قراءةٌ تحليليةٌ في خطاب فخامة الرئيس / مهدي المشَّاط في تدشينِ المرحلة الأولى للرؤية الوطنية
قبلَ الشروع بقراءةٍ متأنيةٍ لخطابِ فخامة رئيسِ الجمهورية، مهدي المشَّاط، في تدشينِ المرحلة الأولى للرؤية الوطنية لبناء الدولة اليمنية الحديثة يوم الأربعاء 1/ يناير/2020م، نحب أن نشيرَ بإيجازٍ إلى مفهوم الدولة الحديثة وذلك لسببين:- الأول: ضرورة تقريب فكرة الدولة الحديثة للقارئ الكريم من خلال مقدماتها النظرية وأُسُسها الحديثة، والسبب الثاني: الوصول إلى بلورة صورة أولية في ذهن القارئ الكريم يستطيع من خلالها استيعاب فكرة “مفهوم الدولة الحديثة” التي ينشدها الشعب اليمني؛ وذلك لأَنَّ فلاسفةَ الاجتماع السياسيّ لم يتفقوا على تعريف محدّد للدولة الحديثة، بل لم يتفقوا على مفهوم محدّد للدولة الحديثة، والسببُ هو أن فلاسفةَ الاجتماع خضعوا لإكراهات واقعهم، سواء الموروث التقليدي أَو التوجّـه الرأسمالي أَو الحداثي أَو الاشتراكي..، وبصيغة أكثر وضوحاً، فقد جاءت تعريفات الدولة الحديثة انعكاساً لتصوراتهم الفلسفية تجاه الهدف الذي وجدت الدولة الحديثة؛ مِن أجلِه، فلا يوجد تعريف محدّد للدولة الحديثة، وإنما توجد تصورات إجرائية حول شكل الدولة كمؤسّسات وفصل بين السلطات أَو كجهاز إداري للدولة.
ولسنا هنا بصدد استعراض أقوالهم المضطربة والغامضة، فيمكنُنا استخلاصُ مفهوم ذهني تجريدي يساعدُنا على رسم تصور تقريبي لمفهوم الدولة الحديثة فكراً وممارسة، متمثلاً في الصيغة التالية: والتي وردت في أبجديات المصفوفة الأدبيَّة للرؤية الوطنية لبناء الدولة اليمنية الحديثة “أي دولة يمنية حديثة، ديمقراطية مستقرة وموحَّدة ذات مؤسّسات قوية تقومُ على تحقيق العدالة والتنمية والعيش الكريم للمواطنين وتحمي الوطن واستقلاله وتنشد السلام والتعاون المتكافئ مع دول العالم”، من خلال مجموعة نُظُم مقننة قادمة من الشعب وإلى الشعب لتحدّد سير أجهزة الحكم لحماية مصالح الشعب داخلياً وخارجياً.
“يأتي هذا التدشينُ مع بدايةِ عامٍ جديدٍ، ونحنُ على ثقةٍ بإذنِ اللهِ تعالى وعونِه وتوفيقِه، أَنه سيكونُ عامَ الانتصار الكبيرِ، سواءً على مستوى البناءِ والإصلاح المؤسّسيِّ، أَو على مستوى الجبهةِ العسكريّةِ، وفرضِ استقلال وسيادةِ بلدِنا وردعِ العدوانِ الأمريكيِّ الصهيونيِّ السعوديِّ الإماراتيِّ، وقد قطعنا في ذلك شوطاً كبيراً بتضحياتِ الشرفاءِ وصمودِ الأبطالِ، وما يزالُ أمامَـــنا الكثيرُ لمواجَهةِ التحدياتِ، مما يقتضي تظــافُــرَ الجُهُــودِ حتى تحقيقِ النصرِ الناجِــزِ بإذنِ اللهِ”، هكذا بدء الرئيس المشَّاط مستهلاً خطابَهُ المفعم بالروحية الإيْمَــانية والمعزز بالثقة اليقينية على تأييد الله تعالى ونصره للشعب اليمني في كافة المجالات وعلى مختلف الأصعدة، الأمر الذي يعكسُ حالَ الأُمَّــة اليمنية على الرغم من أنها تعيشُ تحتَ وطأة الحصار وجور العدوان إلاَّ أنها أكثرُ وعياً وإدراكاً للواقع، فاليمنيون اليوم يمتلكون رصيداً يتمثل بفهمهم لواقعهم وواقع غيرهم وإدراكهم بأن لديهم الثروة البشرية والطبيعية التي يمكنهم اعتمادها في تحقيق التقدم والتفوق على من سواهم.
