كاتب فلسطيني :زمان الاستفراد قد ولى.. اليمن يصنع تاريخ العرب الجديد.. والسنوار يرسل تحياته إلى سوليفان الضئيل في القدس

 

ضمن برنامج العدوان على الشعب الفلسطيني يطل علينا بالأمس المستر جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي ذو الوجه الميت  ليوزع حلوى  الخطة الأمريكية الجديدة في التعاطي مع المقاومة ويشرح لنا كيف أن أمريكا تريد قتل الأبرياء ولكن مع بعض التعاطف .

 تقترن هذه التصريحات السامة مع  بداية موسم الأمطار وتصاعد حدة الإغلاق على المساعدات من معبر رفح ، التقارير الصحافية والإخبارية القادمة من داخل غزة تقدم  حالة  مروعة من المعاناة والضنك المعيشي للمواطنين الفلسطينيين داخل القطاع ، وإذا أضفنا إلى كل ذلك استمرار الحملة الإجرامية غير المتوقفة  فنحن بصدد الإصابة بأعراض الذبول والانكماش من فداحة العجز والهوان العربي وخذلان المتآمرين ، حيال هذه الجرعات من التحطيم المعنوي يصطدم المتفرج العربي بخيار من إثنين : إما الاستسلام والرثاء والبكاء على هذه الحالة المزرية  أو الوقوف ضد هذه الجريمة ومحاولة صدها بالكلمة والعقل والعمل ، وحيال الشق الثاني أصبحت ثنائية  مقاطع الفيديو التي تبثها المقاومة الفلسطينية لاصطياد جنود وآليات العدو وكذلك مفاجأة اليمن البطولية  وجبة أساسية في مائدة الروح ومحراب الصلاة ، وتحولت إلى الوجه المكافىء الذي يرد على الجريمة ويعدل ميزان الهزيمة المدنية والتخاذل العربي .

في هذه الأثناء ومنذ فترة  يتم تسخين مؤامرة سياسية -دبلوماسية كبيرة الحجم تتخذ عنوانا أساسيا اسمه (ما بعد غزة) والتي زادت أهمية بعد تصريحات الثعبان سوليفان ، في وحل هذا المصطلح تلقى تصريحات ومقترحات وفرضيات سرعان ما  يتم غرسها في وعي المشاهد ، الحلول المقترحة (لما بعد غزة ) تمثل بوفيها من أطباق وجبات السم الأمريكية الصهيونية ومنها مثلا التلويح بورقة التهجير إلى سيناء أو محطات دولية وعربية ، فرضية إدخال قوة دولية لإدارة غزة مؤلفة من تحزب عربي – غربي ، فرضيات أكثر غرابة تستدعي جلب ذخائر خيانية مخزنة ، تنظير أمريكي باستصلاح الماكينة الصدأة للسلطة الفلسطينية وإعادة تجديد موتور العمالة للحرث عليه في دورة جديدة من النيابة عن العدو ،إنهاء قوة حماس بإغراق الأنفاق ومنشورات تعرض مكافآت على رأس السنوار والضيف وغير ذلك من التصريحات الخصبة والعديدة والتي جميعها تشترك في طي صفحة المقاومة إلى الأبد  .

حملة المارشملو الدعائية الأمريكية حول ( ما بعد غزة )  التي لا تتمتع بأي شكل ثابت أو طعم محدد  مصممة لتضليل ذوق وعقل المشاهد العربي فابتلاعها ومحاولة مضغها تقود إلى غايات محددة  ، فهي تهدف أولا وقبل كل شيء إلى الايحاء بالقوة والغطرسة والتأكيد أن اليد العليا هي للمستعمر الأمريكي وأنه هو من يقرر المستقبل ومن سيبقى ومن سيفنى ، الغرض الثاني هو استمرار التكسير المعنوي للروح العربية في كل مكان بسحب الأمل منها سلفا  ، والثالث هو رسائل للعبيد والحلفاء المحيطين بأننا أقوياء والأوراق لا تزال بأيدينا ، الشيء الفوقي أن هذه الأداة الدعائية  تعكس مستوى آخر من فشل معالجة الموضوع ورؤية الحل الصحيح الغائب عن العقلية الاستعمارية.

إن هذا الحديث عن (ما بعد غزة ) وهذه النغمة النشاز تترابط بخيوط ممتدة بعيدة ومتشعبة أكبر من كل الصغار وليس من السهل التسليم بجزئية صغيرة في ظل تفاصيل أكبر ، واختصارا لطول الشرح سوف أوجز حديثي في الحزمة الاتية  من النقاط ذات الصلة والتي أتمنى فهمها جيدا:

