الآية التي استهل بها العميد يحيى سريع بيان القوات المسلحة صباح اليوم الجمعة المباركة والتاريخية، تعتبر بيانا بحد ذاتها، فاليمن الذي انبعث من بين رماد الحروب عملاقا إقليميا يدشن وعد الآخرة وطائرته “يافا” المسيرة تجوس خلال الديار، وتبعث يافا المحتلة من جديد بعد ان دفنت تحت مستوطنة اسمها تل ابيب.
ولعل القرار اليمني بضرب هدف حساس ونوعي في عمق جبهة العدو المحتل في يافا المحتلة يعتبر بحد ذاته حدثا تاريخا وتحولا استراتيجيا، في وقت لم تجرؤ أي دولة عربية منذ النكسة على توجيه سلاحها باتجاه يافا المحتلة المسماة تل ابيب، وبرغم البعد الجغرافي الشاسع بين اليمن و والأراضي الفلسطينية المحتلة الا ان اليمن منذ اليوم الأول دخل المعركة وبدأ بضرب الأهداف الحساسة في فلسطين المحتلة في ام الرشراش وبئر السبع وميناء حيفا، واليوم يكسر القواعد ويتجاوز الخطوط الحمراء لتصل يده الطولى الى يافا -تل ابيب ويشعل النار على بعد امتار من القنصلية الامريكية.
العملية.. ما الذي حدث؟ وكيف حدث؟:
من الواضح ان المعطيات الرسمية عن تفاصيل العملية وخاصة عن سلاحها النوعي الجديد لم تزل معطيات أولية وربما تفصح القوات اليمنية عن تفاصيل اكثر في وقت لاحق، وبحسب البيان فان العملية قرار يمني جاءت وفق حيثيات الاسناد لغزة والرد على الجرائم المتواصلة بحق الفلسطينيين في غزة، وانها نفذت بسلاح نوعي لأول مرة يدخل المعركة وهو طائرة مسيرة اسمها يافا صناعة يمنية، ووفي الوقت الذي لم يفصح البيان عن اسم الهدف وانما اكتفى بانه هدف حساس وان العملية اصابت الهدف بدقة، شاهد العالم لحظة وصول المسيرة اليمنية يافا الى الهدف ووقع الانفجار في مشاهد موثقة التقطتها الكاميرات الإسرائيلية من اكثر من زاوية منذ دخول الطائرة الى الساحل وحتى وصولها الى حيث اريد لها ان تصل، ولم يكشف البيان تفاصيل عن الطائرة ومداها.
الصيحة.. زلزال يخلف هلعا وفوضى:
في ساعة السحر وفي اعمق أوقات الغفلة الصهيونية وفي الوقت الذي كان الجيش الإسرائيلي بوحداته المختلفة وتقنياته في وضعية النوم ذاتها التي كان عليها في 7اكتوبر، ودون ان توقظ صافرات الإنذار وصلت “يافا” اليمنية الى يافا المحتلة بعد رحلة استمرت ما يقارب الست ساعات لتحدث صيحة ظنها اليهود القيامة.
صدمة يصفها الشارع الصهيوني بالهزة التي جعلت المباني تهتز ليعتقد الناس ان زلزالا قد ضرب المدينة، لتستحيل أجواء الغفلة والنوم فزعا وهلعا وفوضى على كل المستويات داخل الكيان.
حالة الهلع والفوضى شعبيا وسياسيا واعلاميا وامنيا، ظلت تحكم الموقف في داخل الكيان لساعات، وهو ما يذكرنا بذات الحالة التي عاشها الكيان في السابع من أكتوبر.
الشارع الإسرائيلي الذي استيقظ اجباريا بفعل الصيحة وجد نفسه يعيش وسط النار وداخل منطقة حرب، الامر الذي انتج حالة من التذمر وفقدان الثقة في الحكومة الإسرائيلية ظهرت جليا في الكم الكبير من فوضى التغريدات والتصريحات التي تعبر في مجملها عن هلعها وخيبة املها في إمكانية الحصول على الأمان، وكان ابرز ما قاله المستوطنون تعبيرا عن تذمرهم “ان من المفترض ان تسقط على رؤوس أعضاء الحكومة التي لا فائدة منها ولا يعول عليها”
وفي سياق تداعيات زلزال الضربة الغى نتنياهو زيارته الى الولايات المتحدة والتي كان يفترض ان يلتقي فيها بالكونجرس الأمريكي ويقنعه بمواصلة الدعم، ليجد نفسه مجبرا على العودة سريعا دون تفكير في جدوائية عودته التي لم تكن ولن تكون لتمنع وصول اليد اليمنية الطولى الى حيث ينبغي ان تصل.