فحين أشار بقوله: “وأَوَدُّ في البدايةِ أَن أُشِيْـــدَ بالإنجازاتِ والجهودِ المشرِّفةِ، التي تحقّقتْ في العامِ 2019 م، على مستوَى تعزيزِ القُــدُراتِ الدفاعيةِ وتطويرِ الصناعاتِ العسكريَّةِ في مختلفِ المجالاتِ، كما نشيدُ بالانتصاراتِ الكُبرى التي حقّقها شعبُنا، والضرباتِ الموجِعةِ التي تلقاها العدوُّ، والتي أوصلت صمودَ وعزيمةَ هذا الشعبِ، إلى كُـلّ أنحاءِ الدُّنيا، وجعلتْ كُـلّ القوى الشريرةِ المعاديةِ لبلادِنا في قلقٍ وتوجُّــسٍ من قدراتِ شعبِنا على الدفاعِ عن نفسِه، وقلبِ كُـلّ المعادلاتِ والاستراتيجيّاتِ العسكريّةِ والجيوسياسيّةِ في المنطقةِ”، هنا يستوقفُنا الحديثُ الذي تجلّى بالكشف عن مدى نجاح التجربة التاريخية اليمنية المتمثلة بالتصدي الحازم لِكُـلِّ الأساليب والوسائل ومختلف الإجراءات والفعاليات التي لم تدخر قوى العدوان أياً مما قد يخطر على بالِ أساطين الحروب وتجار الازمات إلاّ واتخذتها غير أنها مُنيت بالفشل، ناهيك عن النجاح في تحقيق توازنٌ في الرد وأوجاعٌ في الردع، ولما يُلقيهُ هذا النجاح من ضوءٍ على ما هذه المرحلة من الرؤية بصدَدِ الإعراب عنه من إمْكَانية صمود اليمنيون أمام إثارات ومؤثرات التحدي القائم والانتصار عليه ولما يساعدهم من تمتين الثقة وتقوية الامل وهو يحدوهم حينما يضعوا حضارتهم في مركزها الطبيعي الحُر والمستقل.
فإلى جانب ذلك الرصيد الضخم في موضع الصمود أمام مختلف التحديات والتصدي لها، برزت العقليةُ اليمنية الفذة إبداعاً في التخطيط والتي كان لها حيّزٌ في خطاب الرئيس مهدي المشَّاط بقوله: “تُمثِّلُ عمليةُ التخطيطِ الاستراتيجيِّ ضرورةً مُلِحَّةً فَرَضَت نفسَها بقوةٍ على كافةِ الأُطُــرِ والمستوياتِ، فمنذُ إطلاق الرؤيةِ الوطنيّةِ لبناءِ الدولةِ اليمنيّةِ الحديثةِ في الـ 24 مِنْ إبريلَ 2019م وجميعُ الوحداتِ التنظيميةِ لإدَارَةِ وتنفيذِ الرؤيةِ ومعَها كافةُ وحداتِ الجهازِ الإداريِّ للدولة تشهدُ حراكاً استراتيجيًّا كبيراً وتعملُ بجهودٍ حثيثةٍ للقيامِ بدورٍ مؤثِّـــرٍ في المساهمةِ بتحقيقِ هذه الرؤيةِ، لا سيما أنها وَضَعَتْ جميعَ أجهزةِ الدولةِ أمامَ تَحَــدٍّ كبيرٍ وامتحانٍ عسيرٍ نحوَ إعدادِ وتنفيذِ خططٍ واقعيةٍ وتحقيقِ إنجازاتٍ ملموسةٍ، وباتَ اليومَ على جميعِ الوزاراتِ والمؤسّساتِ والمحافظاتِ دورٌ كبيرٌ في تنفيذِ هذهِ الرؤيةِ والمُضِيُّ قُدُماً في تحقيقِها على أرضِ الواقعِ”.
لا شك أن هذه الحيويةَ والتناغُمَ بين من يقوم بإعداد الخطط وبين من يقوم على تنفيذها ومن يشرف عليها والتي جاءت نتيجةً للاهتمام المتزايد والتشجيع المستمر والدعم اللامحدود من أعلى سُلِّم الهرم القيادي للدولة، الأمر الذي شجّع وحفّز القائمين عليها ولا يزال يدفعُهم إلى أن يخطوا هذه الخطواتِ المتسارعة في استكمال متطلبات البناء..، ففي حساب المعادلات الجيوسياسيّة، بات اليمنيون يتحَرّكون للارتفاع إلى مستوى القدرة الفاعلة ومستوى الإرادة المصممة إلى تحقيق التفوق ومن ثم صناعة الانتصار.
