتعرض لها، تسقط كل شعارات العدالة وحقوق الإنسان، ومعها كل الشعارات الأخلاقية والإنسانية التي تتغنى بها أميركا ودول الغرب التي تكيل الأمور بمكيالين، في وقت تستطيع الإدارة الأمريكية الكف عن تعطيل قرارات أممية تطالب بوقف إطلاق النار وإلزام “إسرائيل” بوقف الحرب والكف عن قتل الفلسطينيين واستهدافهم في قطاع غزة.
الأزمة الناتجة من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تجاوزت حدود الجغرافيا مع “إسرائيل”، وأصبح عنوانها الأساسي هو الامتداد الدولي في ملامح نشوب أزمة أميركية مع اليمن بفعل موقعها الاستراتيجي بالغ الأهمية على البحر الأحمر وسيطرة اليمن على باب المندب الذي يربط خليج البحر الأحمر بالمحيط الهندي، وموقفها الرافض من العدوان الإسرائيلي على غزة، إذ إن عمليات القوات البحرية اليمنية في باب المندب وما شكلته من شل حركة السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى “إسرائيل” خلقت مشكلة معقدة مع الإدارة الأميركية يصعب حلها من دون الاستجابة لمطالب اليمن، وهذا يعود لأسباب رئيسية ذات أهمية:
الأول: يحتل مضيق باب المندب الذي تمر منه السفن التجارية موقعاً مهماً على صعيد حركة التجارة العالمية لا يمكن الاستغناء عنه في أي حال من الأحوال.
الثاني: عدم قدرة الإدارة الأميركية على فرض عقوبات أو اتخاذ قرارات ضد جماعة أنصار الله في اليمن رداً على موقفها الرافض والصارم من شن حرب إسرائيلية على غزة، وتفعيلها جبهة مهمة لدعم ونصرة فلسطين، وذلك يعود إلى سبب مهم يتمثل في أن الجماعة ليست جزءاً من نظام دولي تسيطر وتتحكم فيه أميركا والغرب، ما يمكنها من استخدام أوراق ضغط ضدها. لذلك، تبدو كل أوراق الضغط الاقتصادي والمالي والعسكري الأميركية مع جماعة أنصار الله غير مجدية البتة.
الثالث: الصبغة المتعارفة لدى الشعب اليمني أنه شعب صنديد مقاتل، متجذر في أرضه، معتز بعروبته، يرفض الظلم على نفسه، ويرفضه على شعوب المنطقة. ولفلسطين مكانة خاصة في قلوب اليمنيين، فهو عنيد يصر على حقوقه ومطالبه، وأي دولة تحاول استخدام القوة العسكرية ضده سيكون مصيرها الهزيمة والفشل. هذا ما تخبرنا به كل التجارب التي مرت من قبل.
ثمة تداعيات خطيرة ستكون بانتظار أميركا ودول المنطقة من جراء استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتصاعد وتيرة عمليات القوات المسلحة اليمنية، واستهداف السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية في البحرين العربي والأحمر، ستكون وطأتها أشد على “إسرائيل” وأميركا من جبهات مشتعلة منذ 70 يوماً، كما في غزة ولبنان، لكن الفارق أن الكلفة هذه المرة ستضرب الاقتصاد العالمي.
تثبت الأحداث والوقائع الجارية مرة تلو مرة، وفي خضم الحديث عن موقف اليمن الداعم للشعب الفلسطيني، أن الأمة العربية تمتلك من أوراق القوة ما يجعل “إسرائيل” وأميركا تعيدان حساباتهما، وتكفان عن الاستفراد بشعب أعزل في قطاع غزة، وتوقفان مسلسل الجرائم والتهجير بحق الأطفال والنساء والشيوخ، وبحق الإنسانية جمعاء، فالقاعدة الثابتة تجاه المشهد القائم هي أن مصالح “إسرائيل” وحلفائها التجارية والاقتصادية لا يجب أن تبقى في مأمن، وأن ثمة أوراقاً يمكن التلويح والضغط بها يمكن أن تفرض معادلات تتجاوز لغة الإدانة والتصريحات الإعلامية.
أهمّ النتائج التي تجلَّت بعد شن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة هو أنها أثبتت حقيقة دامغة بالغة الأهمية وجب التركيز عليها، بأن قوى فاعلة ومؤثرة ذات تأثير سياسي وعسكري كانت قد بدأت في التشكل منذ عقود، لكنها تعززت وتعزز دورها أكثر بعد معركة طوفان الأقصى على حساب دول رسمية في المنطقة، وهذا يعكس حال العجز العربي الرسمي التي تعيشها المنطقة العربية برمتها.