الرأي العام الإسرائيلي.. مسرحية هزلية:
الرأي العام الإسرائيلي اخذ الحدث ودلالاتها بجدية، فالمحللون والمراقبون الصهاينة الذين سخروا من تصريح غالانت الذي هدد اليمنيين “بدفع ثمن الهجوم على تل أبيب”، يؤمنون ان “الحوثيون لا يمزحون عندما يقولون الموت لإسرائيل”
والمستوطنون الذي تناقلوا مشاهد صورتها الكاميرات من عدة زوايا، جعلوا منها مادة للهجوم على قائد منطقة تل ابيب الذي وقع في مأزق مضحك حين قال ان المسيرة انفجرت في الجو.
وهكذا بدا المشهد في داخل الكيان اشبه بمسرحية هزلية، ومن ابرز فصولها تفسيرات وتبريرات فشل القبة الحديدية امام المسيرة اليمنية يافا، وبعد فضيحة قائد منطقة تل ابيب، يضطر مسؤولون عسكريون الى القول ان الاختراق يمكن تفسيره من ثلاث حيثيات هي:
احتمالية ان هناك خلل عملاني في نظام الدفاع الجوي، وان الواقع يقول انه لم ولن يكون هناك صفر اختراق، وايضا ان الكيان يخوض معركة لم يشهد مثلها بوجه جبهة متعددة الساحات.
وفي ذات الاتجاه الفوضوي يستثمر المعارض لابيد الحدث ليوجه سهام التشفي للحكومة بالقول (من فقد الردع في الشمال والجنوب سيفقده حتما في تل ابيب)
اليمن وغزة.. جرعة معنويات:
ومثلما اعطى الحدث جرعة جديدة من المعنويات للشارع اليمني وافشى السعادة في الأوساط اليمنية، فانه سقى أهالي غزة ومجاهديها كأسا من البهجة والسرور، وهو ما انعكس في تغريدات وكتابات وفيديوهات نشرها الغزاويون بكثافة ينقلون من خلالها انطباعاتهم وسعادتهم وامتنانهم لليمن جيشا وقيادة وشعب، وتوجت قيادة حركة المقاومة الإسلامية حماس والفصائل الأخرى ذلك الامتنان في بيانها الذي أعلنته مساء اليوم الذي ثمنت فيه العملية وباركتها.
دهشة الفعل.. الدلالات والرسائل:
لم تكتمل الدهشة كما يبدو، ولم تمل الحروف والكلمات بعد، فالعملية اليمنية التاريخية والضربة الاستراتيجية الفارقة لاتزال الى اللحظة تحتل اعلى اهتمامات الساحة الإقليمية والدولية وتتصدر الاخبار والتحليلات في كافة المنابر الإعلامية والمنصات التواصلية، وكل ذلك يأتي في سياق محاولة التوصل الى قراءات كافية للدلالات والرسائل والتأثيرات والتداعيات للحدث.
فنيا، الطائرة بحسب بيان القوات المسلحة طراز مسير جديد وصناعة يمنية، ومن الواضح انها طارت في مسار محدد تقنيا وعبرت اكثر من الفي كيلومتر في زمن لم يعلن عنه بعد، ويرى محللون عسكريون انها مرت من فوق أجواء السعودية مرورا بخليج العقبة وسيناء، وأوضحت المشاهد المصورة انها وصلت الى البحر المتوسط ثم عادت لتستقر في الهدف الذي انفجرت فيه وهو ومبنى قريب من القنصلية الامريكية.
الهدف، لم يفصح البيان العسكري الذي تلاه العميد سريع عن ماهية الهدف، لكن المشاهد التي وثقة الضربة تعطي احتمالا ان القنصلية الامريكية قد تكون الهدف المرسوم. فهل نحن امام رسالة مزدوجة للإسرائيلي والامريكي؟
البيان الذي افتتح نطاقا عملياتيا جديدا واعلن تل أبيب منطقة غير آمنة، جاءت بعد اعلان السيد القائد امس ان البحر المتوسط بات تحت السيطرة، لكنه لم يعلن الدخول في مرحلة خامسة من التصعيد كما هو متوقع، الامر الذي يعني ان العملية لاتزال في سياق المرحلة الرابعة، وهذا يترك الباب مفتوحا للتوقعات بخصوص حجم التصعيد الذي ستأتي به المرحلة الخامسة.
ولاحقا قال الناطق باسم القوات المسلحة اليمنية العميد يحيى سريع ان “مفاجآت المرحلة الرابعة من التصعيد اليمني المساند لغزة تتسارع بما لن يجد الصهاينة وعملاؤهم وقتا للتفكير فيما بعدها”، الامر الذي يعزز الاعتقاد الذي طرحناه انفا.
وفي توصيف لا يخلو من الاعتراف بالدهشة والاقرار بحجم الذهول، اكدت الجارديان البريطانية ان الضربة التي استهدفت أكبر مدينة في إسرائيل كانت صادمة، وعللت ذلك بالقول ” الطائرة بدون طيار بدا أنها عبرت مساحة كبيرة من البلاد عبر الدفاعات الجوية متعددة الطبقات”.