وهو الأمر الذي أشاد به فخامة رئيس الجمهورية بالقول: “إنَّنا اليومَ نقفُ بفخرٍ واعتزازٍ أمامَ المنجزاتِ التي يحقّقها شعبُنا وسطَ تحدياتٍ غيرِ مسبوقةٍ، فكما صنعت سواعدُ يمنيّةٌ صواريخَ باليستيةً بعيدةَ المدى، وكما طوَّرت عقولٌ يمنيّةٌ طائراتٍ مسيَّرةً تسافِــرُ آلافَ الكيلومتراتِ رغمَ الحِصارِ وتبايُنِ القُدُراتِ، فمهما كانتِ التحدياتُ فلنْ يكونَ هناكَ عائقٌ أَو مانعٌ بعَونِ اللهِ منْ تنفيذِ خطةٍ عمليةٍ مدروسةٍ تنهَضُ بكافةِ مؤسّساتِ البلدِ ويعودُ نفعُها على كُـلّ مواطنٍ يمنيٍّ”، وعن العلاقة بين الرؤية الخَاصَّة بالدولة الحديثة وبين الهُـوِيَّة الوطنية، إِذْ قد يظن البعض أن هذه الرؤية لا تتأتى مع تمسك المجتمع بهُـوِيَّته الحضارية، غير أن شكل الدولة اليوم والذي اتخذت محوراً رئيساً في خطاب الرئيس تمثل بقوله: “إنَّ هذا المشروعَ الوطنيَّ اليومَ هو غايةُ نضالاتِ الآباءِ والأجدادِ وأبسطِ استحقاقاتِ الانتصاراتِ اليمانيةِ الفَذَّةِ، لننفضَ عن أنفسِنا غُبارَ الوصايةِ والهيمنةِ والإذلالِ التي أرادت قوى الشرِّ والاستكبار إغراقَنا فيها إلى الأبدِ ونحنُ قادرونَ على ذلكَ حتماً”، وهي إشارةٌ ثاقبةٌ ومستوعبةٌ لطبيعة المجتمع اليمني، تدعو إلى استلهام أحداث الماضي واستحضار عُبق التاريخ اليمني وحضارته الإنسانية الفريدة ودراستها من جميع جوانبها؛ كي نستطيع أن نصلَ إلى حلحلة مشكلاتنا الرئيسية التي أعاقتنا وأثرت علينا سلباً وإيجاباً، لنضعَ لها الحلولَ الملائمة، والاستفادة من تجارب التاريخ؛ لأَنَّ قراءة التاريخ لا تقتصر على المتعة أَو الثقافة بل تتعداها إلى ما هو أنفع وأجدى وهو دراسة التاريخ والتعلم من التجربة التي أوصلت إلى نتيجة حسنة أَو سيئة، ونقوم بربط الحاضر بالماضي وأن لا نحاول استنساخ النتيجة دون وعي بالتجربة.
وحين دعا فخامةُ الرئيس المجتمعَ اليمني إلى تحمل المسؤولية في ذات الإطار بقوله: “الجميعُ اليومَ بمختلفِ فئاتِهم وانتماءاتِهم معنيون بإنجاحِ هذا المشروعِ الوطنيِّ الكبيرِ والمساهمةِ الفاعلةِ في تحقيقِه فنحنُ على سفينةٍ واحدةٍ والوطنُ وطنُنا جميعاً والمستقبلُ مرهونٌ بالتكاتُفِ والتعاوُنِ والإخاءِ، ونحن جادُّونَ على ضمانِ ذلكَ؛ مِـنْ أجلِ الجميعِ ولصالحِ الجميعِ ومِنْ موقعِ المساواةِ في الحقوقِ والواجباتِ، وإنفاذِ القانونِ على الكبيرِ قبلَ الصغيرِ، وتحقيقِ العدالةِ الاجتماعيةِ والاستعانةِ بالكفاءاتِ وبالمفاضَلةِ حسبَ القدراتِ لا حسبَ الأهواءِ والمصالحِ”، وهي بمثابة دعوة صادقة يجبُ أن يمتثلَ لها كُـلُّ الخيِّرين من أبناء الوطن؛ لكي تخرج اليمن من هذا الواقع وهي أقوى قدرة وأمضى إرادةً على تحقيق رسالتها النهضوية إلى مستويات أعلى في العطاء الميداني المثمر والعطاء الفكري المتجدّد، ومستويات أعلى في التجسيد الحي للعدالة الإنسانية في هذا العالم المضطرب الذي يعاني غير قليل من عدم وضوح المستقبل وما سيصير إليه هذا المجتمع أَو ذاك؛ بسبَبِ تفاعله مع ما يفرزه هذا الصراع الحضاري القائم، فعلى مستوى التحدي اليمني الذي جاء نتيجةً لانتفاضة اليمنيين في وجه الوصاية الهيمنة والتبعية لقوى الاستغلال والاستكبار العالمي وأذنابها في المنطقة، وأخذ يشُقُّ طريقَه نحو التحرّر والسيادة والاستقلال، وعن هذه الجزئية تحدث فخامةُ الرئيس بقوله: “ويتمثّلُ التحديْ الحقيقيُّ الذي واجهه شعبُنا منذُ اللحظةِ الأولى لانتصار ثورةِ الحادي والعشرين من سبتمبر المجيدةِ في الاستهداف المباشِرِ والعدوانِ الغاشِمِ الذي سعى إلى كسرِ عزيمتِه وضربِ وَحدتِه ووأدِ ثورتِه ومَنْعِ بناءِ دولتِه الحرةِ المستقلةِ، وبفضلٍ من الله أنها لم ولن تنجَحَ”.