-إن مبدا الاستفراد بالفريسة قد ولى زمانه في شعوب العرب ، لم يعد الوضع كما في عشرية التسعينات وعشرية الحادي عشر من أيلول ، لقد نجح مبدأ الاستفراد بالفتك بالعراق ونجح  مرحليا في سوريا وأفغانستان ولبنان ونجح في كل الحروب السابقة على غزة ومدن الضفة لكن قراءات اليوم تؤكد أن المعطيات ليست كما في السابق ، إن الاستفراد بالعرب كان يتطلب تحييد أية قوى عربية أو عالمية محتملة لمساعدتهم مثل روسيا والصين  وايران ، فشل هذا التحييد  هو ما تسبب مثلا في الحفاظ على سوريا وحدة واحدة لأن مبدأ الاستفراد لم ينجح تماما وتمكنت سوريا من الحفاظ على وحدة أراضيها رغما عن كل الصعاب ، كادت هذه اللعبة أن تنجح في اليمن أيضا لكن إخلاص وحنكة أبناء اليمن المقاتلين مكن من اسقاط المؤامرة وعقد التحالفات الصحيحة، هذا الكلام ينطبق أيضا على وضع غزة اليوم ، وبالتالي فـ (ما بعد غزة ) لم يعد بيد الأمريكان والصهاينة لوحدهم .

-إن الضربات التي لا تقتلك تزيدك قوة و ذكاءا أكثر تكيفا ، هذا ما حصل مع حركات المقاومة الفلسطينية ولا داعي لأن أعدد لكم عدد المؤتمرات والمخططات التي وضعت سابقا لمسح وإزالة حماس ثم حزب الله أو جماعة انصار الله في اليمن ، كل هذه المحاولات البائسة تسببت في خلق مقاوم أشد صلابة واكثر دراية بطرق البقاء في غابات هذا العالم ، لا يوجد دليل أقوى مما نشاهده اليوم في اليمن وغزة ولبنان ، لقد قدم اليمن النموذج العربي الحقيقي نائبا عن كل الذين خذلوا غزة ونائبا عن الدولة العربية الحقيقية شعبا وقيادة على الرغم من كل مصابه ولا زال يفاجئنا كل يوم.

– إن من يفترض بأن ( ما بعد غزة )  سيكون بتحييد وتسطيح وجودية حماس والمقاومة الفلسطينية فهو لا يعرف شيئا لا في السياسة ولا التاريخ ولا يتقن لعبة فتح فنجان القهوة الفلسطيني والعربي ، إن مخطط التهجير مولود عقيم وميت قبل ولادته ليس لأن بعض الدول العربية تعارض ذلك  ، بل لأن العقل الاستعماري الذي يلعب بحجارة الشطرنج في المنطقة يفكر جيدا فيما يترتب على تحريكه لقطعة الجندي والحصان والقلعة ويعلم بأن أية حركة غير واعية  مهما بدت قوية أومغرية قد تتسبب في وقوعه في  العديد من الشراك  ، إن تحريك حجر (التهجير ) خطوة مجهولة العواقب وخطرة تماما على أمان المستعمرة الأمريكية في فلسطين  بل حتى على الحلفاء والمستعمرات العربية وقد تكسر مبدأ الاستفراد الذي ظل فاعلا وناجحا لفترة طويلة من الزمان وتجلب لاعبين غير محسوب حسابهم .

– ضمن لعبة الاستفراد  كانت ألاعيب (السني -الشيعي ) ، (المسلم -المسيحي ) ، تمثل استثمارا سريع الربح وسريع القطاف حيثما تم رمي بذارها ، هذه اللعبة لا تزال تُلعب جيدا ضد اليمن وضد لبنان وضد المقاومة الفلسطينية تحت دعاية ترويجية تبدو مريحة ومقنعة عنوانها أن هؤلاء (أذرع ايران في الداخل العربي ) ، إن تبني مثل هذه العبارة بحد ذاته يحول صاحب الفكرة إلى جندي أو مراسل (لجيش الدفاع الإسرائيلي ) فورا بعلمه او  دون علمه ، إنه بذلك يلغي ويختصر كرامة العربي اليمني واللبناني والفلسطيني والسوري ويحوله إلى شكل من أشكال العبودية والتبعية غير الصحيحة وغير الممكنة ، إن من يتابع ويقرأ و يستمع لكلمات الصحافيين والمفكرين والقادة اليمنيين واللبنانيين والفلسطينيين لا يسعه إلا القول بأن هذه الشعوب قيادية بالفطرة وتملأ الأرض عزة وكرامة ، إن تشكيل التحالفات شيء والتبعية شيء آخر مختلف تماما وهذه الفكرة بالذات هي جزء من لعبة الاستفراد بغزة .

