قصائد درويش جرس يذكّر بمآسي العرب
الحقيقة/كامل جميل
في ذكرى ولادته، تحطّ أشعار محمود درويش على شرفات المنازل، وبقايا المدن، وما خلّفت الحروب من هياكل؛ فهو الذي نادى بصوتٍ باكٍ يقول: “قصبٌ هياكلنا وعروشنا قصبُ.. في كل مئذنة حاوٍ ومغتصبُ.. يدعو لأندلس إن حوصرت حلبُ”.
ذلك درويش، الشاعر المعتَّق بحب الأرض، الذي ما سكتت جمله الشعرية تردد صداها الألسن، وتسمو بالعاشقين إلى الجمال، والحياة، رافعة إياهم إلى عشق تراب الوطن.
وهو من جلب في أشعاره صوراً لا حصر لها، كما النحلة يتنقل بين مشهد ومشهد، يأخذ ما يريد وينتج قصائد كانت في بعضها كالسلاح الفتاك، وفي بعض آخر وردة فواحة تبعث على الحب والأمل.
فهو العاشق القائل: “نحن الضحية التي جربت فيها كل أنواع القتل.. حتى أحدث الأسلحة.. لكننا الأعجوبة التي لا تموت ولا تستطيع أن تموت”.
وهو المشير إلى ثقل همه الوطني بتعابير دقيقة، من بينها قوله: “آه يا جرحي المكابر، وطني ليس حقيبةً وأنا لست مسافراً.. إنني العاشق والأرض حبيبة”.
في مثل هذا اليوم، 13 مارس/آذار 1941، ولد محمود درويش، في قرية البروة الفلسطينية، الواقعة في الجليل شرق مدينة عكا الساحلية، وبعد حرب 1947 احتلت “إسرائيل” جزءاً من فلسطين، وشرّدت أهلها إلى البلدان المجاورة، فوجد محمود درويش نفسه في قرية داخل جنوب لبنان مع عشرات الآلاف من أهله اللاجئين الفلسطينين، وكان عمره لم يتجاوز السادسة.
يقول في قصيدة له عن أرضه وبلده: “أنا من هناك ولي ذكريات.. ولدت كما تولد الناس.. لي والدة وبيت كثير النوافذ.. لي إخوة.. أصدقاء.. وسجن بنافذة بارده.. ولي موجة خطفتها النوارس.. لي مشهدي الخاص.. لي عشبة زائده.. ولي قمر في أقاصي الكلام، ورزق الطيور، وزيتونة خالده.. مررت على الأرض قبل مرور السيوف على جسد حوّلوه إلى مائده”.
كان الاعتقاد لدى اللاجئين بأن عودتهم إلى ديارهم قريبة، إلا أن عائلة محمود درويش فهمت أن ذلك سيكون طويلاً فعادت إلى قريتها، لكنهم وجدوا قريتهم دمّرت تماماً، واستُولي على أملاكهم وبيوتهم، فسكنوا في بلدة مجاورة اسمها “دير الأسد”، ثم انتقلت عائلة درويش إلى حيفا، ومكثت فيها عشر سنوات، حيث أنهى محمود درويش المرحلة الثانوية فيها، وعمل محرراً في جريدة “الاتحاد”.
سافر درويش إلى موسكو بقصد إكمال دراسته الجامعية، وكان ذلك في عام 1970، تعلّم خلال هذه الرحلة -ولو بشكل بسيط- اللغة الروسية، ولم تكن موسكو بالصورة التي كانت في ذهنه، فغادر موسكو متوجهاً إلى مصر.
كانت القاهرة هي المحطة الثانية بحياة محمود درويش، فبقي بها سنتين، وعمل في نادي الأهرام إلى جوار نجيب محفوظ، وغيره من كتاب الأهرام، كما كان يلتقي بكثير من شعراء مصر في ذلك الوقت؛ مثل: صلاح عبد الصبور، وأحمد حجازي، وأمل دنقل.