هنا يجبُ أن نوضحَ للقارئ الكريم بعضَ الإشكاليات التي قد تظهر هنا أَو هناك عندما تظهر رؤىً نهضويةٌ في هذا المجتمع أَو ذاك فتظهر معها كثيرٌ من الأُطروحات التي تكونُ في مجملها تشكل سجالاً بين تيارين التيار المحافظ المتمسك بالهُـوِيَّة الوطنية، وتيار المستنيرين الذين يرون أن التيار الأول يشكل عقبة كؤوداً أمام التقدم والتحضر، وسار هذان التياران في خطين متوازيين دون أية محاولة للالتقاء، أَو تجديد الخطاب والبحث عن مفاصله المؤثرة بعيداً عن السجال الذي قد يُنهك القوى الوطنية ويستنفذ طاقاتها، وفي اليمن أَيْـضاً قد يحدث مثل هذا نتيجة للانفتاح السياسيّ والتعددية الحزبية فبالتالي كان في خطاب فخامة رئيس الجمهورية القول الفصل وأذاب كُـلّ التباسٍ قد يفهم بطريقةٍ غير واقعية، فوضع أمام الجميع موجهاتٍ عشر تتناول مُجمل التراتيب المنظمة للسياسات التحضيرية وكافة الإجراءات التنفيذية وحدود صلاحيات آلياتها المنفّـذة، وهي عبارة عن متطلبات العمل النهضوي وفق الموجِّهات العشر في خطاب فخامة رئيس الجمهورية والذي يحتم على المعنيين في كافة الأجهزة الإدارية للدولة تجسيدها في إطار تنفيذ الرؤية الوطنية لبناء الدولة اليمنية الحديثة والتي جاءت على النحو التالي:
التركيزُ على الإصلاحاتِ المؤسّسيةِ؛ باعتبَارِها الخطوةَ الأولى نحوَ إرساءِ مداميكِ بناءِ الدولةِ اليمنيّةِ الحديثةِ.
أشار فخامة الرئيس في هذا المُـوَجِّـه إلى الإصلاحات المؤسّسية، وكلمة الإصلاح في اللغة تعني رتقَ ما هو موجود بالفعل بغية التعميم، إنه أشبهُ شيء بإقامة الدعائم التي تحول دون وقوع المباني المتداعية، فالإصلاحُ ليس سوى تعديل في التفاصيل وتدعيم بعض نواحي النقص وتلافي بعض الأخطاء، فالإصلاحات المؤسّسية وتقويم أداءها الوظيفي وانعاشها –بحسب المُـوَجِّـه المذكور– لا يجبُ أن ترتكزَ على خطط ترقيعيه أَو من خلال تقديم انصاف الحلول أَو ترحيل المشاكل والمعوقات، بقدر ما تتصل بالتخطيط الجيد والواقعي والإدَارَة المخلصة والنزيهة التواقة لتجفيف منابع الفساد كخطوة أولى نحو العمل على نهضة ورقي وتطور اليمن (الأرض والإنسان)، الأمر الذي يدفع بالجميع إلى ضرورة التماس الوسائل الموصلة إلى تحسين حال الأُمَّــة وتنمية أسباب تطورها، كتوسيع دوائر العلوم والمعرفة وتمهيد طرق الثروة من الزراعة والتجارة وترويج سائر الصناعات الوطنية ونفي أسباب البطالة، وأَسَاس جميع ذلك هي الإصلاحات المؤسّسية الهادفة للإصلاحات الاجتماعية المرتكزة على حسن الإدَارَة المتولد منها الأمن، المتولد منها الامل، المتولد منها اتقان العمل.
التزامُ كافةِ قياداتِ مؤسّساتِ وأجهزةِ الدولةِ بتجسيدِ قِيَـــمِ الرؤيةِ، وتقديمُ النموذجِ، وتجسيدُ الموجِّهاتِ القيميةِ، ومن أهمِّها الالتزامُ بالعدلِ الذي ينبغيْ أَن يكونَ سلوكَ الجميعِ، والإحسانُ في العملِ وإتقانُه مبدأٌ أَسَاسيٌّ للنجاحِ، والالتزامُ بالحكمةِ والرُّشْــدِ في اتِّـخاذِ القرارِ، وتعزيزُ روحِ التعاوُنِ والإنتاج.