وفي ذات الدهشة، فان العملية التي حققت نجاحا استراتيجيا، نفذت بحسب البيان بطائرة مسيرة واحدة، وهذا يجعل مستوى الدهشة عاليا امام تساؤلات عن مستوى النجاح الذي قد يتحقق فيما لو كانت العملية بحجم وكثافة الوعد الصادق مثلا، وهل هي مجرد تجربة أولى لسلاح يمني جديد؟ وماذا بعد؟
وهل تمت بالتنسيق مع حزب الله واستفادت من بنك الأهداف الذي جمعه هدهد حزب الله؟
لن نكرر الحديث عن فشل القبة الحديدية والدفاعات العربية التي تتبرع عادة باعتراض المسيرات والصواريخ الذاهبة الى الأراضي المحتلة، وانما نود على ذكر هدهد حزب الله، ان نتساءل هل المسيرة اليمنية “يافا” من نفس فصيلة المسيرة الهدهد التي لم تكتشفها الرادارات الإسرائيلية ؟
وفي المحصلة، قد تظل هذه التساؤلات مطروحة على طاولة التحليلات لحين تكشفها دهاليز القرار العسكري اليمني واللبناني. لكنها في الواقع ستترك الكيان وداعميه امام مجهول يؤرقهم وتهديد وخطر يتفاقم يوما بعد اخر دون الوصول الى مجرد فهمه وقراءته بشكل يمكن ان يهدي لتفاديه والحد منه.
التوقيت .. أمام سلوك الاحداث الموازية:
يقول مراقبون ان العملية اليمنية تمثل موقفا تاريخيا أعاد الاعتبار للامة العربية والإسلامية، ونعتقد ان العملية تأتي في سياق معركة اعادت القضية الفلسطينية الى موقعها في الذهنية الجماهيرية أولا بعد عقود من المحو والتغييب الممنهج لعقود لتذهب كل تلك الجهود التي بذلت في سبيل تطبيع الوعي العربي هباء منثورا.
الموقف اليمني والعملية الاستراتيجية التي تقف على رأسه اليوم انتج واقعا مختلفا لم يكن محسوبا داخل المنظومة الصهيونية وادواتها في المنطقة وهذا الواقع المختلف الجديد اكد ضعف أمريكا وهشاشة محور الشر الذي تتزعمه أمريكا واثبت إمكانية التحرر من هيمنتها، والاهم هو إمكانية تحرير فلسطين.
ومن هذه الزاوية يمكن قراءة توقيت الحدث التاريخي امام احداث موازية ومدى إمكانية تأثيره على سلوكها أهمها قرار الكنيست الصهيوني عدم السماح بإقامة دولة فلسطينية، وتصعيد العدو بالمجازر في غزة، و تصعيد العدو بالقصف على جنوب لبنان، وتصعيد الأمريكي بالقصف على المقاومة العراقية، وبالنظر الى هذا السلوك المتغطرس للجانب الصهيوني، فان العملية اليمنية على “يافا ” تجعل الكيان والامريكي من ورائه تعيد النظر في قراراتها وسلوكها بذلك الاتجاه.
وفيما يتعلق بالتهديد اليمني القائم للنظام السعودي وتحذيره من مغبة التورط في مواجهة اليمن دفاعا عن الكيان بتوجيهات أمريكية، فان عملية اليوم تحمل درسا إضافيا واضحا للسعودي القريب من اليمن والذي بات بنك الأهداف في مملكته اكثر سهولة لليمن وقواته من بنك الأهداف داخل الأراضي المحتلة، وهو ما يعني ان العملية ستترك اثرا بالغا رادعا للنظام السعودي ربما يؤتي ثماره قريبا.
وامام التردد الأمريكي بخصوص ارسال حاملة الطائرات روزفيلت الى البحر الأحمر وبقائها في المحيط الهندي خوفا من ان تتعرض لما هو اكثر مما تعرضت له ايزنهاور، فان الضربة على تل ابيب من شأنها ان ترفع من منسوب الهلع والخوف على الحاملة الامريكية ومن ثم على ما تبقى من الهيبة الامريكية امام الأطراف الدولية التي ترقب ارتجافها وهي تقف على خارطة النفوذ الجيوسياسي الذاهبة باتجاه تحولات استراتيجية، ولعل ذلك ما يفسر القلق الأمريكي من الاتصالات الروسية اليمنية، وحديثها عن تحركات للضغط على روسيا لعدم بيع أسلحة للقوات اليمنية التابعة لصنعاء.
ختاما:
أن حدثا تاريخيا استراتيجيا خالد كهذا، يحتاج الى قراءات تحليلية وتوثيق يليق به ويليق بالتاريخ الذي نحن بصدد صناعته للأجيال، وأتمنى انني قد وفقت في قراءة وتحليل هذه اللحظة الفارقة وهذا الحدث الاستثنائي التاريخي، وتمكنت من رصد الأهم من تداعيات الزلزال الذي احدثته مسيرة يافا اليمنية داخل الكيان وعلى امتداد خارطة المنطقة والعالم.