تأثر درويش بهؤلاء الشعراء، وحدث تحول في تجربته الشعرية، فلاقى الدعم والمساندة من هؤلاء الشعراء، خاصةً في شعره الوطني الذي يمجّد فيه المقاومة، لا سيما بعد هزيمة العرب بحرب 1967، حيث كان الشعب العربي يشجّع الشعر الذي يتحدث عن فلسطين والمقاومة فيها.
في عام 1973 انتقل درويش من القاهرة إلى بيروت، فعاش ظروف الحرب الأهلية اللبنانية، التي ألحقت الدمار بالكيان اللبناني، وانجرّ إلى الحرب الفلسطينيون الذين كانوا يقيمون على أرض لبنان، وهذا أحزن درويش كثيراً، فهاجر إلى تونس.
بعد مسيرة طويلة ملأى بالمعاناة، توفي محمود درويش في الولايات المتحدة الأمريكية، في 9 أغسطس/آب من عام 2008، بعد إجراء عملية قلبٍ مفتوح في المركز الطبي في هيوستن، وأُعلن الحداد لمدة ثلاثة أيام على وفاته في فلسطين، وأُحضر جثمانه إلى مدينة رام الله، حيث دفن في ساحة قصر رام الله الثقافي.
فخره بانتمائه إلى العرب، والاستدلال على ثوريته ضد الاحتلال الإسرائيلي، يتجسد في قصيدة “سجّل أنا عربي”، التي صارت بين أشهر القصائد في بلاد العرب، ويقول فيها:
سجِّل! أنا عربي
ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ
وأطفالي ثمانيةٌ
وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيفْ!
فهلْ تغضبْ؟
سجِّلْ!
أنا عربي
وأعملُ مع رفاقِ الكدحِ في محجرْ
وأطفالي ثمانيةٌ
أسلُّ لهمْ رغيفَ الخبزِ،
والأثوابَ والدفترْ
من الصخرِ
ولا أتوسَّلُ الصدقاتِ من بابِكْ
ولا أصغرْ
أمامَ بلاطِ أعتابكْ
فهل تغضب؟
سجل
أنا عربي
أنا اسم بلا لقبِ
صبورٌ في بلادٍ كلُّ ما فيها
يعيشُ بفورةِ الغضبِ
جذوري…
قبلَ ميلادِ الزمانِ رستْ
وقبلَ تفتّحِ الحقبِ
وقبلَ السّروِ والزيتونِ..
وقبلَ ترعرعِ العشبِ
أبي.. من أسرةِ المحراثِ
لا من سادةٍ نجبِ
وجدّي كانَ فلاحاً
بلا حسبٍ.. ولا نسبِ!
يعلّمني شموخَ الشمسِ قبلَ قراءةِ الكتبِ
وبيتي كوخُ ناطورٍ
منَ الأعوادِ والقصبِ
فهل ترضيكَ منزلتي؟
أنا اسم بلا لقبِ
سجل
أنا عربي
ولونُ الشعرِ.. فحميٌّ
ولونُ العينِ.. بنيٌّ
وميزاتي:
على رأسي عقالٌ فوقَ كوفيّه
وكفّي صلبةٌ كالصخرِ
تخمشُ من يلامسها
وعنواني:
أنا من قريةٍ عزلاءَ منسيّهْ
شوارعُها بلا أسماء
وكلُّ رجالها في الحقلِ والمحجرْ
فهل تغضبْ؟
سجِّل
أنا عربي
سلبتَ كرومَ أجدادي
وأرضاً كنتُ أفلحُها
أنا وجميعُ أولادي
ولم تتركْ لنا.. ولكلِّ أحفادي
سوى هذي الصخورِ..
فهل ستأخذُها
حكومتكمْ.. كما قيلا؟
إذن
سجِّل.. برأسِ الصفحةِ الأولى
أنا لا أكرهُ الناسَ
ولا أسطو على أحدٍ
ولكنّي.. إذا ما جعتُ
آكلُ لحمَ مغتصبي
حذارِ.. حذارِ.. من جوعي
ومن غضبي
الخليج اون لاين