يخاطب هذا المُـوَجِّـه بصورة أَسَاسية كُـلّ مسؤول تحمل مسؤولية القيادة داخل التشكيل الهرمي لأجهزة الدولة كبيراً كان أم صغيراً، لما للقيادة الحكيمة من أهميّة وفاعلية وتأثير والتي تأتي نتيجةً للكفاءة العالية والخبرة الفائقة والموهبة الجيدة، التي يجب أن يتمتع بها القادة بمختلف مستوياتهم مع التنسيق الوثيق بمرؤوسيهم عند اتّخاذ التدابير اللازمة لخدمة العمل ودراسة نجاحه ووسائل تحقيق أهداف هذه المؤسّسة أَو تلك، ومن الضروري أن نشير إلى أن مهارة المسؤول وقوة إرادته وسرعة بديهته ليست بكافية لنجاحه في معركة البناء والتحديث وانتصاره في ميدان العمل بل يجب أَنْ يكونَ علاوةً على ذلك عادلاً ومنصفاً وعارفاً بأحوال مرؤوسيه متلمساً لأوضاعهم حائزاً على ثقتهم متمتعاً بحبهم واحترامهم قادراً على استنهاض هِمَمِهم وتعزيز روح التعاون والإخلاص والولاء؛ لما للقيادة من تأثير مباشر على نفسية العاملين، فما يزالون متفائلين بالمسؤول الناجح المُعبِّر عن طموحاتهم، المجسد لآمالهم والمنطلق نحو تحقيق أعمال ومهام مؤسّسته بنجاح، ويتطيرون أَيْـضاً من المسؤول الذي يكون على العكس من ذلك.
العملُ على استكمالِ إعدادِ وتطبيقِ مدوَّنةِ قواعدِ السلوكِ الوظيفيِّ وأَخْــلَاقياتِ الوظيفةِ العامةِ، بما يجسِّــدُ التعامُلَ مع المسؤوليةِ كواجبٍ شرعيٍّ في خدمةِ الناسِ، لا مقاماً للاستعلاءِ عليهِم، ولتصحيحِ دوافعِنا الذاتيةِ للقيامِ بالمسؤولياتِ، والنهوضِ بها.
على ضوء هذا المُـوَجِّـه الذي يأتي في أعلى سُلَّم الأولويات لقائمة الإصلاحات المؤسّسية الأمر الذي يتوجب على كافة الأطر القيادية في مختلف قطاعات الجهاز الإداري للدولة – لتفعيل دورها في إطار الرؤية الوطنية أَو مِن أجلِ النهوض بمهامها المنوطة بها عموماً – سرعة استكمال الأدبيَّات التخطيطية لإجراءات التنفيذ على أرض الواقع والمتمثلة بإقرار الوثائق الهامة مثل:
الهيكل التنظيمي لـ(الوزارة – المؤسّسة – الهيئة – الإدَارَة… إلخ) وتكويناتها وتشكيلاتها الهرمية وفروعها في عموم محافظات الجمهورية وتطبيق مدوناتها المتضمنة المهام والواجبات، الصلاحيات والاختصاصات، كُــلٌّ على حدةٍ بعيداً عن العشوائية وتداخل المهام وتضارب الاختصاصات.
إقرار برامج وخطط عمل المؤسّسة هذه أَو تلك انطلاقاً من خطط الإطار الأعلى والمنسجمة مع الخطوط العريضة للرؤية الوطنية (الشهرية – الفصلية – السنوية) وتجسيدها على أرض الواقع ورفع التقارير الخَاصَّة عن التنفيذ.
الانطلاق بعملية التخطيط المنطقي، الذي هو بمثابة بوصلة تحديد المسار للعمل المؤسّسي للوصول إلى النتائج المرجوة، في المقابل توحيد مستوى التطبيق في مختلف الأقسام والأفرع الأُخرى لضمان العمل الموحد، ولكي لا تضيع الجهود بين الارتجال والاجتهاد والعشوائية يوصى بعدم السماح بالاجتهادات التي قد تؤدي إلى تعدد النماذج، وبالتالي تعدد المضامين التي قد تخرج عن الفكرة الأَسَاسية والمهام المحدّدة، وهذا لا يعني عدم السماح للإبداع في أشكال وأساليب التنفيذ، فمن الضروري الالتزام بالوصول إلى فكرة طموحة للتخطيط والتنفيذ والتقييم.