– إن من يتقبلون الحلول الصغيرة ويعتقدون بأنها تمثل معاملات الأمان وديمومة السلام للشعوب ومنطقة الشرق الوسط هم أيضا جزء من نفس الفريق الذي يعيش في الماضي ، إن أحداث فلسطين /غزة والمعركة الدموية التي تجري فيها ليست شيئا بعيدا ولا معزولا عن الصراع الإقليمي بين المستعمر الأمريكي وذراعه الصهيوني مع الجمهورية الإيرانية ، إن ايران مستهدفة ومطلوب رأسها منذ انطلاق الثورة الإسلامية فيها ولكنهم لم يتمكنوا منها ولم يزيدوها إلا قوة من خلال سلسلة طويلة من المؤامرات والمحاولات الفاشلة لزعزعة وجودها والاطاحة بنهجها ، إن الصراع في المنطقة ليس بعيدا أبدا عن طلب رأس بوتين وروسيا ، وهو ليس بعيدا أبدا عن المخططات المبيتة والقادمة للنيل من الصين وكوريا الشمالية ، إن هذا العالم كرة متشابكة من المشاكل والصراعات التي اعتقدت الولايات المتحدة أنها بإبقائها لهذه الصراعات والتصادمات دائرة وفاعلة ستحقق مكاسب رأسمالية وسياسية هائلة وضامنة للمستقبل لكنها نسيت تأثير الفراشة العالمي وولدت من حيث لا تحتسب أعداء ومخاطر تهدد عظمتها وقيادتها لهذا العالم بأكبر مما حققت من مكاسب ، ترفض الولايات المتحدة أن تفهم أو ترى بان الحل يكمن في منح هذا العالم حقوقه والتخلي عن عقلية الكاوبوي اللص الذي يريد بمسدسه أن يربح النزال ويسرق الأرض والماشية ويقتل كل ما عدا ذلك.

– كل الدعايات السياسية السامة التي تستهدف وعي المواطن العربي بالمطلق حول مصير غزة بعد ( الإطاحة بحماس والمقاومة ) هي جزء من أسطول الطائرات والدبابات التي تقصف وعيكم وفهمكم ، الشي الوحيد المرتبك والهزيل والمرتجف في هذه المعركة  هو هذه الإدارة الأمريكية التي تلعب بمكر الثعلب وضعف العجوز ، الشيء الذي فشل ولا يعرف ماذا سيفعل هو المجرم نتانياهو وعصابته لأن ما بعد الحرب يرعبه ويسبب له الكوابيس ، الشيء الذي أصيب بارتباك واضطراب وسوء هضم هو كارتيل العصابة أو النظام العالمي الجديد الذي وضع خططه جيدا لافتراس الأرض والعالم ومن فيه ، الشيء الوحيد الثابت والمتين هو أن المقاومة الفلسطينية بخير وبقوة وبعزة ورفعة  ولذلك أرسل السنوار بالأمس تحياته لمستر سوليفان في القدس وأكد له أنه بقربه تماما ، الشيء الثابت الآخر أن محور المقاومة العربي قوي ومتين وقراره لا يزال يلعب في وحدة  وصالح ومستقبل شعوب العرب وربما شعوب العالم .

-إن إزالة المقاومة الفلسطينية فكرة سرابية أصبحت خارج حدود الواقع لأن هذه المقاومة تحولت إلى فكرة أقوى من دولة ولا تحتاج أرضا ، والدولة في ضمير الوجود هي مصدر للقوة الوجودية  المتجددة والتي تستخدم للدفاع عن ذاتها ، مصدر للقوة الروحية التي منحتها لكل شعوب العرب وحتى العالم في الوقت الذي فشلت فيه أية دولة عربية عن منح مثل هذا الشعور لمواطنيها بكل السبل ، مصدر للقوة الذاتية بالعلم والتصنيع وحسن الإدارة وحسن التخطيط والتنفيذ وتحقيق النجاحات تلو النجاحات ، مصدر للقوة الأخلاقية والشرعية صاحبة الحق الذي يستحيل أن تتم إزالته ، لقد مكنت المقاومة الفلسطينية من إعادتنا للحياة ومكنننا اليمن من الشعور بالعروبة مرة جديدة .

– أن الطرح المراوغ تحت عنوان  ( ما بعد غزة أو حماس  ) إنما هو منشور إسرائيلي يستهدف عقولنا جميعا ، هذا المنشور يمكن محوه بطرح الأسئلة الصحيحة : كيف ستتصرف العصابة العالمية حيال هذا الانتصار للمقاومة وصعود حركة أنصار الله من فوق رماد اليمن وتحديهم للعربدة الأمريكية ؟ ما هو مصير هذا الكيان الذي فقد كل معززات بقائه الاصطناعية ؟ ما هو مصير مشاريع التطبيع التي كانت ستضع خاتمة القضية الفلسطينية والعراقية والسورية واللبنانية واليمنية  ؟ ما هو مصير الاستعمار الأمريكي الذي أثبت حقيقة جرائمه أمام العالم أجمع وبدأت معالم التململ منه تملأ شعوب ودول العالم ؟ ما مصير الأنظمة العربية المتعاونة أو المكتوفة الأيدي بعد هذه الهزيمة ؟ من الذي يرتعد خوفا من القادم ؟ هل هي المقاومة أم حلف الأحزاب بكل أطيافه ؟ ما الرسائل التي حملتها تظاهرة ميدان السبعين في اليمن والتي خرج فيها هذا الشعب بالملايين ؟

ما الرسائل التي يحملها جيش الأطفال الملائكة الدين قتلتموهم ويحلقون الان في السماء؟

أنتم الزائلون ونحن الباقون !

 

راي اليوم

خالد شحـام

كاتب عربي فلسطيني

قد يعجبك ايضا