تعزيز وترسيخ الثقافة الإيْمَــانية والأَخْــلَاقية لِكُـلِّ فردٍ في مواقع المسؤولية على اعتبارها تكليفاً لا تشريفاً، وأن المسؤول إنما هو خادمٌ للأُمَّــة ومعبراً عن طموحات الشعب لا متسلطاً عليهم في إطار واجب شرعي ينعكس في الأَخْــلَاقيات والمعاملات، فالله سبحانه وتعالى قد وهب الكثير من القادة شخصية فذة وجاذبية عظيمة ولباقة متجذرة في معاملة مرؤوسيهم الذين تشربوا بعاطفة حميمية ثقتهم واحترامهم، ودائماً المرء يجتهد أن يقلد بغريزية من يحترمه ويثق به، فلم يفشل أعاظمُ القادة في غرس بعض صفاتهم في مرؤوسيهم، فقد كان وجود الرسول الأعظم صلَّى اللهُ عليه وَآله وسلم بين أصحابه في كثير من معاركه أكبرَ عامل من عوامل النصر في تلك المعارك ناهيك عن تعاملاته اليومية والتي يصدرها القرآن الكريم حتى قيام الساعة – قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ)، (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) – الأمر الذي يدعو كُـلًّا منهم في مواقع المسؤولية إلى تجسيد شخصية الرسول الأعظم صلَّى اللهُ عليه وَآله وسلم، إلى استحضار رؤية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في موقع القيادة وفي كتابه للأشتر النخعي، إلى الاقتداء بالروحية الإيْمَــانية للسيد القائد، إلى استلهام روحية الشهيد الرئيس صالح الصماد في موقع المسؤولية.
الحرصُ على تظـافُـــرِ الجهودِ، فالعملُ يحتاجُ إلى إرادةٍ جَمْعيةٍ توازيْ تلك الإرادةَ التي يمتلكُها المقاتِلُ في جبهاتِ العزةِ والكرامةِ، وبما يحقّق تلك الغاياتِ والأهداف ويليقُ بتضحياتِ الشعبِ اليمنيِّ العظيمِ.
من خلال هذا المُـوَجِّـه ندرك المغزى من حرص القيادة السياسيّة على تحقيق إرادة جمعية بين مؤسّسات الدولة المعنية بتنفيذ الرؤية الوطنية وبين جموع العاملين في تلك المؤسّسات على اختلاف توجّـهاتهم، فلا شك بأننا اختزلنا في النظم السابقة المشكلات في دوائر ضيقة وتوسعنا في الإجابات كُـلّ من منظوره وعقليته التي يفكر بها والذي يجب أَنْ يكونَ محل اهتمام جميع الأطياف السياسيّة والاجتماعية في اليمن بدون استثناء لتمكين الدراسة المستوعبة لقواعد البيانات والإحصاءات وفق رؤية شاملة تستوعب تنوع وهُـوِيَّة وطبيعة المجتمع اليمني، ومن ثم التنفيذ على أَسَاس تكاملية البناء وهي إشارة إلى تلك الطبقة الثقافية التي ترى أن عجلة الحياة بدون أفكارها لن تسير ولن تتقدم، وأنهم هم الحلقة الأهم في المجتمع فما كان منه إلاّ أن دعاهم إلى النظر إلى قضايا الناس واحترام عقولهم وتحديثهم بما يفهمون، واحترام دين الأُمَّــة وثوابتها الوطنية، ليأخذوا مواقعهم للانتصار في معركة البناء والتحديث كما انتصر جيشنا ولجاننا في المعركة العسكريّة، وذلك لن يتأتى إلاّ بتركيز الجهود وتوحيد الصفوف؛ لكي نتغلب على مشكلاتنا ونحافظ على أمن وسلامة اليمن ورفع مكانتها في المسرح الدولي.
الالتزامُ بمبادئِ العملِ المؤسّسيِّ وتفعيلُ دورِ القيمِ المؤسّسيةِ في إدَارَةِ مؤسّساتِ الدولةِ، وترسيخُها كسلوكٍ وممارسةٍ في إدَارَةِ التغييرِ والتطويرِ.
حين ننظر إلى هذا المُـوَجِّـه المحفز للقيم المؤسّسية التي تسعى بالعمل الهادف للوصول إلى مفاصله ومرتكزاته وموجهاته، ومن ثم بناء منهجية واضحة المعالم والذي يحثنا على استبصار الواقع؛ لكي نستطيع من خلالها فهم هُـوِيَّتنا وتحديد موقعها وعلاقتها من الإشكالات المعاصرة، ما لم فَإِنَّنا سنبقى مرتهنين لدوامة السجال غير المنقطع بين الحاضر والماضي، دون أن نخرج برؤية واضحة أَو نخطوَ خطوةً للأمام، ما لم نستحضر إرادة التغيير والتحديث والتطوير ونجسدها قولاً وعملاً.
العملُ على تنظيمِ مشاركةِ المجتمعِ وقُوَاه بِـكُــلِّ مستوياتِها؛ لتكونَ هذه المشاركةُ حاملةً لتأمينِ التطويرِ ومعزِّزةً ومراقبةً لإدارتِها لتكونَ فاعلةً وناجحةً وتحاسِبُ المُقَصِّرَ في تنفيذِ تلكَ المهامِّ والخططِ.
نستخلصُ من هذا الموجِّه أن لِكُـلِّ مستوى قيادي في قطاعات الأجهزة المختلفة للدولة مسؤوليات وصلاحيات واختصاصات محدّدة إلا أن هذه المسؤوليات لا تستطيع وحدَها بمعزلٍ عن التخصصات الأُخرى أن تحقّق النجاح في تنفيذ المهام المنوطة بها سواءً وفق الخطط الخَاصَّة أَو في إطار مواقع المسؤولية في تنفيذ الرؤية الوطنية لبناء الدولة اليمنية الحديثة، ولهذا تصبح وحدة المسؤولية للجميع تجاه الواجب الوطني من ضروريات عوامل النهوض بالرؤية من خلال إشراك واشتراك كافة الأطياف السياسيّة والفعاليات الحزبية والأهلية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني في تحمل المسؤولية والإسهام بدور فاعل، الأمر الذي سيضاعف مؤشراتِ الوعي السياسيّ والثقافي والإبداعي سواءً على مستوى – الإدَارَة – المتابعة – الإشراف – أَو على مستوى استيعاب الخطط والبرامج الخَاصَّة بالرؤية وصولاً إلى التنفيذ والتقييم والمراقبة وانتهاء بالتكريم والتحفيز أَو تفعيل مبدأ الثواب والعقاب.
تغييرُ نَمَطِ إدَارَةِ الدولةِ بأساليبَ متطورةٍ وفعّالةٍ، والتحوُّلُ مِن ثقافةِ الوظيفةِ العامةِ إلى ثقافةِ الخدمةِ العامةِ، والاستفادةُ من التجارِبِ المماثلةِ التي واجهت وتجاوزت تحدياتِها؛ نتيجةَ إرادةِ التغييرِ والتطويرِ التي عملوا على تحقيقِها من خلالِ إرادةِ وسلوكِ القيادةِ السياسيّةِ ومسؤولي الدولة.
يظهر جلياً للمتابع كثيرٌ من المتغيرات الإدارية في بعض وحدات الجهاز الإداري للدولة في مواكبةٍ للتحديث والتطوير والبناء، ولعل الصدمة التي حصلت مع أول اتصال للعرب عامةً واليمنيين على وجه الخصوص بالغرب، أشعرتنا بالدونية والانبهار والمبالغة في تعظيم الغرب وبين أننا ما زلنا نعيش مع الواقع معاملة المصدوم الذي لم يستفق بعد، فالغربُ الذي نعتبره النموذج عند البعض، فهو الخصم الذي يحاول أن يذيبَنا فيه، وهو النموذج الذي يحاول كثير من أبناء الأُمَّــة الذوبان فيه ولو على حساب الدين والقيم والأَخْــلَاق والسيادة والاستقلال، والحديث عن الفجوة التقنية والتي أشعرت المجتمع بالدونية وهو يقارن نفسه مع غيره، وبين أن التقنية لها أثر واضح في تغيير الهُـوِيَّة، إِذْ أن التقنيةَ تحملُ هُـوِيَّةَ صانعها وذوقه وشكل حياته، ولقد كان تأثيرها واضحاً جِـدًّا على مجتمعنا اليمني حين تمكّن وفي ظل الحرب والحصار من رسم هُـوِيَّته على منتجاته الحربية، وأصبح كُـلُّ من تحدث عن أثر التقنية على هُـوِيَّة المجتمع يرمى بالتخلف والرجعية، غير أن الرؤية الوطنية التي يحاول اليمنيون خطف استحقاقها هي خالصة الهُـوِيَّة القيمية والتاريخية لليمن وللشعب اليمني وفي العصر الحديث لنا نماذج خالصة كالخطة الخمسية للشهيد الرئيس إبراهيم الحمدي، وكذا رؤية الشهيد الرئيس صالح الصماد (يدٌ تحمي ويدٌ تبني) كان لها الأثر في واقع التنفيذ، كذلك لِكُـلِّ منهم في مواقع المسؤولية اليوم هم أمام تحَدٍّ كبيرٍ مع مختلف التوجّـهات وكافة المتغيرات للنهوض بفاعلية أمام هذا الاستحقاق العظيم، وليس عيباً أن ندرس ونستلهم تجارب الدول الأُخرى في ذات الإطار –سواءً ماليزيا وإيران وسنغافورة وفيتنام– وغيرها.
إنَّ على جميعِ مَن هم في مواقعِ المسؤوليةِ اليومَ في كافةِ مؤسّساتِ الدولةِ بمختلفِ مستوياتِها أن يتحمَّلوا مسؤولياتِهم في عمليةِ التنفيذِ والمتابعةِ بما يضمَنُ تحويلَ الرؤيةِ إلى واقعِ التنفيذِ، كُـلٌّ بحسَبِ خطةِ جهتِه ومؤسّستِه، وأن تقييمَ أدائِهم سيتمُّ بناءً على مستوى التزامِهم بإنجازِ غاياتِ الرؤيةِ وأهدافها.
في هذا المُـوَجِّـه نرى أن الجميع مدعو لتحمل المسؤولية الدينية والوطنية والأَخْــلَاقية لتحويل الرؤية القائمة إلى إنجاز عملي على أرض الواقع، كُــلٌّ بحسب موقعة وقدراته وأن يبذل في سبيل ذلك قصارى جهده العملي والفكري وأن أي تهاون بهذا الخصوص يعد خيانة لتربة هذا الوطن.
التركيزُ في عمليةِ التنفيذِ على المبادراتِ والبرامجِ ذاتِ الأَثَرِ الاستراتيجيِّ المتعلقةِ بترسيخِ مبدأِ الإحسانِ والعدلِ ومكافحةِ الفقر وتحسينِ سُبُلِ العيشِ وترسيخِ القِيَمِ الروحيةِ والمبادئِ والأَخْــلَاقِ في أوساطِ المجتمعِ.
تُعد البرامج ذات الابعاد الاستراتيجية من أَهَـمِّ أَسَاسيات الشروع ببناء الدولة الحديثة؛ لذلك عملت الحكومة وتعمل جاهدةً لتحقيق اكتفاء ذاتي من خلال الاهتمام بالتنمية الاقتصادية والإصلاحات الاجتماعية، التي تأتي في مقدمتها المشكلات الاقتصادية التي تواجهها الدولة، وأهمها مشكلة تنظيم عملية الاستهلاك في الحرب، فَإِنَّ عدم توفر المواد بقدر الضروريات معناه الفوضى الكاملة وانتشار الأمراض والأوبئة وضعف الكفاية الإنتاجية، وهو الأمر الذي سعت وتسعى إليه قوى العدوان –هنا يدعو هذا المُـوَجِّـه وللاعتبارات الآنفة الذكر علاوةً على أنها تعتبر من أبرز المظاهر المجسِّدة للرؤية الخَاصَّة ببناء الدولة– لا بد من مضاعفة الجهود لتطوير الاقتصاد الوطني ووضع الخطط السليمة التي تتضمن موارد الدولة المتاحة وتوجيه نشاطها لتحقيق أفضل النتائج التي تعود على الصالح العام.
تركيزُ مؤسّساتِ الدولةِ وقياداتِها على استنهاضِ المجتمعِ وتعزيزِ عواملِ الصمودِ والسعيِّ نحوَ تحقيقِ التكامُلِ بينَ كافةِ هيئاتِ وأجهزةِ ومؤسّساتِ الدولةِ، وعلى كافةِ المستوياتِ في مواجهةِ العدوانِ وتعزيزِ التماسُكِ وتوعيةِ وتحصينِ المجتمعِ لمواجَهَةِ الأنشطةِ المُعاديةِ التي تستهدفُ القِيَمَ والمبادئَ الأَخْــلَاقيةَ والدينيةَ والوطنيّةَ.
هذا الأمرُ يتوقفُ إلى حَـدٍّ بعيدٍ على الجهاد الداخلي والذي يتمثل في قيام الدولة بتلبية رغبات الشعب وتحقيق أماني الجماهير ومطالبهم المُلِحَّة في تحقيق المشاريع الخدمية والنهوض بالاقتصاد الوطني والتنظيم الاجتماعي والعمراني وتوفير سبل الأمن والضرب بيد من حديد على يد العابثين والعمل على توفير حياة مستقرة للمواطنين وإقامة العدل الذي يعتبر بحق أَسَاسَ الحكم وتوفير العمل والتعليم كلما استطاعت لذلك سبيلاً، كذلك بجهادٍ خارجي يتمثل بنشاط الدولة السياسيّ ومكانتها الدولية وخبرة قادتها وساستها وتعاونهم المشترك لخدمة الأُمَّــة ورعاية مصالحها وما تقوم به من خدمات في المجالين الداخلي والخارجي يعمل على النهوض بالوطن وبناء دولة يمنية حديثة.
صحيفة المسيرة
عبدالقوي السباعي